منصور الصويم

في ذكرى مرور عام على حرب السودان المأسوية، استحضرت بشكل عفوي مقولة للروائي الطيب صالح، أطلقها قبل سنوات، إبان العشرية الأولى لحكم الإسلاميين (1989 -2000). تلك المقولة، دون نقد أو تمحيص دقيق، تحولت إلى “مانيفستو” إدانة يرفعه كل شخص في وجه إسلاميي السودان، متى ما دخل معهم في محاججة أو متى ما تداول الناس الخراب الذي ألحقوه بالسودان في فترة حكمهم الطويل الممتدة لأكثر من ثلاثين عاما.

طرح الطيب صالح سؤاله عنوانا لمقال نشره في عموده الشهير، “نحو أفق بعيد”، الذي كان يداوم على نشره في مجلة “المجلة” اللندنية (1991). وبغض النظر عن محتوى المقال وعن إمكان وضع إجابة شافية عن سؤال كهذا، اكتفى الناس – معارضو حكم الإنقاذ وأعداء الإسلاميين- فقط بترديد الجملة الإشهارية (من أين جاء هؤلاء؟)، والركون السهل إلى إخراج الكيزان (الإسلاميين) ومن شايعهم من أنصار النظام خارج حظيرة السودانيين الشرفاء أبناء البلد، الذين من المستحيل أن يأتوا بمثل هذه الأفعال. فهل هذا صحيح؟

الحرب الكبرى

قبل اندلاع حرب السودان الكبرى في الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023، شهد السودان مئات الحروب الداخلية وآلاف المعارك القبلية والجهوية. قتل أكثر من 300 ألف مواطن في حرب دارفور (2003 – 2018)، وقتل أكثر من مليون شخص في حرب الجنوب – أطول حروب قارة أفريقيا- التي انتهت بانفصال جزء كبير من السودان، فقدت البلاد على إثره موارد ضخمة. تكونت مئات الميليشيات والفصائل العسكرية المتمردة على الحكومة أو المساندة والمستولدة من الجيش الرسمي. لم تتوقف الحرب يوما في السودان منذ استقلاله في العام 1956، ولم يشارك الجيش الوطني منذ تلك اللحظة حتى الآن في أي حرب خارج حدود بلاده أو حتى دفاعا عن الحدود، بل أدار جميع حروبه العنيفة داخل البقعة المحصورة في ما يسمى بـ”أرض الوطن”.

اندلاع الحرب في الخرطوم – قبل عام من الآن – كان تتويجا منطقيا لكل تلك الحروب التي لم تكن تتوقف إلا لتندلع من جديد في دارفور غرب البلاد، وجبال النوبة في إقليم كردفان، وإقليم النيل الأزرق، وفي شرق السودان. أين يكمن الخطأ؟ ومن شكل تلك الجيوش التي لا حصر ولا عدد لها، ولأي هدف تشكلت في الأساس؟ من أوجد الجنرال حميدتي من العدم وصيّره أخطر قائد عسكري في قارة أفريقيا بأكملها؟ من أين حقا “تكوّن” هؤلاء؟ وجاؤوا؟

تركيب معقد

سيلحظ الناظر إلى التركيب الإثني لـ”شعب السودان”، ذلك العدد الكبير من القبائل والمجموعات السودانية المتنوعة والمختلفة من حيث التجذير الإثني والتقسيم الثقافي – اللغوي، وإلى حد ما الديني. يقطن السودان أكثر من 500 قبيلة تنتشر على امتداد رقعته الجغرافية الواسعة، وقد تشهد الولاية الواحدة من ولايات السودان الثماني عشرة تباينا تكوينيا كبيرا من حيث التوزيع السكاني، وربما نجد المثل الأكبر على هذا التباين والاختلاف في المجموع القبلي لإقليم دارفور، أكثر الإقاليم احتضانا للحروب القبلية وحروب الدولة. ففي دارفور، إلى جانب التقسيم الكبير الحاد (عرب وأفارقة)، سنجد داخل هاتين المجموعتين الكبريين تقسيمات قبلية أخرى أصغر داخل نطاق كل مجموعة منفردة، وهذه القبليات الصغرى تحمل في داخلها أيضا تناقضات واختلافات تضعها في حالة مواجهة دائمة مع نظيراتها، تنتفي وتضمحل حين المواجهة الكبرى (عرب ضد أفارقة). هذا الوضع المختل وغير المتحكَّم فيه في إقليم دارفور، سنجد أوضاعا مثيلة له في بقية الأقاليم السودانية مع اختلاف حدة المواجهة أو ركونها إلى سكون بركاني لفترات طويلة، مرشح للانفجار تحت أي لحظة. هذه البنية القبلية الصراعية ظلت على الدوام محفزا أول لإشعال فتيلة الحروب السودانية، وسنلحظ – بعد التحليل – أنها شكلت الثقل الرئيس في الحرب الدائرة حاليا.

