من تلك الجهة جاء هؤلاء… وأحرقوا السودان
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
منصور الصويم
في ذكرى مرور عام على حرب السودان المأسوية، استحضرت بشكل عفوي مقولة للروائي الطيب صالح، أطلقها قبل سنوات، إبان العشرية الأولى لحكم الإسلاميين (1989 -2000). تلك المقولة، دون نقد أو تمحيص دقيق، تحولت إلى “مانيفستو” إدانة يرفعه كل شخص في وجه إسلاميي السودان، متى ما دخل معهم في محاججة أو متى ما تداول الناس الخراب الذي ألحقوه بالسودان في فترة حكمهم الطويل الممتدة لأكثر من ثلاثين عاما.
طرح الطيب صالح سؤاله عنوانا لمقال نشره في عموده الشهير، “نحو أفق بعيد”، الذي كان يداوم على نشره في مجلة “المجلة” اللندنية (1991). وبغض النظر عن محتوى المقال وعن إمكان وضع إجابة شافية عن سؤال كهذا، اكتفى الناس – معارضو حكم الإنقاذ وأعداء الإسلاميين- فقط بترديد الجملة الإشهارية (من أين جاء هؤلاء؟)، والركون السهل إلى إخراج الكيزان (الإسلاميين) ومن شايعهم من أنصار النظام خارج حظيرة السودانيين الشرفاء أبناء البلد، الذين من المستحيل أن يأتوا بمثل هذه الأفعال. فهل هذا صحيح؟
الحرب الكبرى
قبل اندلاع حرب السودان الكبرى في الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023، شهد السودان مئات الحروب الداخلية وآلاف المعارك القبلية والجهوية. قتل أكثر من 300 ألف مواطن في حرب دارفور (2003 – 2018)، وقتل أكثر من مليون شخص في حرب الجنوب – أطول حروب قارة أفريقيا- التي انتهت بانفصال جزء كبير من السودان، فقدت البلاد على إثره موارد ضخمة. تكونت مئات الميليشيات والفصائل العسكرية المتمردة على الحكومة أو المساندة والمستولدة من الجيش الرسمي. لم تتوقف الحرب يوما في السودان منذ استقلاله في العام 1956، ولم يشارك الجيش الوطني منذ تلك اللحظة حتى الآن في أي حرب خارج حدود بلاده أو حتى دفاعا عن الحدود، بل أدار جميع حروبه العنيفة داخل البقعة المحصورة في ما يسمى بـ”أرض الوطن”.
اندلاع الحرب في الخرطوم – قبل عام من الآن – كان تتويجا منطقيا لكل تلك الحروب التي لم تكن تتوقف إلا لتندلع من جديد في دارفور غرب البلاد، وجبال النوبة في إقليم كردفان، وإقليم النيل الأزرق، وفي شرق السودان. أين يكمن الخطأ؟ ومن شكل تلك الجيوش التي لا حصر ولا عدد لها، ولأي هدف تشكلت في الأساس؟ من أوجد الجنرال حميدتي من العدم وصيّره أخطر قائد عسكري في قارة أفريقيا بأكملها؟ من أين حقا “تكوّن” هؤلاء؟ وجاؤوا؟
تركيب معقد
سيلحظ الناظر إلى التركيب الإثني لـ”شعب السودان”، ذلك العدد الكبير من القبائل والمجموعات السودانية المتنوعة والمختلفة من حيث التجذير الإثني والتقسيم الثقافي – اللغوي، وإلى حد ما الديني. يقطن السودان أكثر من 500 قبيلة تنتشر على امتداد رقعته الجغرافية الواسعة، وقد تشهد الولاية الواحدة من ولايات السودان الثماني عشرة تباينا تكوينيا كبيرا من حيث التوزيع السكاني، وربما نجد المثل الأكبر على هذا التباين والاختلاف في المجموع القبلي لإقليم دارفور، أكثر الإقاليم احتضانا للحروب القبلية وحروب الدولة. ففي دارفور، إلى جانب التقسيم الكبير الحاد (عرب وأفارقة)، سنجد داخل هاتين المجموعتين الكبريين تقسيمات قبلية أخرى أصغر داخل نطاق كل مجموعة منفردة، وهذه القبليات الصغرى تحمل في داخلها أيضا تناقضات واختلافات تضعها في حالة مواجهة دائمة مع نظيراتها، تنتفي وتضمحل حين المواجهة الكبرى (عرب ضد أفارقة). هذا الوضع المختل وغير المتحكَّم فيه في إقليم دارفور، سنجد أوضاعا مثيلة له في بقية الأقاليم السودانية مع اختلاف حدة المواجهة أو ركونها إلى سكون بركاني لفترات طويلة، مرشح للانفجار تحت أي لحظة. هذه البنية القبلية الصراعية ظلت على الدوام محفزا أول لإشعال فتيلة الحروب السودانية، وسنلحظ – بعد التحليل – أنها شكلت الثقل الرئيس في الحرب الدائرة حاليا.
