من بدوي إلى رئيس.. محمد إدريس ديبي رئيس الفترة الانتقالية لتشاد
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
مصرًّا على تقديم نفسه بدويا لعبت صروف الدهر بمصيره، فأوصلته، عرضا، إلى رئاسة البلاد، يحاول محمد إدريس ديبي إتنو رئيس الفترة الانتقالية لتشاد، ونجل رئيسها السابق، أن يشد القارئ إلى مذكرات شاب أكمل للتو 3 سنوات من خلافة والده في إدارة البلاد قبل أن يبلغ الأربعين.
كتاب، وإن بدا في أغلبه سردا لما انقضى من أيام الكاتب وتجاربه، فإنه في صميم الأمر جزء حملة انتخابية إعلامية أطلقها مرشح طامح لمواصلة حكم تشاد، في انتخابات مايو/أيار المقبل، عبر صناديق الاقتراع.
يكلف عنوان الكتاب، "من بدوي إلى رئيس" (De bédouin à président)، محمد ديبي العودة إلى تلافيف ذاكرة ذلك الطفل الصغير الذي كانه قبل نحو 4 عقود. هكذا يستحضر كيف كان ينهض في الهزيع الأخير من الليل، مثل بقية أطفال ولاية بحر الغزال في الشمال، ليبدأ في سقي ورعي إبل جدته لأمه، بعيدا عن مقاعد الدراسة والتعليم. يلغي الكاتب والده من المشهد في بداية هذه المذكرات، قبل أن يفرض الأخير نفسه على مسار الأحداث، بعد إطاحته حليفه السابق حسين حبري، في هجوم على العاصمة نجامينا، سنة 1990.
يقدم محمد ديبي والده، بعد وصوله إلى الرئاسة واستدعائه إياه إثر ذلك إلى العاصمة نجامينا، منهمكا في إدارة البلاد، متابعا من كثب، ما أتاحت له الظروف ذلك، المسارات الدراسية لأبنائه، محتفيا بنجاحاتهم، وملبيا طموحاتهم في الالتحاق بما يريدون من معاهد وكليات. وولعا ببريق النياشين العسكرية، ربما، سار الولد على خطا الوالد، بادئا مساره العسكري سنة 2005 من الثانوية العسكرية التحضيرية لصيادي جبال الألب les chasseurs alpins في أكس إين بروفنس جنوبي فرنسا، قبل أن يئد ذلك المسار، مع اشتداد تهديد المتمردين لنظام والده، كما يقول. ومن مدرسة الضباط بنجامينا، يستأنف محمد ديبي مساره العسكري الذي سيضطر مرة أخرى إلى تعليقه، تحت وطأة هجمات المتمردين المتسللين من السودان، ليلتحق بالجبهات. هكذا تبدأ رحلة التماهي والارتباط بين مسار حياته الخاص ومصير بلاده وما تعج به من عنف وتمرد وثورات.
وخلف غبار المعارك الضارية في منطقة أدري، شرقي تشاد ضد المتمردين سنة 2007، ضرب القدر موعدا للولد مع الوالد، ليدشنا ما يريده الكاتب أن يكون علاقة جندي بقائده وعسكري بآخر، لا مكان فيها للشأن العائلي. ومكافأة له على أدائه الباهر في هذه المعارك والمواجهات، كما يقول، دشن الضابط الطالب رحلة الصعود الصاروخي في الجيش وحصد الرتب والنياشين، حتى قبل التخرج من مدرسة الضباط. مسار عسكري سيتكلل مطلع فبراير 2008، بخوض أكثر المعارك ضراوة في تاريخ التمرد العسكري بتشاد، إذ افتك محمد ديبي ووالده البلاد من تحالف متمرد أطبق سيطرته على العاصمة، وكان قاب قوسين من إحكام السيطرة على القصر الرئاسي. وتلك محطة أخرى استفاد منها محمد ديبي، ومن شاركه إياها من العسكريين، ترقيات ونياشين عسكرية إضافية، وانفرد هو بتعيين في الحرس الرئاسي وبتكوين عسكري في أوكرانيا. ترقيات متسارعة ومسار استثنائي مكن محمد ديبي من أن يصبح جنرالا سنة 2013، بعد نحو 7 سنوات من التحاقه بمدرسة الضباط.