في ورقته المهمة، “مقدمات في دراسة العقل السياسي السوداني”، يعرف الدكتور أحمد يعقوب القبيلة بأنها “تنظيم مغلق يستقبل الأفراد لكنه لا يقبل الخروج منهم، بما يعني أنها في نشأتها وتكوينها لا تستطيع أن تستوعب إلا شكلا واحدا ونوعا واحدا من الأعضاء”، فـ”قرارات القبيلة تمسّ الأفراد المنتمين إليها ولا تسري على أفراد خارج نطاقها الإثني”، والقبيلة، قبل تحكم الدولة، كانت تخضع كل شيء لنظام قوتها وحكمها الخاص، أما في وقتنا الحاضر فـ”لا يولد هذا الخيار (القوة) لديها إلا الحقد السياسي والعنف الذي يطال المؤسسات الدستورية والسياسية والأفراد في كثير من الأحيان”. ما الذي فعلته الدولة السودانية بالإرث القبلي العظيم بعد تحررها من سلطة الاستعمار؟

بدلا من تفكيك النظام القبلي في شكله التقليدي المغلق لصالح دولة المواطنة والحقوق المتساوية، عمدت الدولة السودانية منذ نشأتها الأولى إلى الحفاظ على هذا الإرث كما هو، وتعمّدت تطويقه وحصاره دوما بما تمتلكه من أدوات سيطرة (العنف، السلطة، الثروة)، واستخدمته على مر الحقب وسيلة تلاعب سياسي، بظنّ خلق حالة من الاستمرارية والديمومة لهذه الدولة المتضعضة تضمن لها بقاء أبديا.

هذا الاستخدام الخبيث للبنية القبلية، يتضح على نحو جليّ إذا حاولنا إلقاء نظرة فاحصة على بؤر الصراع المتجددة الالتهاب في أطراف السودان وهوامشه. الموارد قد تكون سببا رئيسا لحروب منطقة مثل دارفور، لكن العامل الحاسم في استمرار هذه الحروب كان ولا يزال يكمن في التناقض القبلي الذي يخلخل هذا الإقليم، وقد لعبت الدولة دورا رئيسا في تعميقه، بانحيازها في فترة من فترات النزاع إلى جهة ما على حساب جهة أخرى، وهذا في إطار التقسيم الأوسع لسكان الإقليم (عرب وأفارقة).

الدولة متواطئة مع القبيلة، فقد تمكنت من إخضاع الفرد داخل أطرها المغلقة، وتحولت محاولات التمرد على هذه الأطر ضربا من العبث. لذا سنلحظ، حين اشتعلت الحرب الأخيرة، أن الجميع دون استثناء نفضوا غلالة الوعي الرقيقة التي كانت تخفي تعصبهم وتكلسهم وتذكروا في حنين جارف مضارب القبيلة.

صورة المحارب

في الشمال النيلي يبدو للمراقب من الوهلة الأولى أن صوت القبيلة خافت وأن الدولة في شكلها الحضري الحديث هي الأكثر حضورا. لكن هذه رؤية ظاهرية مخادعة ساهم في وجودها خروج هذه المنطقة من دائرة النزاعات القبيلة العنيفة والتعايش المتماهي بين مجموعاتها السكانية المختلفة، وانتفاء عاملين رئيسين للصراع العنيف، أشرنا إليهما ونحن نتحدث عن إقليم دارفور. هذان العاملان هما التقسيم الإثني الكبير (عرب وأفارقة) وصراع الموارد الدائر بين المزارعين المستقرين والرعاة المتجولين في دارفور، بينما في هذه المنطقة – النهرية – استقر الجميع منذ أوقات طويلة، كما لا تشهد المنطقة بعكس دارفور تواترا أو تواصلا للهجرات السكانية داخليا أو من خارج الحدود، مثل حالة العرب البدو في دارفور.

هذه الاختلافات قد توحي ظاهريا بموت سلطة القبيلة شمالا عند النهر، لكن حين الاقتراب أكثر من ثقافة المنطقة والنظر بتمعن إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية ورؤيتها للآخر، سنكتشف أن الحس القبلي متجذر بالقوة ذاتها، تعكسه مرآة النظرة المتعالية تجاه الآخر البعيد (عرب وأفارقة، تمدن وريف، حضر وبدو)، كما تعكسه بشكل أعمق الثقافة المحلية التي تتبنى العنف مظهرا للتعريف وتأكيد الاختلاف عن الآخر المقهور والمهزوم.

مثلما عجزت  الدولة عن تغيير هذه الوضعية المختلة في إقليم دارفور والأقاليم المشابهة، أو تواطأت في إطالتها، نجدها فشلت هنا أيضا في كسر النموذج القبلي المستلف من التاريخ الغابر، الأمر الذي حول الفرد – متمدنا وبدويا، مستنيرا وجاهلا – إلى سجين داخل القوقعة القبلية المحكمة؛ شخص بقناع حضاري مخادع يخفي وراءه وحشا قبليا متحفزا في انتظار إشارة الحرب.

