تجريف المكان: اقتلاع المعنى من جوهر السياسة السودانية
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
غربة الروح
ثبت أن قوى السياسة "المؤدلجة" في السودان لا تقرأ التاريخ جيدًا، ولا تجتهد في استجلاء قيمة "المكان"، أو تراب الوطن، أو الأرض المكافئة للعرض في حِساباتها. لذلك، فإن عادة التخلص من الأفكار المدروسة جيدًا لمجرد أنها مختلفة أمر يُمارسُ بِخِفَّة عقلٍ وقِلَّة اتزانٍ، رغم أنه محفوفٌ بالمخاطر. ويظهر ذلك في "غربة الروح الوطنية"، وفي أي مسعى لا يساوي فيه "المكان" شرف الإنسان، ولا يُنظَرُ فيه للأرض بأنها مساوية للعرض، وتستوجب الضرورة وكل القيم الدفاع عنهما.
فالأرض هي العرض، ولا مغالاة في هذا المثال، لأننا لا نُشير فيه إلى قياس أحلامنا بسرعة الضوء في الفراغ، ولا نحاول إثبات إنجاز واحد مُشَرِّفٍ لحكومة انتخبناها، أو انتفضنا من أجلها لأننا لا نُريد حكم العسكر، وإنما خُضُوعًا لمنطق الدين والعقل والمنطق والعرف، الذي يحتم ذلك. غير أنه اتضح أن القوى السياسية "المؤدلجة"، التي لا تستصحب قيم الدين، ولا معاني المنطق، ولا أشراط العقل، ولا تستمسك بثوابت العرف، تتناحر عندما يقع الخلاف بين قياداتها على "المصالح"، ويحتدم الاقتتال بينهم حول "المطامع"، وغالبًا لا يستمعون لمواعظ التاريخ، ولا يستذكرون عبره.
يقول الأديب الأمريكي المعروف مارك توين "قد لا يعيد التاريخ نفسه، لكنه يغفو"، ونحن نريد له أن يصحو من غفوته هذه من دون إثقال كاهله بالرواية البديلة المقترحة لدولة 56، التي تُشير باستسهال الفاعلين السياسيين لتاريخ انعتاق المجتمع في السودان من ربقة الاستعمار البريطاني.
إذن، ما هي الآثار المترتبة على ما يمكن تسميته، مع ذلك، بوجهة نظر الحالمين لتخيل "المكان" و"الإنسان"؟ إذا كان "التخيل" لا يُشير في عُرف "الناشطين" إلى نوع معين من النشاط السياسي، يختلف بشكل قاطع عن أشكال التفكير الإيجابي؛ مثل الإيمان بالقيمة الأولى في الوجود، التي هي "الحياة"، والتي يزهقها المتمردون في الدولة والمجتمع بلا رحمة. ولذلك، فإن الحديث " الشاطح" عن "ديمقراطية" يجلبها قاتل ونَهَّاب ومغتصب، باعتباره القوة المسؤولة عن حمل دعاة "التغيير" إلى دست الحكم، هو مُكرٌ مُضَلِّلٌ، أو هو بالتأكيد خِداعٌ لا يحتاج إثبات الكذب فيه إلى دليل.
ولأننا نعيش الآن خارج دائرة "المكان"، الذي هو السودان في هذه الحالة، إلى جانب غياب العديد من العلامات "الزمنية" المعتادة لدينا على مدار العام؛ الإجازات، ومواسم الحصاد، وأعياد الميلاد، واحتفالات المولد النبوي الشريف، وغيرها من الفواصل، فإن الغياب يبدو وكأنه لا ينتهي أبدًا.
غير أنه يُظْهِرُ أيضًا أن الأشهر القليلة الماضية قد مرت في ضبابية التحولات الخطرة في حياة البلاد والعباد، حيث جرى تجريف المكان، وتخريب الوجدان. فصام الناس عن التعبير عن وجعهم، وكان 15 أبريل هو نفسه رمضان، الذي حال عليه الحول، وكان هو نفسه شهر الثورة الثانية والثالثة؛ بعد أكتوبر الأولى. وكان حصاد الثلاث ثورات هشيمًا ذرته رياح العجز وضغائن الخلاف، ليكمل التمرد على الدولة والمجتمع حصاد "الفجيعة" باعتداء على كل الحرمات.
