د. أحمد جمعة صديق
يتساءل البعض من أين يستمد (حمدوك) التفويضَ للعملِ باسمِ السودانِ؟
وهذا السؤال يُطرح في الغالب عقبَ كلَّ نجاحٍٍ، يحققه حمدوك مع شباب( تقدم وقحت). والسؤال في باطنه (حسدٌ) مغلّفٌ وكأننا قد غدونا - حقاً - شعباً لا يحب النجاح أياً كان ولا يحفل به. ما الذي جري لنا؟ أأغذيت أعيننا عن رؤية الجمال تماماً؟
في رأي أن الأمر لا يحتاج الى كبير جهدٍ لنقول أن (حمدوك) قد فوّضه الشعب السوداني منذ أن وقع عليه الاخيتار ليكون رئيساً لوزراء المرحلة الانتقالية.
ترك حمدوك مقعده الوثير وراتبه الدولاري، ليقوم بمهمة وطنية كان هو أهل لها، فقد تبوأ الرجل من المناصب والمواقع ما يعينه على ادارة هذا الموقع بكل جدارة. وقد شهدنا منذ مقدمه الميمون، أنّ بلادنا قد بدأت تتنفس الصعداء، بعد أن (انكتمت) أنفاسنا ثلث قرن من الزمان. كنا نتذيّل قائمةَ الاممِ في كل ما هو جميل ونتقدمها في كل قبيح.
في أول أيامهم، تحدث (حمدوك) ورجالُه عن الاقتصاد وقالو ان مشكلة الاقتصاد في السودان هو هيكل الاقتصاد نفسه، وبدأو فعلاً في العلاج. كان بعض العلاج قاسياً حين تجرأت حكومة حمدوك من رفع الدعم من بعض السلع... وهو اجراء؛ لولا ادراك الشعب نتائجه الايجابية على المدى البعيد، لكان كفيل بأن يطيح بالثورة في يوم واحد. ولكن الشعب بحسه الثوري أدرك أن العلاج في (الكي) رغم قساوته.
نعم كانت مشكلة الاقتصاد السودني ومازالت مشكلة في هيكل الاقتصاد نفسه، كصاحب الدار يريد أن يضع الدهان على الحائط أو يوصل الكهرباء أو يدق البلاط - ولا يمكن ان يستقيم الامر اذا كان السقف (يخر موية) طول الخريف. ما فعله حمدوك ووزراء ماليته ومستشاريه أن بدأوا في اصلاح السقف، حتي يتسنى الجلوس تحته بأمان والعمل في توصيل الكهرباء وعمل الدهانات وتركيب البلاط. وقد كانت النتائج ايجابية حيث ادرك المجتمع الدولي بمؤسساته المالية جدية هؤلاء الثوار ونضج تفكيرهم، فاعانهم بمؤتمر باريس الاول في مايو 2021 وكان اقل ما نتج عنه هو اعفاءُ قدرٍ كبيرٍ من ديون السودان، وجدولة بعضها ومنح السودان صلاحية وحق الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية لاصلاح الاقتصاد، بجلب رؤوس الاموال، والتي غادرت وامتنعت عن دخول للسودان منذ سياسة التأميم المشئومة التي انتهجها النميري بانقلابه المشئوم.
ثم تم رفع اسم السودان من القائمة السوداء، وتوقفت المضاربات في الدولار واستقر سعر الصرف وبدأ الجنيه السوداني يسترد عافيته، فانخفضت اسعار العقارات والسيارات وبعض السلع الاستهلاكية، وصار بنك السودان (يدلل) الدولار في سوق الله اكبر ولاي مشتري....
سادتي والله قد عبرنا،
لقد عبرنا تماماً،
اذ كان رئيس الوزراء في طريقه الى (اسبانيا) في نفس اسبوع الانقلاب البرهاني في 25-10- 2021 بشأن البنيىة الاساسية كلها في السودان، ثم الى (المانيا) ليوقع مع (سيمن) مشروع معالجة كهرباء السودان الى الأبد. ولكن الحقد والحسد ملأ قلوب الحاقدين والحاسدين فأوعزوا لبرهانهم بقطع الطريق بذلك الانقلاب، واطفئت شمعة من ملايين الشموع كانت تضئ النفق.