خطاب الكراهية

يمكننا استخدام “خطاب الكراهية” في مختلف مستوياته كمؤشر دال على “الحرب المختزنة” داخل “العقل السوداني” طوال سنوات ما بعد الاستقلال، وكمعرف واضح وجلي على التنافر والاستقطاب الحاد بين المجموعات السودانية المختلفة، وكناتج طبيعي لحالة “الانغلاق القبلي” العام الذي تتصف به الحالة السودانية في عمومها، دون اختلاف على مستوى الإبانة والإخفاء بحسب التموقع المكاني (حضري – بدوي). وربما أبرز المظاهر الأولية المولدة لـ”خطاب الكراهية” المغذي للحروب السودانية، والمنذر بتحول الحرب الحالية إلى حرب شاملة، هو ما يمكن رصده في الثقافة المحلية المخصصة لكل جماعة من المجموعات السودانية الكبيرة، وهنا سأتوقف عند مجموعتين هما المظهر الأبرز للنزاع الحالي. المجموعة الأولى هي مجموعة النيليين – الشماليين أو المجموعة التي تعرف بـ”قبائل الجعليين الكبرى”. هذه المجموعة، على الرغم من التنوع الداخلي الكبير الذي يسمها، حظيت بفترة استقرار طويلة في ظل الدولة الحديثة، بما يوحي أنها تمدنت وتحضرت تماما، مخلفة وراءها حروب التناحر القديمة في أضابير التاريخ البعيد (مملكة سنار، العنج، الفونج، التركية والمهدية)، لكن بالنظر إلى المحمول الثقافي لهذه المجموعة، سنجد أن العنف بصورته الأولية البدائية لا يزال كامنا ومهددا بـ”إفناء الآخر” ولو ثقافيا (شعريا وغنائيا ورمزيا)، كما يتمظهر في سلوكيات ضاربة في العمق المجتمعي مثل الضرب بالسياط أثناء الأعراس (البطان)، وفيه يحدث إيلام للجسد إلى درجة الإدماء لإظهار فروسية وشجاعة الفرد المنتمي إلى هذه المجموعة. تتميز هذه المجموعة ثقافيا أيضا بتراث شعري – غنائي موغل في الاعتداد بالنفس (القبيلة) والدعوة إلى القتال وتحدي الموت واستدعاء كل شروط الفروسية في شكلها المتوحش المتحدّي للآخر والرافض وجوده. في الجانب الآخر (المجموعة البدوية)، سنلحظ أنه من السهل رصد مظاهر العنف المبنية على الصوت القبلي الأوحد، الشجاع المتعالي على الآخر، الذي لا يعترف بصوتٍ خلافه. وبعكس المجموعة الأولى التي تحول العنف لديها إلى حالة ثقافية مجمدة تننظر لحظة الفقس، وجد العنف البدوي متنفسه في الحروب الكثيرة التي خاضتها هذه المجموعة في مناطق متعددة من السودان، بتحريض ودفع مباشرين من الدولة السودانية، التي لم ترَ في هذه المجموعة، بعكس الأولى، سوى أداة لمحاربة خصومها واللعب على تناقضات الحالة السودانية عامة.

أبرز مظاهر “خطاب الكراهية” الكامن والمتجدد لدى هذه المجموعة، نجده متجسدا في القالبين الشعري والغنائي لدى ما يعرف بـ”الحكامة” شاعرة الحماسة والمغنية الشعبية، و”الهداي” شاعر الحروب والمغني الشعبي، والاثنان يشتغلان بحساسية عالية في منطقة الفخر، والفروسية، وفداء النفس مقابل سلامة القبيلة ونسائها ومضاربها.

ما حدث بعد اندلاع الحرب الأخيرة، هو لجوء كل من طرفي النزاع في صورتيهما المجتمعية الأولية، إلى هذا الموروث الثقافي الجاهز، لتستخدمه كل مجموعة وفقا لخطاب كراهية يهدّد بتحويل هذه الحرب إلى حرب أهلية شاملة لا تقل فظاعة عن الحرب الرواندية (1990 -1994). فالدعوة إلى دولة “البحر والنهر”، مفصولة عن باقي السودان، والدعوة إلى القضاء على “دولة 56” – المقصود مواربة جهة النهر – والتهديد بغزو مدن بعينها شمالا، “الشريط النيلي”، والدعوة إلى القضاء على “عرب الشتات” غربا، ما هي في النهاية إلا مظاهر للمجتمع القبلي العدائي الذي يصف الحالة السودانية في مجملها.

كم لبثنا

تقول التقارير الرسمية للمنظمات الأممية إن حرب السودان الكبرى منذ اندلاعها في الخامس عشر من أبريل 2023، أدّت – بعد مرور عام كامل على اندلاعها – إلى مقتل أكثر من 15 ألف مواطن سوداني، وتسببت في أكبر عملية نزوح داخلي في العالم، فأكثر من 8 ملايين سوداني أصبحوا إما لاجئين أو نازحين، تحت ظل ظروف ضاغطة وغير محتملة.

كما تؤكد التقارير الأممية نفسها أن السودانيين داخل مناطق النزاع، إلى جانب حصارهم وقتلهم بالرصاص والقنابل، باتوا مهدّدين بالموت جوعا، فهناك أكثر من 25 مليون سوداني يواجهون خطر الجوع الحاد.

ما الذي يريده قادة الفصيلين المتقاتلين من السودان؟ ما الذي تسعى إليه الجهات الخارجية المتصارعة على جثة السودان؟

إذن، ليس “الكيزان” وحدهم، ولا القوات المسلحة السودانية وحدها، ولا قوات الدعم السريع وحدها، من تسبب في هذه الحرب المهلكة التي أعادت السودان قرونا إلى الوراء. تكمن المأساة في الكيان المسمّى الدولة، أو بالأحرى “الغولة السودانية” كما وصفها ثوار ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة.

 

هذا الكيان الشره، بكل طرائقه الخبيثة وارثة المستعمر، هو الذي أنتج كل هذا الخراب، وهو الذي ساهم في استمرار مؤسسة بائسة مثل “القبيلة” ورفعها لتكون أعلى أدواته في لعبة المخاتلة التي ظل يمارسها على مدار السنوات للسيطرة على الجميع، وقتل الجميع إن استدعى الأمر. نعم “دولة 56” ابنة المستعمر – بعيدا من ادعاءات الدعم السريع الكذوبة – هي تلك الجهة التي جاء منها كل هؤلاء، واحرقوا البلاد.