ومثلما أوضحت روث أوغدن، أستاذة علم النفس في جامعة ليفربول البريطانية، بقولها: "لقد دخلنا في روتين من الرتابة ولم نفعل أيًا من الأشياء، التي نفعلها عادة لمساعدتنا في تحديد الفترة الزمنية لدينا"؛ أهي عسكرية تسقط، أو انتقالية تفشل، أم ديمقراطية طائفية تتأبط كل عناصر الضعف والتخلف؟ وليس هناك إجابة أبلغ من وقع الحال الراهن، الذي يقتتل لإعادة إنتاج نفسه.
لذلك، فإن محاولة الحصول على أكبر عدد ممكن من التجارب الجديدة؛ حتى الصغيرة منها، هي إحدى الطرق، التي يمكننا من خلالها استعادة بعض السيطرة على واقعنا، وإيقاف الشعور بالوقت وكأنه يمر بسرعة كبيرة. لذلك، علينا الاحتفاظ بـ"مذكرات" خاصة كوسيلة لتعزيز "الذكريات" في أذهاننا، مما سيساعد أيضًا على منع هذا الشعور بعدمية الوقت، وكأنه فترة ضائعة لا محالة.
أمنيات مُجْهضةلقد رغبنا في أن ينتهي عام 2023 وأحداثه الكارثية في أقرب وقت ممكن، ولكن سيكون من الجيد أيضًا أن ننظر إلى الوراء؛ إلى ما وقع فيه من مآسٍ، ونتذكرها لشيء آخر غير دورة الأخبار القاتمة، التي ظلت ترهق أعصابنا بلا هوادة. ويعد تبني مبدأ التجديد، الذي يحمله كل انتصار على إرادة الشر، أحد الطرق لتحقيق ذلك؛ وإذا لم يكن هناك شيء آخر نُفاخر به، فسيكون لدينا شيء مختلف للحديث عنه في مكالمة الانتصار التالية. ولكن، قبل ذلك وبعده، سيظل يطاردنا السؤال الحارق: لماذا حدثت الحرب في السودان؟
قد يبدو ذلك سؤالًا صعبًا بقدر ما هو مُحرج، لأنه مما لا شك فيه، أن العديد من العوامل متورطة في صناعتها. فحصاد ألسنة السياسيين، الذين هددوا بها كرافعة لهم إلى مقاعد سلطة لا تؤهلهم إليها غيرها، مبذولة بأكثف من زعيق الشعارات، التي تقف هي الأخرى شاهدة عليهم.
ومن المؤكد أن أحد الحجج المهمة، التي تبارز بها المتصارعون، هي أن القوى السياسية المتنافرة كانت ضد الاستقرار، لأنها ركنت إلى "مشروعية الثورة" بدلًا من "مشروعية الانتخاب" لشعارات الإقصاء بدلًا من أن تضع أسسًا للإجماع الوطني، وألَّبَت الشارع على الدولة بمؤسساتها وأنظمتها وقواتها النظامية، وأغفلت تمامًا "مشروعية الإنجاز"، وهي في الواقع قد استنت بذلك سنة سيئة، أعادت إلى الأذهان كل تجارب الانتقال المُضطربة.
وهناك تفسير آخر هو أن نظرية المؤامرة كانت منهجًا للجميع في تقدير العلاقة مع بعضهم البعض، وكانت للأوصاف، كما هو مطبق على الأسماء دلالات على التردد في توقيت البداية، وكامل الجهل بمقادير النهاية. وبذلك، تكون الحرب الآن هي نفسها الوثيقة، التي تصنع التاريخ، الذي إذا لم تحسم خروقاته بالمحاسبة الصارمة؛ بمقاربة ما قاد إليها، فلن يكون للسودان مستقبل مستقر وآمن.
وذلك لأن الذين لا يعرفون أنساق التاريخ محكوم عليهم بتكرار هذا المسار حتى يمروا بقسوة تجاربه، أو شيئًا من هذا القبيل، إذ يكون التلاوم لديهم، وعض الأصابع، مجرد وسم على أعراض النهايات. ويبدو هذا وكأنه حالة أخرى افترضنا فيها النزول عند غطرسة "الوقت"، عندما نعجز عن التحكم فيه، ونفشل في أن نبتدع طريقة معينة لعرض مشكلة ما "قديمة"، أو لا علاقة لها بمظالمنا "الحديثة"، فنرتكب الخطأ مرتين، أو ببساطة نقع في خطأ عدم أخذ العبرة من التاريخ؟
ولكن هناك، في اعتقادي، ما هو أكثر من ذلك في هذه المسألة المُؤرِّقَة لكل صاحب عقل يفكر، تتعلق بأصل هذا التفكير، وكيف تهيأت لجمهرة النشطاء أن يقفزوا على الحقيقة، ويمتطوا صهوة جواد هو أقرب للجن من إنسٍ هَذَّبَهُ انضباط منطق الوعي والبصيرة والنظام.