لقد كان مشروع الاتفاق الاطاري هو نهاية الصراع على السلطة وقد وقّع الدعم السريع على ما جاء في الاطاري وكنا على وشك أن نرى البرهان يوقع هو الآخر، ولكن أدرك الكيزان أن تلك هي النهاية الفعلية لمشروعهم في السودان فبادروا بالانقلاب. وها نحن نخوض في نتائجه الآن ونتجرع مرارته. وقد اتضح لنا الآن ان الأطراف الثلاث لا تملك برنامجاً للخروج من هذه النفق المظلم لانها فعلا لا تريد لهذه الحرب ان تنتهي:
- الكيزان
هؤلاء أدركوا تماماً أن نجمهم قد أفل اذ كانت تلك المليونيات التي تزيّن شوارع الخرطوم وكل مدن السودان؛ رفضٌ صريحٌ لمشروعهم الفاشل الذي امتد ثلاثين عاماً من القتل والنهب والسلب والعبث بالمال العام. وقد اشعلوا هذه الحرب ليس لاسترداد ملكهم العضود كما يظن البعض - اذ اصبح هذا من رابع المستحيلات ان يعودوا الى حكم هذا الشعب_ ولكنهم اشعلوها انتقاماً من هذا الشعب الذي اقتعلهم من جذورهم، وكان ظنهم أنها باقية في أيديهم الى الابد...
ما يفعله الكيزان الآن في ازكاء نار الحرب واطالتها، ليس الا انتقاماً من شعبٍ رفض وجودَهم تماماً وباي صورة من الصور. ولا يهمهم كم ستستمر هذه الحرب، لانهم بعيدون عنها، فقد أمنّوا انفسهم ووطنوا عوائلهم خارج مرمى النيران، كما فعل البرهان بعائلته في تركيا- خارج السودان، مع ما توافر لهم من ارصدة سابقة في البنوك في تلك الديار...فما عاد يهمهم شئ طالما البنات والاولاد في أمان، ومواصلين دراساتهم في أرقى المدارس والجامعات. وطالما السيدات المحترمات يتسّوقن بالفيزا والماستركارد في أرقى المعاضر بين دبي واسطنبول. نعم هم أشعلوا الحرب، بل وجلبوا لها الوقود باغراء الشباب بالتجنيد، وسلحوهم من غير تدريب، ليقاتلوا عنهم بالوكالة واطلقوا عليها حرب (الكرامة) افكاً وزوراً.
وستستمر الحرب – للأسف الشديد - لأن الجمرة لن تحرق الا (الواطيها) وهم لا يطأون جمراً الآن، بل أقدامهم وأرجلهم على النجيلة والحرير والماء. هم بعيدون عنها ويديرونها بالوكالة... يقول الناس ( لا للحرب) وهم ينادون (بالبل بس) وهم انفسهم لا يصيب هذا (البلل) من قريب أو بعيد.
أوليس هذا أمر يثير العجب أن يطالب انسان باستمرار الحرب؟
هل هذا أمر طبيعي؟
الا يخالف ذلك طبيعة الاشياء؟
- البرهان وزمرة الكهان من الرتب الرفيعة:
هؤلاء أيضاَ سيظلون يؤججوا نار الحرب الى يوم الدين لأن وقف أو ايقاف الحرب ليس من مصلحتهم، اذ سيستدعيهم الشعب للوقوف أمام قضاة التاريخ الذي لا يرحم- طال الزمن أو قصر – لابد انهم واقفون أمام قضاة التاريخ... وبقية القصة ملعوم للجميع... ان تقف الحرب عند هؤلاء الجنرالات (فكرة مخيفة)، تجعلهم يرتجفون هلعاً، لانها تعني ذهاب السلطة والثروة ثم المصير المحتوم بعد محاكمات عادلة ان شاء الله ك(نورنبيرج) يشهدها كل العالم. الجنرالات سيستمرون في استثمار هذه الحرب واطالة أمدها لانهم يرتعدون خوفاً من مواجهة المصير المحتوم.