في ورقته المهمة، “مقدمات في دراسة العقل السياسي السوداني”، يعرف الدكتور أحمد يعقوب القبيلة بأنها “تنظيم مغلق يستقبل الأفراد لكنه لا يقبل الخروج منهم، بما يعني أنها في نشأتها وتكوينها لا تستطيع أن تستوعب إلا شكلا واحدا ونوعا واحدا من الأعضاء”، فـ”قرارات القبيلة تمسّ الأفراد المنتمين إليها ولا تسري على أفراد خارج نطاقها الإثني”، والقبيلة، قبل تحكم الدولة، كانت تخضع كل شيء لنظام قوتها وحكمها الخاص، أما في وقتنا الحاضر فـ”لا يولد هذا الخيار (القوة) لديها إلا الحقد السياسي والعنف الذي يطال المؤسسات الدستورية والسياسية والأفراد في كثير من الأحيان”. ما الذي فعلته الدولة السودانية بالإرث القبلي العظيم بعد تحررها من سلطة الاستعمار؟
بدلا من تفكيك النظام القبلي في شكله التقليدي المغلق لصالح دولة المواطنة والحقوق المتساوية، عمدت الدولة السودانية منذ نشأتها الأولى إلى الحفاظ على هذا الإرث كما هو، وتعمّدت تطويقه وحصاره دوما بما تمتلكه من أدوات سيطرة (العنف، السلطة، الثروة)، واستخدمته على مر الحقب وسيلة تلاعب سياسي، بظنّ خلق حالة من الاستمرارية والديمومة لهذه الدولة المتضعضة تضمن لها بقاء أبديا.
هذا الاستخدام الخبيث للبنية القبلية، يتضح على نحو جليّ إذا حاولنا إلقاء نظرة فاحصة على بؤر الصراع المتجددة الالتهاب في أطراف السودان وهوامشه. الموارد قد تكون سببا رئيسا لحروب منطقة مثل دارفور، لكن العامل الحاسم في استمرار هذه الحروب كان ولا يزال يكمن في التناقض القبلي الذي يخلخل هذا الإقليم، وقد لعبت الدولة دورا رئيسا في تعميقه، بانحيازها في فترة من فترات النزاع إلى جهة ما على حساب جهة أخرى، وهذا في إطار التقسيم الأوسع لسكان الإقليم (عرب وأفارقة).
الدولة متواطئة مع القبيلة، فقد تمكنت من إخضاع الفرد داخل أطرها المغلقة، وتحولت محاولات التمرد على هذه الأطر ضربا من العبث. لذا سنلحظ، حين اشتعلت الحرب الأخيرة، أن الجميع دون استثناء نفضوا غلالة الوعي الرقيقة التي كانت تخفي تعصبهم وتكلسهم وتذكروا في حنين جارف مضارب القبيلة.
صورة المحارب
في الشمال النيلي يبدو للمراقب من الوهلة الأولى أن صوت القبيلة خافت وأن الدولة في شكلها الحضري الحديث هي الأكثر حضورا. لكن هذه رؤية ظاهرية مخادعة ساهم في وجودها خروج هذه المنطقة من دائرة النزاعات القبيلة العنيفة والتعايش المتماهي بين مجموعاتها السكانية المختلفة، وانتفاء عاملين رئيسين للصراع العنيف، أشرنا إليهما ونحن نتحدث عن إقليم دارفور. هذان العاملان هما التقسيم الإثني الكبير (عرب وأفارقة) وصراع الموارد الدائر بين المزارعين المستقرين والرعاة المتجولين في دارفور، بينما في هذه المنطقة – النهرية – استقر الجميع منذ أوقات طويلة، كما لا تشهد المنطقة بعكس دارفور تواترا أو تواصلا للهجرات السكانية داخليا أو من خارج الحدود، مثل حالة العرب البدو في دارفور.