وحين هدأت المعارك على جبهات تشاد، واستطاع جيشها، وفق ما يروى محمد ديبي، كسر شوكة المتمردين وتأكيد تفوقه، بعد إعادة تنظيمه واقتنائه للمصفحات، كانت مرتفعات إفوغاس شمالي مالي مسرحا لمغامرة عسكرية جديدة يزهو الكاتب بما كان لجيش بلاده فيها من نجاح في دحر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة أنصار الدين. وستسير معظم المعارك التي خاضها محمد ديبي لاحقا، كما يروي، من جبال تبستي شمالا إلى ضفة بحيرة تشاد، على هذا المنوال.
وكان على هذا الضابط السامي الذي عمل في الحرس الرئاسي وتولى قيادة الإدارة العامة لأمن مؤسسات الدولة أن يخوض معارك لا تقل شراسة ضد دسائس الخصوم وشراك المنافسين. وبالكاد نجا من وشاية حيكت ضده بتدبير انقلاب على والده، اضطرته، تبرئةً لنفسه، إلى تقديم استقالته سنة 2020. خطوة آتت أكلها وصداها في قلب والده الذي أعاده إلى نفس المنصب، بعد تبيُّن زيف تلك الادعاءات، كما يسرد محمد ديبي. وفي المواجهة تبدو زوجة الأب هند، وأخوها الجنرال في الجيش التشادي أبرزَ الخصوم وأشرسهم على الإطلاق.
صفاء مفقودولن يهنأ محمد ديبي طويلا بما استعاد من صفاء وود مع والده، إذ سيسقط الوالد في 19 أبريل/نيسان 2021 صريعا خلال تصديه لهجوم كاسح شنه متمردو حركة الوفاق شمالي البلاد. سقوط سيتأخر الإعلان عنه، حتى تشكيل مجلس عسكري انتقالي، يقول محمد ديبي إنه تولى رئاسته تحت إلحاح قادة الجيش وذويه المقربين، وبعد رفض رئيس الجمعية الوطنية تولي الرئاسة الانتقالية كما ينص الدستور.، وبمباركة رئيس المجلس الدستوري. وبين مقتل الوالد والإعلان عنه، سيواجه محمد ديبي، كما يسرد، مناورة أخيرة من زوج والده التي نصحته بأن يعلن أن وفاة إدريس ديبي حدثت جراء محاولة انقلابية، ولم تكن على جبهات القتال.
يحاجُّ محمد ديبي على طول صفحات الكتاب بأنه لم يطمح في يوم من الأيام إلى رئاسة تشاد، وبأنه قدم أخاه "كريما" ليرث كرسي والده بدلا منه، لكنه لا يخفي سخطه، في الآن ذاته، على من وقفوا في وجه هذا الاستخلاف. هكذا يصب جام غضبه على رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فكي، الذي يرى في موقفه المعارض لتوليه قيادة تشاد خيانة لعهد ورفقة جمعاه بوالده الذي يعود له الفضل في تولي فكي أسمى منصب في الاتحاد الأفريقي. ويفتح الكاتب نافذة على الصراعات والمنزلقات التي مرت بها الفترة الانتقالية، وعلى ما تعرض له من ضغوط من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الكونغولي، الرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي فيليكس تشيسيكيدي ليثنياه عن الترشح للانتخابات الرئاسية.
وتطفو على السطح بين الفينة والأخرى ملامح من الصراع العرقي في تشاد، إذ يبرر إقالة وزير خارجيته محمد شريف زين بعدم توازن الأخير في التعيينات الدبلوماسية، متهما إياه بمحاباة أبناء قوميته من التبو. كما تتجلى أيضا العلاقة المضطربة لمحمد ديبي مع بعض أركان حكمه ومع دول الجوار في اتهامه لمستشاره وزير الدولة السابق في حكومته، أبكر مناني، بالسعي لدى قائد ميليشيا الدعم السريع حميدتي لتدبير انقلاب عسكري ضده، وبفبركة الوزير السابق لما كشفته صحيفة ميديا بارت من إنفاق محمد ديبي مليون أورو لشراء بذلات في باريس.
ووفاءً للمأزق المتأتي عن عنونة هذا الكتاب، وشحذا لمعالم ضفتي المفارقة في العنوان، ما ينفك محمد ديبي يستنجد بأيام البساطة والطفولة ورعي الأنعام في ولاية بحر الغزال، ليطفئ بها وهج السلطة والنفوذ، ويخفف من حدة الاختلاف مع الغالبية العظمى من أطفال تشاد، وهو يسرد انتقاله من مدرسة مونتاني الفرنسية بنجامينا إلى إعدادية في باريس وأخرى في شاتيون سير مارن شمال شرق فرنسا، قبل أن يعود لتشاد ليكمل فيها الثانوية، وينطلق في مسار حصده الصاروخي للرتب العسكرية والوظائف في الجيش.