- الدعم السريع:
هي مليشيا تقوم على النهب والسلب وان اقتضى الامر القتل بدم بارد وهذ ما حدث. اذن هي سلطة غير مؤهلة للحكم بحكم تكوينها الرعوي وبحكم انعدام كودارها من التنكوقراط. مشروع الدعامي ان يقاتل ليحصل على الغنائم ولذلك كل ما يفعلونه هو اجتياح المدن والقرى ونهب ما تيسر ثم الارتكاز هناك يوماً او يومين لمزيد من النهب، وبعدها والهروب الي غنيمة اخرى. الدعم السريع يسيطر عملياً على رقعة واسعة من الارض ولكن لا يستطيع ان يقيم حكومات أو ادارات في هذه الاراضى لسببين: الاول انهم لا يريدون الاقامة في هذه الاراضي لعدم القدرة على ادارتها وبعدم وجود كادر اداري وفني يقود العمل في هذه الاراضي المحتلة. والسبب الثاني كما قلنا ان هذه مجموعات بدوية ليس من طبيتعها الاستقرار اصلا بل القتل والغنيمة ثم الفرار. اذن ليس للدعم السريع اجندة تؤهلهم على المدى البعيد لاستمرار في هذه الحرب العبثية.
ويبقى الدور الاساسي للمدنيين الذين خرجوا وهتفوا للسلام والحرية والعدالة وطالبوا الجيش للثكنات والجنجويد ينحل. هم لا يملكون من أدوات القتال سوى هذه السلمية والتي هددت عرش الطغيان واسقطته الى الابد. فالشق المدني هو المنتصر في النهاية وهؤلاء لا يحتاجون الى تفويض. كل سوداني – يسعى لخير السودان – مفوض بالضرورة ان يتكلم ويطالب ويعمل لارساء الديموقرطية والحكومة المدنية. وما يقوم به حمدوك ورفاقه لا يحتاج لتفويض من أحد وليكن الأمر (تطوع) وهو كذلك، على حسابهم يحتسبونه عند الله في سبيل هذا السودان. هل في ذلك مانع؟؟
aahmedgumaa@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هذه الحرب فی هذه
إقرأ أيضاً:
يديعوت – نتنياهـو يشـقّ الشعب ويُضـعـف إسرائيل في زمـن الحــرب
#سواليف
أتت إقالة وزير الدفاع، يوآف غالانت، أمس، لتُفرّق الشعب وتُضعف دولة إسرائيل في وقت الحرب. وفي الواقع بات الإيرانيون، الذين وعدوا، الأسبوع الماضي، بردّ حاسم على الهجوم الإسرائيلي، يرون ما يحدث في إسرائيل، ويفهمون أن أملهم لم يتبدد بعد.
ليس هذا فحسب، بل إن النتيجة الفورية والأهم لإقالة غالانت هي أن بنيامين نتنياهو لم يعد فقط رئيس الوزراء، بل أصبح هو أيضاً وزير الدفاع. في الواقع، ومن الآن فصاعدا، سيكون نتنياهو صاحب الكلمة الفصل في مسائل الدفاع التكتيكية والنظامية والاستراتيجية. صحيح أن وزير الدفاع، إسرائيل كاتس، الذي تم تعيينه وزيراً للدفاع، قد حلّ محل غالانت، لكنه لا يشكل سلطة أمنية أمام مَن هم فوقه، أي نتنياهو، ولا أمام مرؤوسيه، أي كبار ضباط الجيش الإسرائيلي والجيش بأكمله.
يمكن أن نفهم، من خلال ملاحظة سلوك كاتس السياسي، أن دوره لن يعدو كونه منفّذاً لأوامر نتنياهو، وأنه لن يؤدي أكثر من دور مشرف ينوب عنه في متابعة المنظومة الأمنية، وخاصة كبار ضباطها: رئيس هيئة الأركان، هرتسي هليفي، ورئيس “الشاباك”، رونين بار، ورئيس “الموساد”، ديفيد برنياع، الذين لا يتفقون دائماً مع نتنياهو، وخصوصاً في القضايا المتعلقة بالأسرى وإدارة الحرب في غزة.
تنتشر الشائعات في جهاز الأمن منذ عدة أيام، وخاصة التكهنات، بشأن إمكانية استقالة كلٍّ من رئيس هيئة الأركان ورئيس “الشاباك”، اللذين يخضعان مباشرة لإمرة نتنياهو، بسبب الخلاف بشأن ضرورة وقف القتال في غزة، من أجل إطلاق سراح الأسرى، لكنني أشك في حدوث ذلك. فهرتسي هليفي وبار، وكذلك برنياع، يعتقدون أنهم إذا استقالوا، الآن، فإنهم سيتسببون بمزيد من الضرر لإدارة الحرب وأمن إسرائيل، وأنهم بذلك لن يتمكنوا من خدمة الشعب. لذلك، وعلى الرغم من أن غالانت عمل إلى حد كبير كما لو كان بذلة واقية تحمي رئيس هيئة الأركان ورئيس “الشاباك” ورئيس “الموساد”، فهؤلاء سيتعلمون، ويعرفون كيف يتأقلمون مع الوضع الجديد، إذ إن جميع رؤساء المنظومة الأمنية، بمن فيهم هرتسي هليفي والجنرالات في رئاسة هيئة الأركان، يُدارون مباشرةً من نتنياهو.
