معركة أبو طليح كانت سبباً أساسياً في فتح الخرطوم
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
بقلم/ محمود عثمان رزق
morizig@hotmail.com
أبو طليح هي منطقة أبار في وسط الصحراء الرابطة بين كورتي شمالاً والمتمة جنوباً، وعند تلك الآبار تستريح القوافل لتشرب الماء وتتزود به لمواصلة المشوار، وأبو طليح تبعد حوالي32 كم شمال شرق المتمة. وقد دارت تلك المعركة المفصلية في يوم السبت الموافق 17 يناير 1885م، وكان هدف المقاومة هو القضاء على الحملة الإستعمارية التي جاءت مسرعة لإنقاذ غردون وأعوانه من الطبقة الحاكمة من القتل وذلك بفك الحصار عن الخرطوم ومنع سقوطها في أيدي قوات المهدي.
وقد كانت معركة أبو طليح وما تبعها من متابعات قتالية في أبي رماد والعقدة معركة قصيرة في مجمل زمنها، ولكنها كانت خاطفة وعنيفة جداً ومدمرة كعاصفة "التورنيدو"، فلذلك أصابت الإنجليز بهلع وذعر شديد، وقد تكبد فيها العدو خسائر كبيرة في الأرواح وفقد فيها عدداً من كبار الضباط والقادة.
وفي هذا السياق قال روبن هيللاند في كتابه المسمى "حروب المهدية": "كان التقدم بطيئاً وبين الحين والآخر يتوقف السير (سير الحملة) لالتقاط جريحٍ سقط من هجوم الأنصار المختبئين بين الشجيرات والخيران. ولم يتقدم الصندوق كثيراً ليصعد تلاً صغيراً، عندها شاهد جنود المقدمة فجأة أمامهم عدداً هائلاً من الرايات وسنان الرماح تدل على جيش ضخم من الأنصار. ولابد من أن المفاجأة كانت رهيبة إذ صدرت صيحة عظيمة صحبتها دقات الطبول العالية شن على إثرها جموع الأنصار هجوماً عنيفاً شرسا تجاه الصندوق (العسكري) البريطاني المتحرك. استقبل الجنود البريطانيون الهجوم بوابل كثيف من نيران البنادق......الى قوله....وحصدت نيران البنادق والمدافع الرشاشة حصاداً رهيباً في صفوف الأنصارالمهاجمين ولكنها فشلت في إيقاف هجومهم" )روبن نيللاند ص. 158)
عنف هذه المعركة وتسابق الثوار نحو الموت وكأنه وليمة فخمة لقوم جوعى، تسبب في تأخير الحملة ومنعها من الوصول للخرطوم في الوقت المناسب مما اقنع الإنجليز بالانسحاب من السودان بعد أن تيقنوا تماماً من فشل مسعاهم، فهم لم ينتصروا في المعركة ولم يحققوا أهدافهم التي جاءوا من أجلها. وللحفاظ على ما تبقى من جنود وقادة الحملة قرر قائدهم الرجوع لمصر يجرجر معه خيبة الأمل والهزيمة مما جلب عليه لعنات الملكة فيكتوريا. وقد كان تأخر وصول الحملة للخرطوم سبباً أساسياً مكّن المهدي وأنصاره من فتحها وإحكام السيطرة عليها، ومن ثمّ إعادة تأسيس الدولة على نهج فكره الديني على أنقاض منهج الحكم التركي المصري الإنجليزي.
وصلت الأخبار للمهدي أن حملةً قوامها 14 ألف جندي من خيرة جنود البحرية والمشاة الإنجليز تناصرهم كتيبة كندية قد تحركت فعلاً نحو الخرطوم لإنقاذ غردون يقودها الجنرال الكفؤ الفذ اللورد/ قارنت وولسيلي Wolsely بمساعدة جنرالات كبار هم هربرت ستيوارت، إ.گ. برنابي، شارلس ويلسون ، وليم إيرل، وهنري براكنبري . وقد علم أيضاً أن الحملة مقسومة لقسمين، قِسماً من الحملة تحرك من كورتي -على إنحناءة النيل في أقصى الشمال- متجهة عن طريق الصحراء نحو المتمة بأرض الجعليين، ليلتقي بخمس سفن أعدها لهم غردون لنقلهم إلى الخرطوم بأسرع ما يمكن حيث كان ينتظرهم وأنفاسه تسابق الزمن بفارغ الصبر. أما القسم الثاني فقد سلك طريق النيل بقيادة الجنرال وليام إيرل ليستولي على بربر، ومن ثمّ يلتقي بطابور الصحراء في المتمة ويذهبا سوياً للخرطوم.