ولا تغيب عن سيرة الكاتب منعطفات درامية، مثل الشجار مع أستاذه في الثانوية بنجامينا، ولاحقا مع زوج عمه التي اتهمته بدفع زوجها إلى إدمان الخمرة، ليقرر هو الإقلاع عن السكر بشكل نهائي إثر ذلك. وذاك تراجع عن ممارسات المراهقة والشباب يسلط عليه محمد ديبي الضوء في أكثر من مناسبة، ليؤكد ما لحق بحياته من تحولات وما عرفت من منعطفات. تحولات رفدها بتوطيد علاقته مع القرآن التي دشنها على الجبهات، لتعمق من وعيه وممارساته الدينية، كما يقول.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات محمد دیبی قبل أن
إقرأ أيضاً:
جلسة بمنتدى الجزيرة.. هكذا تطبق العدالة الانتقالية بعد النزاعات
الدوحة – اتفق مشاركون في منتدى الجزيرة على أن العدالة الانتقالية في دول ما بعد النزاعات ليس لها نموذج يمكن تطبيقه في البلدان كافة، لكنها تتشارك في العديد من القيم والأسس التي يجب أن توضع في الاعتبار في مراحل تأسيس أنظمة جديدة للحكم لضمان عدم تكرار المآسي السابقة.
وخلال جلسة بمنتدى الجزيرة الـ16، الذي يختتم اليوم الأحد بالدوحة، بعنوان "العدالة الانتقالية في دول ما بعد الصراع.. فرص وتحديات"، أكد المشاركون على أهمية الإسراع في جبر الضحايا ومحاسبة المسؤولين، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار الانتهاكات السابقة، مشددين على أن أحد أهداف العدالة الانتقالية هو تحقيق المصالحة المجتمعية.
وحذر المشاركون في الجلسة من أن عدم توفر بنية تعمل على العفو والصفح بعد المحاسبة ستفضي إلى خلق مجتمع يعيش على أمل الانتقام والثأر والملاحقات، مشددين على ضرورة تأسيس ثقافة مجتمعية تقوم على أسس سليمة من النصح الديني والثقافي وتؤسس لمرحلة جديدة من الحياة المشتركة بين أبناء المجتمع الواحد.
ودعت الجلسة إلى ضرورة إنشاء هيئة مستقلة تضم شخصيات قضائية وحقوقية نزيهة ومن الضحايا لكي يكونوا شهودا على عملية تحقيق العدالة الاجتماعية، مشيرين إلى أن هذه العدالة مرهونة بتحقيق سيادة القانون والتوافق الوطني الواسع.
في هذا السياق، أكد وزير العدل وحقوق الإنسان الأسبق في المغرب محمد أوجار أن من أهم المحطات في العدالة الانتقالية هي ما يطلق عليها جلسات الاستماع العمومية، مستشهدا بالتجربة المغربية في ذلك حيث تم حينها تنظيم جلسات مؤثرة في كل الأقاليم والمدن والقرى، ونقلها مباشرة عبر التلفزيون.
إعلانووصف أوجار التجربة المغربية في تحقيق المصالحة والإنصاف بأنها من "أنجح التجارب في الوطن العربي وأفريقيا"، موضحا أن السؤال الذي تطرحه كل الشعوب بعد أي تغيير لنظامها أو بعد أي ثورة هو كيف يمكن معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتعويض الضحايا وجبر الضرر واتخاذ التدابير اللازمة لكي لا يتكرر ما حدث؟
وشدد على أنه لا يوجد نموذج واحد للعدالة الانتقالية، ولكنْ هناك قيم مشتركة وأفكار عامة تشترك فيها كل التجارب، فحينما انتقلت إسبانيا والبرتغال واليونان مثلا من أنظمة دكتاتورية شمولية إلى أنظمة ديمقراطية، قررت هذه الدول أن تطوي صفحة الماضي دون أن تقرأها ودون لجوء إلى العدالة الانتقالية أو إلى محاسبة المسؤولين.
وأكد أوجار أنه لا يمكن لعدالة انتقالية أن تنجح "إلا إذا قامت بها دولة قانون قوية، دولة تقف على المسافة نفسها من كل الفصائل ومن كل التيارات، ولها مشروعية انتخابية ومدعومة بتوافق وطني واسع، وأهم شيء لنجاح العدالة الانتقالية هو إشراك حركة الضحايا، فلا بد للضحايا أن يساهموا في إنجاح هذه العملية"، مشددا على أهمية إنشاء هيئة مستقلة تضم شخصيات قضائية حقوقية نزيهة ومن الضحايا لكي يكونوا شهودا على العملية.