مقالات ذات صلة أمستردام.. جنود إسرائيليون يهتفون لإبادة أطفال غزة والجيش يصدر أوامر بحظر سفرهم إلى هولندا (فيديو) 2024/11/08من المتوقع ألّا يؤثر الأمر في الجيش مباشرةً، لكنه قد يؤدي إلى أن يجرب الضباط الكبار، ممن لديهم آراء تختلف عن تلك التي لدى رئيس هيئة الأركان، هرتسي هليفي، حظوظهم لدى رئيس الوزراء ووزرائه، وهو ما قد يقوّض الانضباط في الجيش الإسرائيلي. الجيش بطبيعته قادر على التكيف، ويعرف كيف يتلقى الأوامر، بشرط أن تكون قانونية. لذلك، إذا كان هناك زلزال متوقع، فسيصيب بشكل رئيسي طبقة رؤساء هيئة الأركان، أي رئيس هيئة الأركان، وربما بعض الرؤساء الضباط الذين يبدؤون الآن باتخاذ مواقف.
إلى جانب تأثير وجود غالانت في المنظومة الأمنية فإن وجوده في وزارة الدفاع بثّ أيضاً في نفوس الشعب إحساساً بالاستقرار والقيادة المهنية والخبيرة. عندما وافق غالانت، كوزير دفاع، على العمليات، أو كرر زيارة الجبهات المختلفة، كان لذلك تأثير في توفير طمأنينة أمنية للجمهور المدني، باستثناء القطاع اليميني المتطرف الذي عارض غالانت وكرهه. كما أن الاستطلاعات التي أُجريت بين الجمهور، بما في ذلك بين العرب في إسرائيل، منحت غالانت وأداءه درجات عالية جداً، تفوق كثيراً ما حققه الوزراء الآخرون، بمن فيهم نتنياهو. وربما يكون هذا أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت نتنياهو يرغب في التخلص من غالانت: لم يتحمل نتنياهو قط الأشخاص الذين تفوقوا عليه، أو كانوا خلفاء محتملين له. في الواقع، كان دائماً يطرد مثل هؤلاء الأشخاص، أو يرسلهم إلى مناصب مرموقة، لكن مناصب لا تسمح لهم بتهديد موقعه كرئيس حكومة.
أسباب الإقالة
هناك أربعة أسباب فورية وواضحة لإقالة غالانت: معارضته قانون تمويل التهرب من الخدمة العسكرية (قانون الحضانات)، والخلافات بينه وبين نتنياهو، والانتخابات الأميركية، والفضائح التي يواجهها مكتب رئيس الوزراء.
السبب الأول، حسبما أسلفنا، هو معارضة وزير الدفاع غالانت لقانون التهرب من التجنيد، وقانون الحضانات، الذي يُعد في الواقع محوراً بديلاً لتثبيت قانون استثناء الحريديم من التجنيد في الجيش الإسرائيلي. كان نتنياهو يخاف من أنه إذا لم يُمرر، على الأقل، أحد هذين القانونين، فإن حاخامات الحريديم، برئاسة الحاخام أدمور غور، سينفذون تهديداتهم، وينسحبون من الائتلاف، بما يسمح بإجراء انتخابات مبكرة. رأى نتنياهو أنه من الضروري إزالة هذا التهديد، وإزاحة غالانت من طريقه – وهكذا تعيّن على غالانت الرحيل. وفي هذا السياق، يجب أن نتذكر أن غالانت أعطى، اليوم، أمراً للجيش بتجنيد 7000 من طلاب المدارس الدينية من الحريديم، وهو ما زاد في غضب وخوف الحريديم. وأدرك نتنياهو أن عليه حسم الأمر، لذا، تمت إقالة غالانت في المقام الأول للحفاظ على الائتلاف والحكومة برئاسة نتنياهو، ولا علاقة لذلك بإدارة الحرب.