نقلا عن “المجلة”

 

 

الوسومالجيش السوداني الدعم السريع السودان الطيب صالح حرب السودان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الجيش السوداني الدعم السريع السودان الطيب صالح حرب السودان

إقرأ أيضاً:

المتأسلمون في السودان بين الأمس واليوم لم يتغير شيئا…!!

عزيزي القاري هذا المقال الذي بين يديك نُشر على نطاق واسع يوم الأحد ‏13 ديسمبر 2009‏م، بعنوان (المؤتمر الوطني.. تاريخ طويل من الكذب و نقض العهود)، وهو موجود الآن في الشبكة العنكبوتية، وفي كتابي (عباقرة الكذب) الصادر في اكتوبر 2011م، عندما نقرأ هذا المقال وما فيه من ملابسات لأحداث مرت في السابق، وأحداث تمر بنا حاليا يتأكد لنا جميعا أن القوم هم القوم لم يتغير فيهم شيئا بل العكس تماما تغيروا إلى الأسوأ من انحطاط إلى انحطاط..إلى المقال:
حالة الاحتقان التي تعيشها البلاد جعلتني أخرج عن محيط الأوضاع التي أعيش فيها هنا في الخليج العربي، مفكراً ومتأملاً في الطريقة التي تفكر بها العقلية الحاكمة في البلاد متجاوزاً حالة الاستغراب إلى حالة لا استطيع التعبير عنها في هذه اللحظة، لكنني تساءلت في نفسي لماذا يشقى الشعب السوداني كل هذه الشقاوة ويتعذب كل هذا العذاب في ظل حكومة (إسلامية) وتوجه (إسلامي)..؟.
للإمام محمد الغزالي رأي يقول أن الناس تشقى من طريقين:
غلبة الأهواء، وشيوع المظالم ...
وأي الأمرين وحده شر، فكيف إذا تظاهرا جميعاً على العالم كله في سواد مُضاعف.. !.
أن العالم قبل نزول القرآن كان ينوء تحت هذين الثقلين معاً.. !!.
الجهل بالحقائق العليا وقيام سدود كثيفة تصد عن الصراط المستقيم.
وطغيان غرائز الاستعلاء والأثرة والظلم، والخضوع، مما جعل الألوف المؤلفة من الناس تقضي أعمارها في هذه الدنيا كما تقضيها قطعان الحيوان التى تُركب حينا ، وتُؤكل حينا آخر ...!!.
أليس هذا هو حال الشعب السوداني..؟؟..ما قاله الامام الغزالي هو حقيقة ما نعاني منه في السودان حيث الطغيان والظلم والاستهتار بأرواح المواطنين، وأصبح الغالب الأعم من السودانيين في ذات حالة القطعان التي ذكرها الامام الغزالي.
مساء (الأربعاء 9 ديسمبر 2009) بثت قناة النيل الأزرق حلقة حوارية حول مظاهرة (الأثنين) التأريخية، أدارها الحلقة الأخ الطاهر حسن التوم عضو المؤتمر الوطني وأحد كوادره الإعلامية، وضمت الحلقة كبار صحافيي الحزب الحاكم الزميل سيف الدين البشير رئيس تحرير صحيفة (سودان سيتيزن) وراشد عبد الرحيم مستشار التحرير لصحيفة (الرأي العام) والأستاذ والصحفي والمحلل السياسي المُتمكن محمد لطيف، ومن الطرف الآخر كان الزميل الكاتب الصحفي والمحلل أيم سايمون والذي استطاع التفوق على ثلاثي الحزب الحاكم (سيف الدين البشير وراشد عبدالرحيم ومقدم البرنامج) من حيث الرد على التساؤلات بموضوعية وهدوء دون صراخ ودون تشنج، وكما أظهر تفوقاً في التطرق للأسباب التي أدت إلى انسداد الطريق أمام توافق الجميع في الوصول إلى تحوّل ديمقراطي يحُول دون انزلاق البلاد في حرب ضروس لا قدر الله ذلك، واتسمت مداخلاته بالمسؤولية والموضوعية، وكان واضحاً إلمامه بدقائق الأمور التي قد لا تبين بالنسبة للمواطن العادي.
هذا الحوار غير المتكافئ زاد من حالة تجاوز الاستغراب والدهشة التي ذكرتها آنفاً وقد أكد ثلاثي (المؤتمر الوطني) جميعاً من خلال مشاركتهم في هذه الجلسة الحوارية على الطريقة التي تفكر بها الثلة الحاكمة من خلال الصراخ ومقاطعة المتحدثين والاندفاع غير المؤسس على منطق تحديد هدف المشاركة في هذا الحوار، علاوة على حالة الغضب والهياج التي ارتسمت في مداخلاتهم التي كشفت للجميع أساليب الحكومة في تعاملها مع قضايا المواطنين ،الاستهتار والاستخفاف بعقول الناس خاصة في القضايا الملحة والمفصلية في تاريخ السودان.
الزميل الأستاذ محمد لطيف كعادته كان هادئاً واثقاً من كلامه عكس ثلاثي (المؤتمر الوطني)، إذ تساءل بذكاء شديد حول ما الذي جعل الحركة الشعبية تبتعد عن ميدان (التجمع الوطني الديمقراطي) عند التوقيع على اتفاقية السلام مع (المؤتمر الوطني) وقد كانت تمثل العمود الفقري في التجمع الوطني لكنها قبيل الاتفاقية في 2004م أبعدت نفسها عن هذا التجمع ودخلت في شراكة حقيقية مع (المؤتمر الوطني)، لكنها في 2009م رجعت مرة آخرى لحضن التجمع الوطني متمثلاً في ما عُرف بأحزاب (مؤتمر جوبا)..!.
مداخلة أفرزت عدداً من الإشارت الذكية التي تشير إلى أن (المؤتمر الوطني) برغم دهاقنته ومستشاريه وأباطرته ومراكز دراساته وإعلامه وإمكانياته الهائلة المادية واللوجستية والدبلوماسية والسياسية لم يستطع احتضان (الحركة الشعبية) واستيعابها بالشكل الذي يجعلها تقتنع بمصداقية برنامج السلام والعمل سويةً مع الحزب الحاكم لجعل الوحدة جاذبة حقيقة وليس مجازاً،وفشل الحزب الحاكم تماماً في جعل الحركة التي كانت (متمردة) تقف ضد كل ما يهدد وحدة السودان واقتصاده وثرواته، لكن العقلية الأمنية التي تسيطر على مقدرات البلاد لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب، وأن الاقلام المسمومة في الحزب لا يهمها ما يحدث للبلاد المهم أن تظل مصالحها الشخصية في مكانها ولا أحد يهددها، لهذا السبب وأسباب أخرى لم تجد الحركة الشعبية مفراً من أن ترجع للتجمع الوطني الديمقراطي في ثوبه الجديد (أحزاب مؤتمر جوبا) بعد أن سُدت أمامها كل الطرق مثلما سُدت أمام الحركات الدارفورية في الوصول لسلام مع النظام يجنب البلاد التقتيل والتشريد.
تاريخ طويل من نقض العهود..!.