هنا استنفر المهدي الأمير الحاج علي ود سعد، والأمير عبد الله ود سعد، والأمير عبدالماجد خوجلي وأمرهم باستنفار الجعليين خاصة في كل من شندي والمتمة وبربر، كما أمرهم باستنفارأهل الشمال كافة لمقاومة الحملة، وأوكل إلى ود سعد قيادة المقاومة الشعبية وأمر تنظيمها. ولم يكتفى المهدي بالتوجيه وإصدار الأوامر فقط، بل قام على عجلٍ بارسل النور عنقره - وهو من فرسان الجعليين- ليمد قوات أهله في الشمال بالأسلحة النارية لمواجهة الحملة الإستعمارية. وفوق ذلك كله قام المهدي بسحب جزء من جنود كتيبة الراية الخضراء التي تتكون من عرب النيل الأبيض والتي على رأسها قبائل دغيم وكنانة وبني حسين واللحويين والشنخــاب تحت قيادة الفارس الشاب الأمير موسى ود حلو شقيق الأمير على ود حلو الذي ظل في مكانه محاصراً الخرطوم بما تبقى من الكتيبة الخضراء.
وبالفعل نفر الجعليون كافة يعاونهم عرب الحسانية والأحامدة لحشد المقاومة الشعبية وتوجهوا جميعاً نحو آبار أبو طليح لمنع العدو من الشرب منها والتزود من مائها، وكانت المقاومة الشعبية تحت قيادة الأمير الحاج علي ود سعد زعيم الجعليين الذي لحق به في أبو طليح القائد الشاب موسى ود حلو بجزء من جنود الكتيبة الخضراء قادم من الخرطوم، كما لحق به أيضاً الأمير عبد الماجد محمد خوجلي بكتيبة من بربر قوامها 8 الف مجاهد.
وهنا قام القائد العام ود سعد بتنظيم قوات المقاوِمة الشعبية تنظيمـاً جيداً، فجعل نفسه قائداً على كتيبة الخيـالة، وجعل الأميرين محمود العجمي وود دبورة على قيادة كتيبة الهجانة، وجعل الأمير موسي ود حلـو على كتيبة المشاة، وقد تمكن الشاب ود حلو لاحقاً من شق صف الجنود البريطانيين والدخول لوسط المربع القتالي حيث غرز رآية المهدية، وأخذ يصول ويجول بفرسه داخل الصندوق مكبراً ومهللاً ومهاجماً، فسبب ذلك المنظر هلعاً كبيراً لجنود الحملة فأصابه أحدهم بعيار ناري أرداه قتيلاً في وسط المربع.
وقد وُصفت هذه المعركة في التاريخ البريطاني بأنها كانت أكثر معارك المهدي شراسة ودموية وواحدة من أهم المعارك الإستراتيجية في تاريخ السودان، وقد استخدم فيها الإنجليز من فرط هلعهم وخوفهم من الهجوم الضخم المفاجيء الذي رأوه، نيراناً كثيفة حصدت ألف شهيدٍ في خلال نصف ساعة.
وبالرغم من كثافة النيران وتساقط الشهداء بكميات كبيرة وإرواء الأرض بالدماء، تمكن جيش الجعليين ومن معهم من قبائل الشمال وقبائل النيل الأبيض من الإلتحام بالعدو وجهاً لوجه عملاً بمقولة "عينك فيهو تركب فيهو"، فثارت وسطهم عجاجة التحفت بسوادِ دخانِ المدافع الكثيف فحجبت عنهم ضؤ الشمس، وكان في طيات ذلك الظلام يتقاتل الفريقان قتالاً وجودياً بالسلاح الناري والسيوف والسونكي والأيادي فسقط منهم في غضون دقائاق معدودات ألف شهيد من الثوار، وحوالي 368 من جنود العدو، و17 من ضباطه وقادته الكبار على رأسهم الجنرال هربرت إستيوارت، والكولونيل برنابي أهم أركان حرب اللورد ولسيلي قائد الحملة. والجدير بالذكر أن الفارس الذي قتل الجنرال استيوارت هو سعيد ود سعد ود سالم ود إدريس الأرباب الذي قام برثائه إبنه إدريس بقصيدة خالدة هي "قمر العشا الضواي..أبوى اللخصيم كواي" التي تغنى بها الراحل الفنان محمد الأمين عليه الرحمة. أما الجنرال برنابي فقتله الفارس بشير عجب الفيا من كنانة برمحٍ ثاقب.