عطور: إذا لم تتوافر الإرادة الوطنية لا يمكن إنجاح العدالة الانتقالية لتحقيق الإنصاف.#منتدى_الجزيرة16#aljazeera_forum16 pic.twitter.com/jBeH1OQCtJ
— Al Jazeera Forum – منتدى الجزيرة (@aljazeeraforum) February 16, 2025
إعادة بناءمن جانبه، أكد أستاذ القانون الدولي محمود برهان عطور أن قضية العدالة الانتقالية تؤسس لموضوع أعمق، لأن العدالة هاجس لكل إنسان وليس مفهوما جديدا، والعدالة في النظام الدولي تحتاج إلى إعادة بناء جديد من أجل التأسيس لمرحلة أكثر عدالة وإنصافا على المستوى الدولي.
وقال عطور إن الغياب المزمن للعدالة انعكس على منطقتنا العربية خلال ثورات الربيع العربي، حيث انطلقت الجماهير بسبب الطغيان وغياب العدالة، فكانت المطالبات بداية بالإصلاح، وعند تعذر الإصلاح وعدم إمكانية إصلاح الأنظمة القائمة تمّ التحول للمطالبة بتغيير هذه الأنظمة لتأسيس مرحلة جديدة يكون للشعب فيها الدور الأساسي في حماية حقوقه والدفاع عن حرياته وبناء مستقبل أفضل.
إعلانوأوضح أن التحديات أمام العدالة الانتقالية في سوريا أو غيرها من الدول كبيرة للغاية، منها تحديات سياسية وتشريعية وتنظيمية وثقافية، لأن أحد أهداف العدالة الانتقالية هو تحقيق المصالحة الاجتماعية.
من جهته، قال رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان محمد النسور إن الهدف من العدالة الانتقالية هو ضمان عدم تكرار المآسي، مشيرا إلى أن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا مثلا لم تبدأ خلال آخر 14 سنة، بل منذ 54 سنة من غياب احترام حقوق الإنسان.
وفيما يتعلق بإنشاء هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية، قال إنه ليس هناك نموذج واحد للعدالة الانتقالية يمكن تطبيقه على جميع الدول، فلكل دولة خصوصيتها، قائلا "خلال وجودي في دمشق مؤخرا لمست أن هناك سوء فهم لمصطلح العدالة الانتقالية، فالبعض يتحدث عن أنها عدالة مخففة بمعنى أنه يجب أن نتجاوز هذه المرحلة لأن هناك تحديات أخرى، وبالتالي فإن المحاسبة أو إقامة محاكمات يمكن أن يؤدي إلى بطء في التحرك نحو مستقبل سوريا".
وتابع "هذا الفهم خاطئ، فلابد من تطبيق العدالة الانتقالية بكافة عناصرها، وبالتالي يجب أن تكون هناك إرادة سياسية، وقد سمعنا تصريحات من الرئيس السوري أحمد الشرع والحكومة الانتقالية بهذا الاتجاه نحو العدالة الانتقالية"، داعيا إلى تأسيس هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية ترسل رسالة سياسية واضحة بأن مستقبل سوريا مستقبل يحترم حقوق الإنسان.
عبد الغني: نحتاج إلى هيئة حكم لإصدار إعلان دستوري يتضمن نصًّا لتأسيس هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية.#منتدى_الجزيرة16#aljazeera_forum16 pic.twitter.com/2k7fHbLpHM
— Al Jazeera Forum – منتدى الجزيرة (@aljazeeraforum) February 16, 2025
إعلان خصوصية سورياأما مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني فأكد أن لسوريا خصوصية كبيرة بسبب طول النزاع الذي استمر 14 سنة، وبسبب حجم الانتهاكات التي مورست خلال النزاع، حيث إن هناك 115 ألف مختف، فضلا عن أعداد هائلة من الضحايا وملايين اللاجئين.
وشدد عبد الغني على ضرورة أن يكون هناك تصور لهيئة الحكم في سوريا تشرف على إصدار إعلان دستوري يتضمن نصا لتأسيس هيئة العدالة الانتقالية، وعدم العودة لدستور 2012 أو دستور عام 1950.
وتابع أن هناك حاجة لتحقيق العدالة لضحايا النظام السابق حيث يوجد 13 مليون مشرد و7 ملايين نازح، فضلا عن مئات الآلاف من القتلى والسجناء، مؤكدا أن سوريا لا بد أن تنشئ محاكم خاصة تختص بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية و"هي غير موجودة حاليا في البلاد".