واهم من يظن أن (الحركة الشعبية) وأحزاب المعارضة هم السبب فيما وصلت إليه البلاد من حالة غليان، لأن المنطق يقول أن سوابق الحزب الحاكم مع كل اتفاقيات السلام باءت بالفشل وتحضرني اتفاقية الخرطوم للسلام التي وقعتها الحكومة مع ثلاثي الحركة الشعبية آنذاك (د. رياك مشار- أروك طون أروك- كاربينو كوانين) المهم أن علاقتي الخاصة بالاخ د.مشار جعلتني في صورة أحداث الموقف العام من تنفيذ بنود الاتفاقية التي وقعها مع النظام آنذاك، وكانت علاقتي قد توطدت به قبل التوقيع على اتفاقية الخرطوم للسلام في 1997م عندما ذهبنا إليه في منطقة (بلقوق) شمال أعالي النيل مع وزير مالية أعالي النيل آنذاك هشام آدم مهدي والنقيب بالقيادة العامة آنذاك عصام عبدالله وشخصي الضعيف ومكثنا معه في بيته الخاص حوالي 48 ساعة بطلب من الفقيد أستاذنا وشيخنا مبارك قسم الله زايد عليه رحمه الله، واستمتعنا بالحديث مع د. مشار وقد تحدث لي شخصياً عن مسيرة حياته حتى دخوله جامعة الخرطوم والانضمام للحركة الشعبية لتحرير السودان، وعلاقته مع زعيمها الدكتور جون قرنق، كما حكى لي عن قصة موت زوجته البريطانية في أديس أبابا وعن الظروف النفسية الصعبة التي مر بها حيال رحيلها المُؤلم.
ومن تلك اللحظة أصبحت العلاقة بيننا قوية للغاية وكنت أزوره كثيراً في مقر إقامته بقصر الضيافة بشارع الجامعة، وبسبب هذه العلاقة كما ذكرت يضعني في الصورة، وفي إحدى المرات قال لي بأنه أخبر الرئيس عمر البشير بأن ما تم الاتفاق عليه في الاتفاقية لم يحدث فيه جديد..أي لم ينفذ أي من النقاط التي تم الاتفاق عليها، وذكر لي بأنه في كل شهر كان يكتب مذكرة للرئيس وكان يسلم منها نسخة للدكتور حسن الترابي، وأخرى للدكتور علي الحاج يُبين فيها بشكل واضح بأن اتفاقية الخرطوم للسلام لم يحدث فيها جديد وأن النقاط التي تم الاتفاق عليها (مكانك سر) ويذكرفيها بأنه مسؤول أمام قواعده الشعبية في منطقته بجنوب السودان.
أتذكر تماماً عندما كتب المذكرة رقم (12) قال لي بأنه سيغادر السودان بعد أيام قلائل لعدم جدوى تواجده في الخرطوم، وسلم حينها نُسخ عديدة من هذه المذكرة لأشخاص بارزين في الحركة (الاسلامية) ورئاسة الجمهورية، والحمدلله كل هؤلاء موجودون الآن، ويشهدون على ما ذكرت، وبالفعل سافر د. رياك مشار ولم تحرك الحكومة أنذاك أي ساكن وغادر مشار إلى الغابة مرة أخرى.
هذا يؤكد بأن المجموعة الحاكمة في البلاد لا توفي بالعهود ولا تحترم مواثيق، ولا ترعى أمانات والواقع الموجود حالياً يؤكد ما ذهبت إليه، عشرات من الاتفاقيات التي ضاعت الجهود فيها سدىً.. اتفاقية الخرطوم للسلام- اتفاقية أبوجا- اتفاقية فشودة- اتفاقية سلام السودان 2004م، وفي هذا المنحى يُحمد كثيراً للحركة الشعبية وعيها وفكرها المتقدم كونها كانت حركة متمردة وتعاملت مع أحداث الإثنين بحكمة وضبطت أعصابها وأعصاب جماهيرها عقب اعتقال أمينها العام الاستاذ باقان أموم، ولا أتصور كيف يكون الحال لو أن الحركة عادت لوسائلها القديمة في حربها مع النظام، وفي الوقت الذي استخدمت فيه (الحكومة) اسلوب عفى عليه الزمن بدلاً عن النزول لطاولة الحوار والاعتراف بخطئها في تقدير الأمور وما يتصل بالمماطلة في إجازة القوانين صاحبة المشكلة.
تساؤلات الأستاذ محمد لطيف
إن التساؤلات غير المباشرة للأستاذ محمد لطيف في الحلقة الحوارية بقناة (النيل الأزرق) في محلها تماماً.. بما يعني أن المؤتمر الوطني يعاني من مشاكل في داخله في فكره، وهياكله وطريقة تعامله مع قضايا الوطن وما يحدث داخل كواليسه، حتماً الحزب الحاكم يعاني من مشاكل بنيوية وفكرية وسياسية وقيادية معقدة، تجعله غير قادر على إدارة أمور البلاد، كما تجعله لا يميز بين الغث والسمين، وبين الأبيض والأسود، واستفهامات محمد لطيف تشير بوضوح شديد إلى أس المشكلة في السودان، فإذا كانت الحركة كشريك في الحكم تركت كل ما لديها من أفكار عدائية سابقة وأجندات، بل تركت تكتل الأحزاب متجاوزة كل مكاسب ذاتية، وبرغبة شديدة في تجاوز مخلفات الماضي، وصبرت على مؤامرات الشريك التي لا يختلف عليها المراقبون للأوضاع في البلاد.
حقيقة لم أستغرب هجوم ثلاثي (المؤتمر الوطني) على الزميل الأستاذ محمد لطيف كونه تساءل فقط ليس إلا..عن أسباب وصول القطيعة بين الشريكين إلى حد خروج الشارع بهذه القوة التي رأيناها على (اليوتيوب) وإشارته الخفية إلى مسؤولية حزب المؤتمر الوطني فيما وصلت إليه القطيعة بين الطرفين (الحزب الحاكم) و(الحركة الشعبية)، والذي يؤكد ذلك أن كل الاتفاقيات التي وقعها الحزب الحاكم مع الآخرين لم تحقق أهدافها، مثلاً اتفاقية أبوجا لم تحقق الأهداف والامنيات التي علقت عليها، وكذلك اتفاقية سلام الجنوب، واتفاقية الشرق لا زال فيها الكثير من الملفات العالقة والنظام الحاكم مع كل الأطراف يمارس المماطلة والتسويف، بل أحياناً الإستفزازات والتهديدات وتصل أحياناً أن يمارس الحزب الحاكم وقياداته مع الآخرين أساليب ليس لها أي علاقة بالاسلام، ولا برسول الاسلام ولا بالتقاليد البشرية المرعية في أدب الاختلاف.
الإخوة الثلاثة الذين شاركوا في الحلقة التلفزيونية بقناة النيل الأزرق في تلك الليلة تحدثوا بلسان الحزب الحاكم، ومثلت مشاركتهم عنوان كبير لمأساة راح ضحيتها الملايين من أبناء السودان وباعتبارهم أصحاب أقلام، وآراء تتأثر بها القيادات الحاكمة في البلاد وأرجو ألا يستغرب القارئ الكريم هذا الكلام فإن قاعدة الحكومة وحزبها تؤمن ايماناً شديداً بما يقوله كتابها ولذا نجد تأثير كتابات إسحق فضل الله والطيب مصطفى وعبدالرحمن الزومة على سلوك النظام والتشدُد في كل المواقف الداخلية منها والعالمية، وكان نتاج ذلك تصريحات رئيس النظام من شاكلة "فرنسا وامريكا تحت جزمتي" في ذات الوقت الذي يسافر فيه مستشاره د. مصطفى عثمان اسماعيل إلى أمريكا لتطبيع العلاقات، متناسياً أو جاهلاً بأن الشعب السوداني تختزن ذاكرته القريبة تصريحات رئيسه، بل يجهل هذا المستشار الذي يسافر في جولات مكوكية على حساب دمنا ولحمنا أن الولايات المتحدة الامريكية التي يتباحث معها بشأن تطبيع العلاقات ترصد كل إساءات نظامه التي قيلت في السر والعلن.