يتمثل السبب الثاني، من ناحية الأهمية، في الخلافات القائمة بين نتنياهو وغالانت وكبار مسؤولي المنظومة الأمنية الآخرين بشأن قضية الأسرى الإسرائيليين والقتال في غزة. فعلاً، خلال هذا العام، برزت خلافات عديدة بين الطرفين، لكنها حُلّت بصورة أو بأُخرى. فعندما قرر رئيس الوزراء، على سبيل المثال، عدم شن هجوم على لبنان، بينما اقترح غالانت وهرتسي هليفي ذلك في 11 تشرين الأول، بعد أيام قليلة من “مذبحة” 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم يعتقد أيّ شخص في جهاز الأمن أن هذا القرار غير شرعي، ونابع من دوافع غير مهنية.
جرى الأمر نفسه عندما أجّل نتنياهو بدء المناورة البرية في قطاع غزة، ثم فيما يتعلق بدخول رفح. لقد كانت هناك خلافات كبيرة بين الأطراف، لكنها كانت مسائل خلافية انبثقت من الوضعين، المحلي والدولي، المعقّدين اللذين تجري الحرب في ظلهما. لكن فيما يتعلق بمسألة الرهائن، ظهرت خلافات جوهرية بين غالانت ورؤساء المنظومة الأمنية ونتنياهو. أهمها: أن نتنياهو غير مستعد لوقف الحرب في غزة وإطلاق سراح الرهائن، بينما يرى كلٌّ من غالانت، وهرتسي هليفي، ورئيس “الشاباك”، ورئيس “الموساد”، أنه في مقابل إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء، يمكن وقف الحرب وإنهاء ما يجب إنهاؤه في قطاع غزة في موعد لاحق.
لقد ساد إجماع في المنظومة الأمنية على أن الانتصار على “حماس” سيتحقق، عاجلاً أم آجلاً، لكن نتنياهو لا يقبل هذا الرأي، ويريد الاستمرار حتى النصر الكامل، عندما تستسلم “حماس”، ثم تطلق سراح الرهائن.. لكن هذا الموقف أثار ضده حنق جزء كبير من الشعب الداعم لعائلات المختطفين، وهو لا يرغب في أن يواصل غالانت الضرب في غزة.
يتمثل السبب الثالث الكامن خلف توقيت الإقالة التي كانت تلوح في الأجواء منذ فترة طويلة، في أثناء الانتخابات الأميركية، حسبما أسلفنا. فالاهتمام الشعبي الإسرائيلي، بحسب افتراض نتنياهو، سيجعل الإقالة أسلس، من دون أن تشتعل احتجاجات شعبية هائلة، مثلما جرى في المرة السابقة. لا يتعلق الأمر بانشغال الجمهور بالانتخابات الأميركية فحسب، بل أيضاً لأن الجمهور الذي خرج ليحتج في الشوارع، تضاءل حجمه على مدار العام الماضي خلال الحرب، ولأن جزءاً كبيراً منه يخدم في سلاح الاحتياط الآن، ولعل هذا ما يفسّر التوقيت. لكن كما رأينا في الساعات الأخيرة، فإن آمال نتنياهو بمرور خطوته من دون احتجاج جماهيري هائل قد تلاشت، إذ خرجت الجماهير إلى الشوارع للاحتجاج.
أمّا السبب الرابع، فهو قضية الوثائق السرية والقضية الإضافية التي كُشفت تحقيقاتها، اليوم، والتي تقع في إطار صلاحيات ديوان رئيس الوزراء، ونتنياهو متورط فيها، وإن لم يكن بصورة مباشرة. وإقالة غالانت تتسبب الآن بتحويل اهتمام الجمهور عن هذه القضايا التي تصدرت العناوين في الأيام الأخيرة.
آثار الإقالة على الحرب
علينا أن نعترف، بصدق، أن غالانت كان صدامياً في تعامُله مع رئيس الوزراء. لقد وجّه إليه كثيراً من الانتقادات، وتسبّب بإحراجه كثيراً، وتمرد على سلطته عدة مرات، وأحياناً، جرى ذلك علناً، وأحياناً أُخرى، خلف الكواليس – لكن الرجل أدى دوره كوزير دفاع بأمانة أمام الشعب الإسرائيلي، لقد قام بذلك بصورة مهنية، وبكثير من الذكاء العاطفي، ولهذا، نحن مدينون له بالشكر. ومن الآن فصاعداً، سنحتاج إلى التعود على حقيقة أن نتنياهو لم يعد رئيس الوزراء القوي فحسب، بل هو أيضاً وزير الدفاع.