للأسف قتل الإنجليز جرحى الحرب في جريمة إنسانية تخالف أعراف وأخلاق وقوانين الحروب في كل الأزمنة، فاستشهد بسبب ذلك من أهل الشمال والنيل الأبيض خلق كثير، ومن أهم القيادات التي استشهدت الأمير موسى ود حلو شقيق الأمير علي ود حلو، وعبدالله ود برجوب، وأحمد ود جفون، وإبراهيم عجب الفيا، علي ود بلال، بعشوم أحمد مهلة، إبراهيم ود السلوق وغيرهم.. وقد " أبلـى الجعليـون بلاءاً حسنـاً و أستشهد منهم عدد كبير ثبت منهم بالأسماء:1- بله علي بله 2- أحمد عبد الرازق توم 3- أحمد أبو شنقر 4- محمد أبو شنقر 5- عبد الرحمن معروف 6- عمر أب سوالف 7- الريح الخواض 8- محمد ود الأمير الحاج علي ود سعد 9- موسى أم برير 10- مصطفى الأغبش 11- محمد دفع الله" (راجع مقال ناصر شاهر محمود في قوقل)
وعلى الرغم من تكبد الحملة خسائر فادحة في الأرواح، الا انها واصلت بعناد شديد طريقها الى الخرطوم فوصلتها يوم الأربعاء عصراً، أي بعد يومين من مقتل غردون في يوم الإثنين الموافق 26 يناير 1885، فوجدت المهدي قد تمكن من فرض سيطرته التامة على المدينة، الأمر الذي دفع ولسيلي الى سحب قواته وإعادة حملته لمصر من حيث أتت. ولكن في طريق الإنسحاب والعودة الى مصر، واجهت الحملة معركة أخرى دارت في المتمة وأبو طليح بقيادة فارس الجعليين النورعنقرة، الذي تمكن جنوده من إغراق باخرة من بواخر العدو مما جعل القائد وليسلي يستعجل إخلاء المنطقة فجراً في إتجاه كورتي ومن ثمّ الى مصر عبر النيل والصحراء معاً. ثم واجهت الحملة المنسحبة معركة أخرى أبطالها هذه المرة هم المناصير والرباطاب في مرتفعات بالقرب من النيل تسمى بالكربكان، وقد وقعت المعركة بتاريخ 10 فبراير 1885م وسقط فيها من جنود العدو 60 قتيلاً على رأسهم قائدهم الجنرال وليام ايرل .أما المناصير والرباطاب فقد فقدوا كثيراً من الفرسان أهمهم زعيم الرباطاب الشهير البطل موسى ود أب حجل
هل حققت المعركة أهدافها؟
نعم، حققت معركة ابوطليح أهدافها بنسبة 100% بالرغم من سقوط عدد كبير من المقاتلين شهداء. وقد كانت أهداف المعركة تتلخص في الآتي:
1- منع الحملة من الوصول للخرطوم لفك الحصار وقد تحقق هذا الهدف وهو الهدلف الأساسي.
2- إرسال رسالة عملية للإنجليز والخديوي (حاكم مصر نيابة عن الدولة العثمانية) أن الحملة لو نجحت في فك الحصار وإنقاذ غردون فستظل المقاومة الشعبية شرسة في وجهكم كما علمتم وذقتم ورأيتهم.
3- إستنفار أهل الشمال للمقاومة مرة ثانية لحماية ظهر الكتائب المحاصرة للخرطوم ولمنع العدو من الدخول لبقية أهل السودان وأقاليمه من بوابته الشمالية من غير مقاومة تذكر، هذا وقد كانت مقاومة الشمال الأولى في عام 1821 عندما دفع محمد علي باشا بحيشه الحديث لاستعمار البلاد فهب في وجهه الشمال كافة بما يملك من عتاد ورجال، إلا أن السلاح الناري غلب السيوف والحراب والكثرة والشجاعة.