الشينة منكورة
إن عدم اعتراف (المؤتمر الوطني) بأخطائه أدى إلى وقوع كل الكوارث التي تعاني منها بلادنا الآن، واعتقد جازماً أن بنية النظام الفكرية والعقدية لا تتحمل أي ذكر للحقائق ولذا كانت قضية دارفور، ومن قبلها التجاوزات في الحرب على جنوب الوطن، والجرائم التي ارتكبها النظام في بورتسودان وفي كجبار وأمري من قتل للمدنيين العزل، فقط لأنهم تظاهروا مطالبين بحقوقهم التي كفلتها لهم كل الشرائع السماوية والدستورية البشرية، ومن باب أولى ألا يلتفتوا للتقاليد الأصيلة والمعروفة في السودان أن تقتل أشخاصاً عُزلا كما حدث في بورتسودان للمسيرة السلمية التي خرجت تحمل لافتات فقط لا غير لكنها جُوبهت بالرصاص الحي.
نعم (المؤتمر الوطني) يؤكد على أن الشينة منكورة لكنه يقابلها بعنف شديد غير مبرر مهما كانت الظروف التي تمر بها البلاد، فالجماعة الحاكمة في السودان لم تعتبر من كل التراث الاسلامي الذي كان بين يديها يوم أن كانت حركة دينية، كما لم يستفد من عبر الأنظمة التي اندثرت قريباً زمناً ومكاناً مثل النظام البعثي في العراق، حزب حاكم لا يمتلك أي مواهب ولا أي مقومات بقاء ..لا أخلاقية ولا وطنية ولا إنسانية، نظام حُكم لا يعرف حتى مصلحة نفسه وليس بعيداً عنا مشكلة الزميلة الصحافية لبنى حسين، بكل المقاييس دلت هذه الحادثة على أن الذين يحكمون البلاد ليس لهم أدنى روح تتحلى بالمسؤولية.
إن عقل (المؤتمر الوطني) دائماً في ثلاجة "اذا غضب غضب معه ألف سيف لايسألونه فيما غضب" كما شاهدنا في تلك الحلقة التلفزيونية، ونرجسيًا أكثر من المعقول فانظر كوارث العنف التي حدثت في الجنوب ودارفور وشرق السودان وحتى شمال البلاد في أمري وكجبار، تماماً كما كانت نرجسية عمر بن كلثوم:
ونشرب ان وردنا الماء صفواً ويشـرب غيـرنـا كــدراً وطيـنـا
اذا بـلــغ الـفـطـام بـنــا صـبي تـخـر لـــه الجـبـابـر ساجـديـنـا
و(المؤتمر الوطني) إذ يستخف بعقول الناس لا يدري أنه وصحافييهِ وجوقة إعلامه لا يعلمون أن هذا الشعب حصيف وقارئ من الدرجة الأولى، وإذا كانوا قد ضيقوا على الناس في معاشهم لكي يسكتوا ومن ثم يؤيدوا الحزب الحاكم مُكرهين فإن التعويل على مثل هؤلاء تعويل خاطئ، لأن العضوية المُكرهة في الحزب التي تريد أن تعيش في مأمن من الجوع ومسغبة الحاجة لا تقدم شيئاً مُفيداً للحزب لا سياسياً ولا فكرياً ولا حتى في حركة الشارع العام، واعتقد أن مسيرة الحزب الحاكم عولت على العضوية (المُكرهة) غير المقتنعة بأهداف الحزب الذي أصلاً ليس له هدف غير الجلوس على كرسي السلطة، لأن أصحاب المهارات الإبداعية أصلاً لا تروقهم مجتمعات آكلي السحت والقتلة والمنافقين.
إن حركة الحزب الحاكم في الساحة من تصريحات وإساءات للآخرين وأكاذيب ومؤامرات عصية على النقد، والويل لمن ينتقد لأجل البناء ولو كان نقداً حريرياً لان جلد سادة وزعماء الحزب الحاكم وشيوخه أنعم من أن يلامسه النقد الجميل والهادئ الذي يريد خروج البلاد من الحالة التي فيها.
بقناعة شديدة أقول أن القوم في الحزب الحاكم الذين يقودهم شخص مثل نافع علي نافع من المستحيل أن يكونوا قد قرأوا مقولة المفكر مالك بن نبي في كتابه (شروط النهضة) " مارسوا النقد لأنفسكم سيتغيّر واقعكم"، وأعتقد أن واقع الحال يغني عن أسباب عدم استفادة الحزب الحاكم من التراث الاسلامي لأنه ببساطة لم يستفد من تجربة الرئيس الأسبق جعفر نميري، و صدام حسين في العراق، فهل تراه اعتبر من تاريخ الدولة العباسية والدولة الأموية..؟.
هيئة علماء السُلطان..!.
هذه الهيئة التي لم يفتح الله عليها بفتاوى عندما أراقت الحكومة دماء أهلنا في دارفور بالطائرات القاذفة للهب وعندما دمرت البيوت وأحرقت الزرع والضرع تخرج علينا اليوم وبلا حياء تتحدث عن (القرآن الكريم) وتورد آياته، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الهيئة لم نسمع صوتها عندما قتلت قوات الأمن في بورتسودان مواطنين عزل كانوا في مسيرة سلمية مات فيها العشرات من المواطنين، هذه الهيئة قاتلها الله لم نعرف عنها شيئاً عندما ضربت قوات الأمن في منطقة أمري وكجبار المواطنين الذين هُجروا بالقوة القسرية ومات العشرات منهم.
هذه الهيئة برغم وجودها داخل كواليس ودهاليز الحزب الحاكم وتعرف كل التجاوزات المالية والإدارية إلا أنها لا تعتبر أن الاسلام يمنع أكل أموال الشعب بالباطل، بل إن أحد شيوخ الحزب الحاكم في إحدى الولايات قال أمام مجموعة من الناس "أن مال الحكومة نعتبره فيء".
هذه الهيئة تسد أذنيها بطين وعجين مما يدور في مكاتب ديوان الزكاة الإتحادي حول الأرقام المليارية التي دفعها الديوان لدعم (الطرق الصوفية ) كما قال أحد المسؤولين لمجموعة من الموظفين الغاضبين، لكن هيئة علماء السلطان تعتبر نفسها غير معنية إلا ببنطلون لبنى الحسين والتظاهرات السلمية للمعارضة وما شاكل ذلك خاصة في الأمور التي تخدم الحكومة، وهي بالتالي غير معنية بسرقات المال العام ولا تجاوزات البنوك المليارية ولا غيرها، لكنها تعرف تقرأ القرآن الكريم وتشتغل بمدارسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم..!!.
الغريب أن قادة الحزب الحاكم بعد كل المآسي التي ارتكبوها في البلاد والعباد لا زالوا يتحدثون على أنهم على حق وإن كل التيارات السياسية في السودان على باطل، تماماً مثل شخص قد حمل على جلده من الأوساخ أكواماً، يدخل مغطساً مليئاً بالماء ثم يخرج منه في الحال مُكتفياً بذلك، مدعياً أنه قد أصبح نظيفاً بتقريب الماء من بدنه رغم أنه لم يفقد من أوساخه شيئاً، حال طاغوت الشهوات في الحزب الحاكم فأصبحوا صُماً عُمياً بُكما لا يقدرون على رؤية الصور الحقيقية للأحداث، لذا كان من الطبيعي وبرغم الدماء العزيزة التي أريقت في مناطق كثيرة من البلاد إلا أن قادة الحزب الحاكم لا يرون أنهم فعلوا شيئاً يُغضب الناس عليهم..!!.