لكن يبدو أن ما نواجهه من عمى القلوب، التي هي في الصدور، أكثر خطرًا على الحاضر والمستقبل، لأن ما يحدث الآن يتعمد تجريف "المكان" و"الوجدان" ويسترخص قيمة الإنسان. فلعمري كيف يتبارى القتلة والنهابون والمغتصبون على تصوير أفعالهم والاحتفاء بها وكأنها انتصارات على ما تبقى لهم من إنسانية. إنها بلا أدنى شك، جاذبية "الفتنة" في حرب بلا أخلاق، التي تدفع الحشود السائمة بـ"عقلية القطيع" إلى ارتكاب الشائن من الأفعال باعتباره "غاية"، ويلعب ذلك دورًا في عدم الانضباط، الذي يؤذي صورة وجودنا المشترك؛ في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، أكثر مما نود أن نعترف به.
الأحوال والأهوالإننا نُدْرِكُ أنه في كثير من الأحيان، لا يتم دحض وجهات النظر السياسية القديمة بمنطق جديد، لأن الناس ببساطة يشعرون بالملل معها، ويريدون الخروج باتجاهات جديدة من المعرفة بأحوالهم، لا أهوالهم، أو ما تضطرب به ضمانات عقدهم الاجتماعي. لكن ما نشهده الآن يحتاج تفسيره إلى استعادة أسئلة البدايات؛ من نحن حقًا؟ وما قيمة الحياة، إذا كان القضاء عليها استراحة للاحتفال؟
وعلى العكس من ذلك، يمكن أن تعود وجهة النظر المهملة في مسرح العبث هذا للانبثاق من جديد، لأنها عندئذٍ قد تقرر وجهتنا، إذا بقي للناس طاقة عقل وقلب للتعاهد على أهداف جديدة. وشرط التأسيس، في هذه الأهداف الجديدة، أن تكون أكثر انسجامًا مع وجهة النظر المستجدة لدى غالب عقلاء السودانيين، المتواثقين على العيش معًا في "الزمان" و"المكان"، ولا يمكن إنكار أن التطورات، التي يفرزها منطق الواقع الحديث قد ساعدت في إحياء أحوال وأهوال سبقت، وتَرَسَّخَت "سوداوية" معالمها، في وعينا الجمعي. مِنْهَا ما ارتبط بـ"الجهادية" و"المراحيل" والجنجويد" وإرث حركات التمرد المسلحة في الجنوب والغرب والشرق، وغير ذلك من "مطبات" التحليق في أفق البناء الوطني.
ولسوء الحظ، لم نكن نعرف ما يكفي لنكون قادرين على أن نكون "على حق" بانتظام كافٍ، لنكون قادرين على الحكم على قصصنا الخاصة المُعَبِّرَة عن أفكارنا وأنفسنا، وكوننا أمَّة كُتِبَ عليها أن تعيش معًا. وكان على القوى السياسية والاجتماعية أن تتعامل مع هذه الحقيقة كنقطة البدء في تحديد الأهداف، والتأكيد عليها من خلال وصف وسائل تحقيقها كمحركات لتفعيل كيفية عمل "الأشياء" كممسكات للوحدة الوطنية، لا كمسلمات لاستمرار الحال كما هو عليه.
ولكن، ونظرًا لما ران على اجتماعنا من إحن الماضي والحاضر، علينا ألا ننسى ذلك كثيرًا ونحن نتجه إلى المستقبل، بل أن نُصِرُّ على حَفْرِه في وعينا، لأنه بينما يختطف الآخرون ما يظنونه الكلمة الفصل ليقولوا "أنتم تقومون فقط بالتخمينات والتطمينات"، كما لو أن الممارسة السياسية، التي لم تصمد أمام الفحص الوطني الدقيق، هي نفسها، والتي علينا التذكير مُجددًا بضرورة تجاوز نقائصها. ولذلك، فإن الأسئلة، التي طرحناها لأول مرة في فجر الاستقلال، ما تزال تنتظر الإجابة لتفسير لماذا تبدأ الحرب في السودان دائمًا قبل أن تستنفد الأطراف سبل الحل الأخرى.