والحمد لله قد تحققت تلك الأهداف بدقة وثمن باهظ، ولو لا فضل الله تعالى أولاً ومن ثمّ رجال معركة أبو طليح الذين صدقوا في الدفاع عن وطنهم من أهل الشمال وأهل النيل الأبيض لظل الحكم الغردوني حيّا يُتوارث الى ما يشاء الله. فقد أكد كل من كتب في التاريخ السوداني أن معركة أبو طليح قد مكّنت المهدي من فتح الخرطوم في يوم الإثنين الموافق 26 يناير 1885.
ولو حق لنا المقارنة، فسنقول إنّ أبو طليح كانت في الأهمية العسكرية بمثابة معركة بدر الإسلامية من حيث أهميتها لباقي المعارك والأحداث والفتوحات التي تلتها، مع الفارق البديهي في الأجر والرجال والقيادة والهدف والمستوى بين المعركتين. ومع ذلك نقول: لو لا بدر لما فتحت مكة، ولو لا أبو طليح لما فتحت الخرطوم.
ماذا يعني التاريخ للحاضر والمستقبل؟
قال السيد الصادق المهدي -رحمة الله عليه- معلقاً على معركة أبوطليح في احتفال عام: "أشيد بهذه المناسبة المتعلقة بذكرى واقعة أبي طليح (17 يناير 1885م) والتي لا تنال الذكر الذي تستحقه لأهميتها الاستراتيجية ودورها في استقلال السودان الأول. " واردف قائلاً: " القراءة الرائجة لكثير من أدوار أبطالنا التاريخية مقروءة بصورة مسيئة إليهم"، وذكر الناس بدور الجعليين قائلاً: " قاد التصدي في الأول الأمير الشيخ علي ود سعد، في دليل كبير على دور الجعليين المهم في التصدي لحملة الإنقاذ. وكانت أوامر المهدي للشيخ ود سعد: قتل أكبر عدد من جمال الطابور الصحراوي لشل حركة نقلهم وتأخير الطابور وعرقلة دخوله الخرطوم دون الدخول في معارك حاسمة، منعهم أيضاً من احتلال المتمة وبربر"، ودعا سيادته لإعادة كتابة تاريخ السودان بما يحفط حقوق أبطاله ومجاهديه وقال عن أبوطليح: "كانت أبو طليح، مثل شيكان، صانعة مجد تاريخي عظيم". وفي الحقيقة إن أبو طليح كانت من ناحية إستراتيجية أهم من شيكان بمراحل بالرغم من أنها جاءت بعدها. وعليه، يكون تذكيرنا للناس عامة والشباب خاصة بهذه المعارك التاريخية له عدة أهداف هي:
- أولاً، إنصاف الرجال والقبائل والمناطق التي قاومت المستعمر في تلك المعركة، فلا يجوز التنكر لهم ولا نسيان فضلهم وهم السابقون الأولون، والحقيقة التاريخية تقول قد كان لهم نصيب الأسد في المقاومة الوطنية منذ عام 1821. ولهذا نقف لهم اجلالاً واحتراماً لبذلهم أرواحهم ودماءهم رخيصة من أجل حماية البلاد، ولولا تضحياتهم لكان الطريق سالكاً أمام حملة الانقاذ، ولتغير التأريخ وشكل إلى الأبد
- إن تاريخنا عموماً مليء بالبطولات العظيمة في شماله وشرقه ووسطه وغربه وجنوبه قديماً وحديثاً وعلينا إعادة تدوينه وتحليله ومن ثمّ تدريسه للأجيال جيل بعد جيل.
- ثانياً، إرسال رسالة لمن هو طامع فينا - إن كان قريباً أو بعيداً - أن تعقّل، فهذا الشبل من ذاك الأسد.
- ثالثاً، أن الأديان والأوطان تفدى بأغلي الأثمان، وإنّ الدين والوطن هما أغلى ما نملك.
- رابعاً، إنّ المحرك الأساسي للقتال بعنف والثبات الأسطوري هو مفهوم الجهاد بمعناه الديني لا غيره. فالأوطان هي حاضنة ذلك المفهوم، وذلك المفهوم هو حامي حمى الأوطان.
- خامساً، فليحرس كل قوم ثغرهم ويستميتوا فيه حتى لا يدخل العدو لوطنهم وإخوانهم من جهتهم.