الإمام محمد الغزالي يقول:
إن تكليف القرآن أن يخلق من الطفولة العقلية رجولة ناضجة، أو من البله البيّن عبقرية نادرة شئ متعذر،هب رجلاً عملاقاً بادى الطول والعرض ذهب إلى خياط ماهر راق، ومعه ذراعان من القماش وقال له: فصّل لي من هاتين الذراعين ثوباً سابغاً.. !!.
ماذا عساه يصنع ذلك الخياط.. ؟.
هل المهارة مهما بلغت تستطيع أن تخلق من ثوب الصبي ثوباً لرجل بدين طويل.. ؟. إن القصر في الخصائص الفطرية والنقص في المواد الانسانية الأولى للتكوين الصحيح شئ يعز على العلاج،ونحن نُكلف الدين شططاً حين ننتظر من كتابه الكريم أن يصنع المستحيل، والمشكلة ليست فيما يصنعه الدين بذوى العاهات العقلية والروحية، وإنما المشكلة في حال الدين إذا حمله أولئك المُصابون التُعساء؟.
كيف يعرضونه مستقيماً هادياً وهو يخرج من أنفسهم كما يخرج الشعاع من زجاج محدب ملون، لا تكاد تبصر على ضوئه شيئا ؟؟.. إن الله عز وجل يقول لنبيه:
"وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون"..الانعام.
فالطوائف التي لديها صلاحية طبيعية للعلم هى التى تتبيّن، أما التى تفقد هذه الصلاحية إبتداءً فهيهات أن تتبيّن، وهيهات أن يكون أصحابها مُرشدين ..!.
في بعض الموازين التى يستغلها الباعة قد تميل إحدى الكفتين عن الأخرى ميلاً عنيفاً لخلل في محور الارتكاز، يقتضى علاجه أن تضع ثقلاً كبيراً في الكفة الشائلة حتى تتساوى مع زميلتها، هذا العلاج المؤقت قد تتغلب به فترة ما على الخلل الواقع بيد أن ذلك لا يعطى الميزان صلاحية تقيم العدل وتمنع الغش.
ونحن في عالم الأفكار والمشاعر قد نستطيع التغلب على الخلل الذهنى عند نفر من التلامذة أو نفر من العوام أما أن نجعل من أصحاب هذا الخلل موازين للقيم الروحية والتوجيهات الدنيوية والأخروية فهذا معناه إشاعة الغش وفرض البخس على الناس !!!.
وهذا ما حدث في بلادنا بفعل (المؤتمر الوطني)
**