في الختامقد يبدو هذا الحديث مُقلقًا لأصحاب "ربطات العنق" من الناشطين، الذين يجوبون العواصم مُبشرين ومنذرين؛ حتى بعد أن ثبت أنهم لم يحفظوا للبشرى عهدًا، ولم يخيبوا ظن من أنذروهم بعظائم الأمور. لكنهم، مع كل ذلك، يلهجون بالشعارات والتصريحات بما يشئ بأنها مجرد مقدمات لتفسير الوضع الإشكالي، الذي يكتم أنفاس السياسة السودانية الآن. ذلكم الوضع، الذي ظلت بعض متلازماته مصاحبة لأداء الطائفية السياسية، و"الجوالة" من الناشطين، وكل القوى السياسية "المؤدلجة"، طوال تاريخ الحقب الوطنية.
فمنذ العام 1956، وصاعدًا، قليلًا ما تم استدعاء الفكر، أو "الخيال" السياسي، لوصف وشرح أنواع معينة من التجارب الديمقراطية، أو الظواهر غير العادية للانقلابات العسكرية، أو تلك السلوكيات المحيرة للثورات الشعبية، التي تنتفض ضد حكم العسكر، ثم تستدعيهم لمساعدتها ومشاركتها. وقد حدث ذلك في أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وفي أبريل 2020، فكانت ثورات نصفها شعبي ونصفها الآخر انقلاب.
فقد ثبت أنه من الصعب للغاية تحديد ماهية "الخيال" السياسي للناشطين في هذه المعادلات المختلة، التي تحتفي بتكرار الأخطاء وكأنها انتصارات. وإذا كانت "ممارسة السياسة" و"الشعارات الثورية"، على طريقة الغوغاء، لا يشيران إلى نوع معين من النشاط العقلي، فليس من المستغرب أن نجد أنه كان من الصعب تحديد ما هو بالضبط المُراد في كل تجاربنا الانتقالية، وحتى أنظمتنا الديمقراطية، التي استُخْدِمَت في اختيار أعضائها آليات الانتخاب. وإذا كان خضوعنا لآليات "الانتخابات" يعبر جزئيًا عن تقييم من جانبنا للنشاط السياسي، فليس من المستغرب أن يتم التذرع به في محاولة تفسير هذه التجارب، أو الظواهر، حين نكون غير متأكدين من مسائل الحقيقة السياسية، أو الوجود المشترك في "الزمان" و"المكان"، فنقتلع المعنى من جوهر السياسة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات القوى السیاسیة فی السودان إذا کان فی هذه التی ت
إقرأ أيضاً:
دنابيع السياسة العربية.. من دنبوع اليمن إلى دنبوع فلسطين
محمد الجوهري
تصريحات الرئيس الفلسطيني المزعوم محمود عباس (أبو مازن) عن مجاهدي حماس في غزة، وألفاظه النابية بحقهم، لا تقدم جديداً سوى المزيد من السقوط الأخلاقي للسلطات العميلة التي تستمد شرعيتها من البيت الأبيض، الحليف الرئيسي للكيان الصهيوني. وهذه الظاهرة ليست وليدة اليوم، بل هي عُرف سياسي متفشٍّ في أغلب الجمهوريات العربية، حيث تبقى تلك الأنظمة خانعة كماً وكيفاً، مقابل بقائها في السلطة الوهمية، واستفادة أصحابها من بعض الامتيازات الخاصة، كالأرصدة الضخمة وممارسة الفساد بحق الشعوب دون حسيب أو رقيب.
ولم يعد خافياً أن عباس وأفراد عائلته يملكون مصالح مشتركة مع الاحتلال، وبسببها لا يزال في السلطة منذ أكثر من عشرين عاماً، حيث ترتبط هذه المصالح باستمرار خدماته للكيان الصهيوني. وينطبق هذا الوضع على أعضاء حكومته العميلة، المشاركين في قمع الشعب الفلسطيني، وتبرير كل إجرام إسرائيلي بحقه، كما هو الحال في غزة والضفة، حيث ينفذ الجيش الإسرائيلي عمليات قتل وخطف علني، بتواطؤ عباس وأزلامه.