- سادساً، تماسك الجبهة الداخلية يهزم أي عدو وأي سلاح وأي مؤامرة وأي تكتيك وهو أقصر الطرق للحفاظ على الأوطان وما فيها ومن فيها.
- يتكون الوطن من قبائل وأجناس والوان والسن ومناطق وأرزاق ومفاهيم مختلفة بارادة الله وحده كآية من آياته في الكون، ولن يستطيع أحد تغير لونه ولا قبيلته ولا لسانه ولا جنسه. ولذلك فليفخر الجميع بربهم الذي خلقهم إخواناً في أحسن تقويم، إنه نعم الرب ونعم الخالق المبدع المصور وليهتف الجميع: "رب واحد ووطن واحد".
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المقاومة الشعبیة النیل الأبیض أهل الشمال من جنود وقد کان قد کان ومن ثم
إقرأ أيضاً:
في أثر حسن أحمد إبراهيم: حافظ خير يزكي كتابي “الصراع بين المهدي والعلماء” لمنهاج تاريخ السودان بالمدرسة الثانوية
لا أعرف منة كمنة الزميل المؤرخ حسن أحمد إبراهيم، الذي غادرنا إلى الرحاب العلية في الأسبوع الماضي، عليّ مثل تزكيته كتابي "الصراع بين المهدي والعلماء" للاطلاع الحر للطلاب عن المهدية في منهاج تاريخ السودان الذي كان وضعه لطلاب المدرسة الثانوية. فلو لم تعرفني تلك التزكية بالشاعر حافظ خير لما تركت ولا أبقت. كنت خرجت من تحت أرض الشيوعيين مغاضباً في 1978 مغاضبة استدبرت فيها شغفاً شاباً بالتغيير والزمالة. كنت عند مفترق طرق. فجاءني عصر ذات يوم حافظ تلميذاً جميل القسمات في زيه المدرسي وعرفني بنفسه. ولم أصدق ما فاتحني به بعد السلام والحباب. أخرج من خريطته مقالاً منشوراً في جريدة "السياسة" (20 سبتمبر 1978) وعنوانه "من أجل إضافة نوعية لمنهج التاريخ بالمدارس الثانوية" اقترح فيه ذلك الطالب، الذي لم يقم من "حفيرته"، على وزارة التربية والتعليم أن تقرر كتابي "الصراع بين المهدي والعلماء"، الذي لقط خبره من تزكية حسن له في الكتاب المقرر واطلع عليه مستقلاً، في منهاج تاريخ السودان. ذهلت لمجرد عنوان المقال ناهيك بعد فراغي من قراءته بعد أن تركني. أخذتني قوة شغفه الذي ساقه لقراءة الكتاب مستقلاً بعد سماع خبره. وأخذتني جراءته ليجهر بالإصلاح متى توطدت نفسه على فكرة، وأخذتني قوة عارضته لا يجهر بالرأي فحسب، بل يتحسب للاعتراض عليه ويفحم المعترض. وكان عزاء لي في وحشة مفترق الطرق وقد تركت "ضميراً عن ميامننا" تتربص بي مخاطرة شقية أخرى. وجاءني حافظ لأرى أن منصة الاستثمار في الوطن وفي شبابه ليست حكراً لأحد. يا للطرق اللاحبة! واكتب منذ يوم حافظ لقناصين عند عمائر الوطن يمكن تلتقي به ويمكن لا.
من أجل اضافة نوعية لمنهج التاريخ بالمدارس الثانوية
الصراع بين المهدي والعلماء
للأستاذ عبد الله علي ابراهيم كتاب على شاكلة مختلفة
إذا اجاز لنا أن نعتبر كتابات الفراعنة ونقوشاتهم على جدران المعابد والاضرحة والمقابر الملكية أول كتاب يكتبه الانسان منذ ميلاد الإنسانية فانه ليس من باب الصدفة أن يكون أول كتاب يكتبه الانسان هو كتاب تاريخي محض لتدوين وتسجيل حياة الانسان بمناحيها المختلفة وجوانبها المتعددة.