عزيزي القارئ
ألم أقل لك أن هؤلاء الشرذمة لم يتعلموا شيئا..؟، من تاريخ كتابة المقال في ديسمبر 2009م، وحتى الآن في خواتيم العام 2024م نرى أن الجماعة راحوا بعيدا في تجاوزاتهم وفي تعنتهم ومكابرتهم، أبدا لم يخطر على بالهم أن أكف الملايين من السودانيين البسطاء تدعوا عليهم صباحا ومساءا، بأن ينتقم الله منهم وأن يريهم في الناس يوما أسودا كيوم عاد وثمود، لا أخالهم يعتبروا ولا يتعلموا من تجاربهم لأن الله خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، فما عادوا يبصروا مواقع اقدامهم.
إن الله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون..

khssen@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • المتأسلمون في السودان بين الأمس واليوم لم يتغير شيئا…!!
  • موهوزي …. بشار يوغندا
  • حاكم إقليم دارفور يصل العاصمة الروسية موسكو
  • عقوبات الاتحاد الأوروبي على عثمان عمليات وكرشوم: كوميديا سياسية في مسرح الأزمات السودانية
  • في زمن الحرب … المرأة السودانية تسعى جاهدة لصنع السلام وإنجاز العدالة والمساءلة
  • عقوبات أوروبية على 4 شخصيات سودانية “تهدد السلام والأمن”
  • صاحب تدوينة شهيرة بعد فوز صقور الجديان على منتخب الجنوب ورحل بعد أشهر قليلة من زواجه وهذه هي تفاصيل وفاته المفاجئة”…” من هو “دينق قوج” الذي بكى على موته أهل السودان قبل الجنوب
  • كيف ممكن تنتهي الحرب السودانية ؟؟؟
  • الزغاوة هم القوى الاجتماعية الوحيدة في دارفور التي رفضت الجنجويد وصارعتهم مرتين
  • تصعيد ميداني بين الجيش و الدعم السريع و تحشيد كبير حول الفاشر ومدني