بالمناسبة، هذه ليست المرة الأولى التي يقبض فيها رؤساء حكومات إسرائيليون، بدءاً من بن غوريون، على حقيبة الدفاع، إمّا رسمياً، أو حتى شكلياً. في حالة بن غوريون، كان الأمر ناجحاً، كما أن الأمر كان مرتبطاً بما حدث خلال حرب 1948. لكن بن غوريون كان يتمتع بثقة شعبية شبه كاملة، حتى في صفوف معارضيه السياسيين. أمّا نتنياهو فليس سراً القول، إن نصف الشعب لا يثق بقدراته الإدارية ودوافعه، ولا يمنحه الثقة.
أمّا فيما يتعلق بالتداعيات الدولية التي ستترتب على إقالة غالانت، فمن الواضح تماماً أن الأمر سيؤثر سلباً في الإدارة الأميركية، سواء تم انتخاب كامالا هاريس، أم دونالد ترامب، بشأن إدارة الحرب بالتنسيق مع الوصية علينا عسكرياً. السبب البسيط هو أن غالانت نجح في نسج علاقة وثيقة وجيدة مع “البنتاغون”، ومع القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم). وهذه الحقيقة، بالمناسبة، كانت واحدة من القضايا التي ضاعفت توتُّر العلاقات بين غالانت ونتنياهو. لقد كان رئيس الوزراء يعتقد، ببساطة، وعلى الأرجح هو محق، أن الأميركيين يتجاوزونه من خلال علاقتهم الوثيقة بغالانت وتواصلهم الحميم معه، ولذلك، على سبيل المثال، لم يسمح له بالسفر إلى الولايات المتحدة، كوسيلة لإجبار الرئيس جو بايدن على التواصل معه (مع نتنياهو)، حسبما يتذكر الجميع.
ستستمر إدارة بايدن في الحكم حتى 21 كانون الثاني، إلى أن يجري تنصيب الرئيس الجديد، من المرجح أن يؤثر ذلك سواء في المساعدات العسكرية التي سنتلقاها، أو في الجوانب السياسية لإدارة الحرب، بما في ذلك الخطة الخاصة باليوم التالي في غزة. وحتى لو تم انتخاب ترامب، فإن طريق نتنياهو لن تكون سهلة حقاً، لأن ترامب عبّر عن غضبه، علناً، عدة مرات، وربما حتى عن كراهيته لنتنياهو. لا شك في أن رئيس الوزراء يعتقد أنه يستطيع إصلاح علاقاته مع ترامب، وأنه يفضل، في كل الأحوال، حُكم ترامب المتقلب والذي يمكن التأثير فيه بسهولة، على حُكم كامالا هاريس رئيسة.
الخلاصة هي أن نتنياهو، كوزير دفاع، سيكون أقل قدرةً بكثير من غالانت على حماية مصالح دولة إسرائيل. وهذا ينطبق أيضاً على مصالح الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والأردن، ومصر، التي لا تخفي خلافاتها مع نتنياهو ومعارضتها له، وخاصة الخط السياسي الذي يقوده، والذي يعارض إقامة دولة فلسطينية. أمّا غالانت، من ناحية أُخرى، فقد يكون قد روّج نظاماً بديلاً من “حماس” في غزة – وهو أمر ضروري جداً لإنهاء الحرب. أمّا نتنياهو، فسيجلس على الجدار وينتظر من الأميركيين والإماراتيين والمصريين والأردنيين القيام بالعمل نيابةً عنه، حتى لو لم يدفع هذا قدماً بإنشاء دولة فلسطينية. وحتى إذا نجحت سياسة نتنياهو هذه، فإنها ستؤدي إلى إطالة أمد الحرب في غزة بشكل كبير، ومن المؤكد أنها لن تعزز فرص إطلاق سراح الرهائن.
أمّا بالنسبة إلى التخوف من قيام نتنياهو بإقالة رئيس هيئة الأركان ورئيس “الشاباك” فمن المحتمل ألاّ يقيلهما لأن الصدمة ستكون كبيرة جداً في هيكل إدارة الحرب، وفي ثقة الجمهور به. لن يجد وزير الدفاع نتنياهو، فعلياً، مصاعب في توجيه هذين الشخصين بناءً على إرادته، ومن المتوقع أن يستقيلا إذا ما افترضا أن فرص إعادة الرهائن تلاشت. لكن في نهاية المطاف، يمكن التقدير أن إقالة غالانت لن تساهم في تحقيق النصر الكامل في الحرب، لكنها ستؤدي إلى إطالتها.