إذ أن التاريخ كسجل شامل لجهود وتجارب إنسانية واسعة يكتسب أهميته من كون الحاضر والمستقبل يتكونان ويتشكلان من خلاله سواء كان ذلك بتشكيلهما امتداداً واعتماداً على معطيات الماضي، أو بتبنيهما خطاً جديداً يعتمد أساساً على مخالفته تلك المعطيات وذلك الأرث. وبهذه القناعة بأهمية دراسة التاريخ، وفهم حركته ودور ذلك في بناء الحاضر واستشراف المستقبل، أسعى في هذا المقال لتقديم مساهمة – اعتقد في أهميتها- لإثراء منهج في المدارس الثانوية (باعتبار أن الإضافة النوعية وليس الكمية هي المعنية بكلمة إثراء).
والاقتراح يتمثل في إضافة كتاب مختلف شكلاً ومضموناً وتناولاً إلى منهج التاريخ بالمدارس الثانوية. وقد وقع اختياري على كتاب للكاتب السوداني الفذ عبد الله على ابراهيم بعنوان (الصراع بين المهدي والعلماء) إذ أنه يستوفي مواصفات الاضافة في جانبين على قدر كبير من الأهمية والفاعلية:
1) الجانب الأول: هو أن الكتاب يساهم (نسبياً) في سد ثغرة كبيرة في منهج ووسائل مادة التاريخ بالمراحل الدراسية المختلفة والمرحلة الثانوية على وجه الخصوص. تلك الثغرة التي ألحظها في الغياب النسبي للدراسة التحليلية العملية للنصوص التاريخية عن الكتاب المدرسي. وفي الجانب الآخر تغول عنصر السرد والتسجيل على مساحات كبيرة من مخصصات تلك الدراسة لتصبح دراسة التاريخ بذلك مجرد عملية تلقينية تساهم في تكريس رؤية متخلفة لفهم التاريخ باعتباره مجرد أحداث ومعارك حربية وصراعات سياسية الخ دون روابط منطقية بين الأحداث، ودون أن يمتلك الدارس المتلقي أي رؤية تفسيرية لحركة التاريخ. كما أنها (هذه العملية التلقينية) تنأى عن الولوج إلى جوانب مهمة أخرى من حركة التاريخ غير المرئية. فتكون الصراعات المذهبية والعقائدية بتطوراتها وتحولاتها (مثلا) في إطار هذه الرؤية المتخلفة مجرد هوامش متباعدة لا أهمية قصوى لها. رغم أنها، وبمنطلق التاريخ نفسه، هي المحرك الاساسي لكل تلك الحوادث والمعارك والتحولات. ومؤكد أن تكريس مثل هذه الرؤية المتخلفة الركيكة وتأصيلها في أذهان الدارسين والطلاب بالمدارس له عواقب وخيمة في المستقبل القريب والبعيد.
2) الجانب الآخر: هو جانب لا يقل أهمية ذلك أن موضوع الكتاب المقترح نفسه موضوع جدير بالاهتمام والدراسة نسبة لقلة وندرة البحوث التاريخية التي تناولت الجوانب الفكرية والعقائدية في الثورة المهدية. وفي هذا الخصوص علق البروفسير مكي شبيكة في تصوير الكتاب المعني قائلا ً "هذا بحث مبتكر قام به الاستاذ عبد الله على إبراهيم. وقد وجدت فيه مسلكاً علمياً وتحليلياً بلغ درجة قصوى من الاتقان. إذ اقتصر الباحثون قبله في تاريخ المهدية على الناحية السياسية من سرد لتطور الاحداث وصراع المهدية مع الحكم التركي في السودان ومن أيدوه وعاونوه ولكنهم أهملوا، أو اشاروا اشارات عابرة للناحية العقائدية".
ونحن أذ نطرح هذا الاقتراح لتضمين كتاب الصراع بين المهدي والعلماء في المنهج التاريخي المدرسي نواجه باعتراضات (موضوعية) تفرضها وقائع الأحوال. وإحدى مهام هذا المقال تفسيرها بالموضوعية ذاتها وايجاد حلول حسنة تضمن لمثيريها الاقتناع. ومن هذه الاعتراضات:
· اعتراض أول: إن كتاب (تاريخ السودان الحديث 1821-1956) المقرر على الصف الثالث الثانوي يتناول في صفحة 71 في بابه الثاني (الثورة والدولة المهدية) نفس موضوع الكتاب وتحت عنوان (الصراع بين المهدي والعلماء). وفي مواجهة هذا الاعتراض نورد الحقائق والتعديلات الاتية:
يلخص مؤلف كتاب التاريخ السودان الحديث موضوع الصراع بين المهدي والعلماء في الصفحة المشار اليها في حوالي (ال 22 سطراً فقط). يبدو أنه استمد نقاطها من نفس الكتاب موضوع الاقتراح. فقد أشار في صفحتي 70و71 الى عدم توفر الدراسات "حتى وقت قريب" حول الصراع الفكري العنيف الذي أثارته المهدية في السودان والمتمثل في الصراع بين العلماء والمهدى حول أحقية الاخير بالمهدية. ثم قال: "وقد التفت المؤرخون الى الجانب الفكري في المهدي حديثاً فأعدوا دراسات فيه نذكر منها كتابيّ المؤرخين السودانيين الدكتور محمد ابراهيم أبو سليم "الحركة الفكرية في المهدية" أو الاستاذ عبد الله على إبراهيم "الصراع بين المهدي والعلماء" انتهى ص 70.