في اليمن، كما في فلسطين، توجد حكومتان: إحداهما مرضيٌّ عنها دولياً وتحظى بدعم أمريكي، وأخرى منبوذة دولياً لكنها تستمد قوتها من الشارع اليمني. ومن البدهي أن تقف الأخيرة مع الشعب الفلسطيني في مظلوميته الكبرى، حيث لا ضغوطات غربية تمنعها من ذلك، بخلاف الأخرى التي يتمنى أعضاؤها أن يكون لهم موقف مشرف من غزة، لكن ذلك يتعارض مع مصدر شرعيتهم في البيت الأبيض، ما يفقدهم إياها بمجرد إعلان تضامنهم مع الشعب الفلسطيني.
وعلى هذا القياس تتشكل أغلب الحكومات العربية؛ فإذا أراد شعبٌ ما أن يسترد حريته، صُدم بالهيمنة الأمريكية التي بدورها تفرض عليه حكومة شكلية لا شرعية لها سوى من المجتمع الدولي، الذي تهيمن عليه الغطرسة الأمريكية. ولهذا، فإن ظاهرة “الدنابيع” هي الأكثر انتشاراً في عالمنا العربي.
وكلمة “دنبوع” -في الأصل- تشير إلى الفار عبد ربه منصور هادي، فهذا لقبه، وهو ليس أول رئيس شكلي في المنطقة، لكن غباءه الشديد فضح عمالته وتبعيته للسعودية وأسيادها الغربيين في أكثر من موقف، وأهمها تصريحه العفوي بشأن تفاجئه بالعدوان السعودي على بلاده، رغم أن الأخيرة زعمت أن عاصفة الحزم كانت بطلب منه. وله أيضاً تصريح سابق يكشف عبوديته لنظام عفاش، حين أكد أنه لم يستلم أي سلطة من سلفه سوى العلم الجمهوري.
مطلع العام 2022، اضطرت السعودية إلى استبدال الدنبوع بآخر لا يقل عنه عمالة للغرب، وهو المرتزق رشاد العليمي الذي لا يقل عنه ولاءً للخارج، إذ يطالب منذ عام ونصف بتدخل أمريكي لاحتلال بلاده بحجة حماية الملاحة الصهيونية في البحر الأحمر، في سقوطٍ أخلاقي لا نظير له في التاريخ اليمني الحديث أو القديم. فالعليمي لا يبالي بأي معايير أخلاقية، ولا يكترث لأي دوافع سوى عبوديته للمال، كما لا يحرص على تقديم أي صورة مشرفة له أمام المجتمع اليمني، إذ إن الشرف ليس من دوافعه هو وأمثاله في مجلس الثامنة الخونة الموالي للغرب والصهاينة.
وهكذا يتجلى المشهد العربي في صورته القاتمة: زعامات مستوردة، أنظمة مصطنعة، لا شرعية لها إلا بقدر خدمتها لمصالح الاستعمار الغربي، ولا قيمة لها لدى شعوبها إلا بمقدار ما تُمعن في قهرهم ونهبهم. وما محمود عباس سوى حلقة صغيرة في سلسلة طويلة من دنابيع السياسة العربية الذين ما إن تهب عليهم رياح التحرر حتى ينكشف عوارهم، ويسقط قناع الزيف عن وجوههم الباهتة.
ولم يكن عباس حالة شاذة؛ فقد سبقه ولحقه كثيرون، كأنور السادات، الذي رهن القرار المصري لواشنطن، ووقع اتفاقيات الاستسلام مع الصهاينة، ثم سُمّي عهده “عصر الانفتاح على الغرب” ولو على حساب كرامة مصر، وكذلك خلفه حسني مبارك، الذي جعل من مصر مخفراً كبيراً لحماية حدود الكيان الصهيوني في وجه المقاومة الفلسطينية، وبارك حصار غزة لسنوات طويلة.
وكذلك حال ملوك الخليج والأردن، فالشرعية هناك مطلقة للطغاة، وليس للشعب أي حق في الحديث عن حقوقه المصادرة، وأولها حق التعبير والتضامن مع الشعب الفلسطيني، وكل هؤلاء، وأمثالهم، يثبتون حقيقة أن الاحتلال العسكري ليس الشكل الوحيد للاستعمار، بل إن أخطر أشكاله هو الاحتلال السياسي الداخلي، عبر وكلاء صغار بلباس الزعماء.