رغم ذلك فقد جاء تناول الكتاب المدرسي للموضوع مختصراً ومقتضباُ. وأظن أن ذلك كان متوقعاً لكتاب يحاول تغطية تاريخ السودان الحديث في الفترة ما بين 1821-1956. إلا أن هذا الاختصار أضر كثيرأ بطرح هذا الموضوع وتوضيح جوانب الصراع بصورة متوازنة على الأقل وتمثل ذلك في الآتي:
- طرحت (مساحة الاثنين وعشرين سطراً)، والتى حملت على عاتقها مهمة تبيان الصراع الهائل العميق الجذور بين المهدي والعلماء، طرحت رئيسين لمعارضة العلماء لمحمد أحمد علاوة على أنها أوردت داخلهما جزءاً من فتاويهم الدينية في أمر مهديته، وجزء آخر من دوافعهم لاصدار هذه الفتاوي ولمعارضته. بينما اكتفى بالاشارة الى أن المهدي أصدر منشورات مضادة حول أحقيته بالمهدية ولم يوضح فحواها ولا مضمونها، أو على الأقل النقاط الأساسية التى يعتمد عليها في دفوعاته هذه. وفي الملحق الخاص بالوثائق في الصفحات الأخيرة من الكتاب في صفحة 151-164 توجد وثيقتان فقط تختصان بأمر الدولة والثورة المهدية في الصفحات 35- 54، 155. الأولى بخصوص أسس البيعة، والثانية عن تخفيض نفقات الزواج. أي أنهما لا علاقة لهما بموضوع الصراع بين العلماء وكان الأجدر الاهتمام بتضمين الوثائق المتبادلة بين المهدي والعلماء خصوصاً وأنه اكتفى فقط بالإشارة (بعد طرح المنشورين وما حوياه) إلى أن المهدي قال في منشوراته المضادة تلك حول أحقيته بالمهدية " إنها رسالة كلفه بها الله والرسول واستبدلت القوانين الوضيعة باحكام القرآن ولذلك فإن كل من أنكر مهديته يعتبر كافراً) انتهى ص 71.
مؤكد أن طرح الموضوع في هذه المساحة وبهذا الايجاز المضر أسهم في عدم تبيان الصراع بصورة مرضية ومنطقية.
ب)رغم إشارة الكتاب إلى تاريخ رجال الحركة الصوفية في السودان في ص 71 المشار إليها بقوله إنهم كانوا يتمتعون بمكانة ممتازة ونفوذ قوى على الملوك و عامة الناس، ورغم إشارته الى سعى الحكومة التركية لاضعاف هذه الطبقة واهتمامه في الجانب الآخر بالعلماء الذين تلقوا تعليماً سنياً فقهياً، إلا ان ذلك لم يكن كافياً لتوضيح أن الصراع بين المهدي والعلماء السنيين الفقهيين كان في جوانبه يمثل صراعاً قديماً تليداً في الفكر الإسلامي بين الفكر السني التقليدي (والذي غالباً ما ترعاه أحهزة الدولة ودواوينها) وبين حركة فكرية وأخرى غير رسمية، شيعية كانت أم صوفية. ومثل هذه الحركة غالباً ما تنشأ بمعزل عن هيكل الدولة (راجع مقدمة كتاب عبد الله على إبراهيم في المعني)
ولو أن نقطة كهذه وضحت في الكتاب لأصبح من السهل لدارسي التاريخ في المدارس الثانوية استيعاب أصول أشكال الصراع المطروحة على الساحة السياسية منذ الاستقلال وحتى الان على طول تاريخ السودان الحديث والذي تمثل فيه هذه النقطة حجر زاوية هام نسبة لجذورها الضاربة في اعماق الفكر الاسلامي والثقافة الاسلامية في السودان.
ولعله من الإنصاف ان نشير، بعد تفنيد الاعتراض الأول، إلى التنبيه الذي قدمه مؤلف الكتاب عن ضرورة الاطلاع على الدراسات العلمية الجيدة التى أٌعدت مؤخرا في مختلف الموضوعات فقال "وقد حاولت أن أضمن هذا الكتاب بعض النتائج لتلك الدراسات القيمة غير أنه لا بد للدارسين لتاريخ السودان الحديث أن يطلعوا عليها حتى تعم الفائدة) المقدمة صفحة 3
**اعتراض ثان: ويتناول هذا الاعتراض إمكانية استيعاب الكتاب المقترح في المنهج الحالي:
أ) اولا هل يتناسب الكتاب مع سن طلاب المدارس الثانوية وما تفرضه هذه من مقدرات طبيعية على الفهم والاستيعاب؟ وفي هذا يجب توضيح الآتي:
يقع بحث الاستاذ عبد الله على ابراهيم في حوالي 46 صفحة مضافاً اليها ورقتين ملحقتين بمادة البحث التي تطرح من خلال ثلاثة فصول قصيرة ومقدمة مهمة توضح خطة البحث واتجاهه. يحدد الفصل الأول جذور طائفة العلماء في السودان ويتحدث الثاني عن العلماء والنشاط المعادي للثورة المهدية. وفي الثالث يستعرض المناظرة الفكرية بقطبيها (المهدي والعلماء). وبهذه الطريقة فان البحث كما أشار كاتبه لا يستوعب امتداد الصراع بين المهدي والعلماء بعد انتصار الثورة، ولا رفع المهدي للمذاهب الاربعة ورفضه لكل الاتجاهات الصوفية الأخرى. كما أنه تجنب تناول موقف العلماء البعيدين عن جهاز طائفة العلماء الحكومي الا ما اضطره في توضيح أثر المنابع الثقافية إزاء تصور (المهدي) ومنهاج الكشف الصوفي. ومن هذا يتضح أن الكتاب بهذه المحدودية يمكن أن يكون مادة سهلة الاستيعاب ومفيدة حتى في رفع درجة الفهم ومقدرات الاستنباط والتحليل لطالب المرحلة الثانوية ودون أن يكون ذلك عبئاً ثقيلاً على مستواه ومقدراته الطبيعية.
ب) إضافة هذا الكتاب ووضعه بين كتب التاريخ الأخرى في جدولة المنهج: هل يكون كتاباً اختيارياً مع بقية الكتب، أم يكون مادة تدرس في الصف الثاني مثلاً ولا تضمن داخل امتحانات الشهادة السودانية؟
مؤكد ان أي اتجاه لوضعه ككتاب اختياري مع أي من الكتابين المقررين على طلاب الشهادة السودانية (تاريخ العالم العربي وتاريخ السودان الحديث) غير موضوعي إذ أن الكتابين يتناولان موضوعات عديدة وطويلة. فالاول يدرس تاريخ الوطن العربي من جوانب متعددة، والآخر يدرس تطورات الاحداث في السودان منذ الغزو التركي المصري 1821م وحتى استقلال السودان 1956م. ولكن ماذا عن ال Additional history))؟ من الممكن أن نتعامل معه ككتاب إضافي تماماً كما نفعل مع مادة الرياضيات الاضافية (Additional Math). بهذه الطريقة نضمن ربط طالب الشهادة السودانية بإسلوب الدراسة في الجامعات والمعاهد العليا كإعداد البحوث وطرح الدراسات العلمية الجادة ...الخ
ختاماً أرجو أن يكون هذا الاقتراح مدخلاً مناسباً لإثراء المكتبة التعليمية المدرسية ومنهج التاريخ بالتحديد. وذلك عن طريق إضافة نوعية له حتى لا تطغى السمة السردية التلقينية في تدريس المناهج التعليمية التربوية. والكتاب المقترح رغم صدوره في نهاية الستينات الا أنه بحق يعتبر كتاب على شاكلة جديدة ومنحى مختلف قادر على إضافة الجديد والمفيد.
ibrahima@missouri.edu