هذه الاختلافات قد توحي ظاهريا بموت سلطة القبيلة شمالا عند النهر، لكن حين الاقتراب أكثر من ثقافة المنطقة والنظر بتمعن إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية ورؤيتها للآخر، سنكتشف أن الحس القبلي متجذر بالقوة ذاتها، تعكسه مرآة النظرة المتعالية تجاه الآخر البعيد (عرب وأفارقة، تمدن وريف، حضر وبدو)، كما تعكسه بشكل أعمق الثقافة المحلية التي تتبنى العنف مظهرا للتعريف وتأكيد الاختلاف عن الآخر المقهور والمهزوم.
مثلما عجزت الدولة عن تغيير هذه الوضعية المختلة في إقليم دارفور والأقاليم المشابهة، أو تواطأت في إطالتها، نجدها فشلت هنا أيضا في كسر النموذج القبلي المستلف من التاريخ الغابر، الأمر الذي حول الفرد – متمدنا وبدويا، مستنيرا وجاهلا – إلى سجين داخل القوقعة القبلية المحكمة؛ شخص بقناع حضاري مخادع يخفي وراءه وحشا قبليا متحفزا في انتظار إشارة الحرب.
خطاب الكراهية
يمكننا استخدام “خطاب الكراهية” في مختلف مستوياته كمؤشر دال على “الحرب المختزنة” داخل “العقل السوداني” طوال سنوات ما بعد الاستقلال، وكمعرف واضح وجلي على التنافر والاستقطاب الحاد بين المجموعات السودانية المختلفة، وكناتج طبيعي لحالة “الانغلاق القبلي” العام الذي تتصف به الحالة السودانية في عمومها، دون اختلاف على مستوى الإبانة والإخفاء بحسب التموقع المكاني (حضري – بدوي). وربما أبرز المظاهر الأولية المولدة لـ”خطاب الكراهية” المغذي للحروب السودانية، والمنذر بتحول الحرب الحالية إلى حرب شاملة، هو ما يمكن رصده في الثقافة المحلية المخصصة لكل جماعة من المجموعات السودانية الكبيرة، وهنا سأتوقف عند مجموعتين هما المظهر الأبرز للنزاع الحالي. المجموعة الأولى هي مجموعة النيليين – الشماليين أو المجموعة التي تعرف بـ”قبائل الجعليين الكبرى”. هذه المجموعة، على الرغم من التنوع الداخلي الكبير الذي يسمها، حظيت بفترة استقرار طويلة في ظل الدولة الحديثة، بما يوحي أنها تمدنت وتحضرت تماما، مخلفة وراءها حروب التناحر القديمة في أضابير التاريخ البعيد (مملكة سنار، العنج، الفونج، التركية والمهدية)، لكن بالنظر إلى المحمول الثقافي لهذه المجموعة، سنجد أن العنف بصورته الأولية البدائية لا يزال كامنا ومهددا بـ”إفناء الآخر” ولو ثقافيا (شعريا وغنائيا ورمزيا)، كما يتمظهر في سلوكيات ضاربة في العمق المجتمعي مثل الضرب بالسياط أثناء الأعراس (البطان)، وفيه يحدث إيلام للجسد إلى درجة الإدماء لإظهار فروسية وشجاعة الفرد المنتمي إلى هذه المجموعة. تتميز هذه المجموعة ثقافيا أيضا بتراث شعري – غنائي موغل في الاعتداد بالنفس (القبيلة) والدعوة إلى القتال وتحدي الموت واستدعاء كل شروط الفروسية في شكلها المتوحش المتحدّي للآخر والرافض وجوده. في الجانب الآخر (المجموعة البدوية)، سنلحظ أنه من السهل رصد مظاهر العنف المبنية على الصوت القبلي الأوحد، الشجاع المتعالي على الآخر، الذي لا يعترف بصوتٍ خلافه. وبعكس المجموعة الأولى التي تحول العنف لديها إلى حالة ثقافية مجمدة تننظر لحظة الفقس، وجد العنف البدوي متنفسه في الحروب الكثيرة التي خاضتها هذه المجموعة في مناطق متعددة من السودان، بتحريض ودفع مباشرين من الدولة السودانية، التي لم ترَ في هذه المجموعة، بعكس الأولى، سوى أداة لمحاربة خصومها واللعب على تناقضات الحالة السودانية عامة.
أبرز مظاهر “خطاب الكراهية” الكامن والمتجدد لدى هذه المجموعة، نجده متجسدا في القالبين الشعري والغنائي لدى ما يعرف بـ”الحكامة” شاعرة الحماسة والمغنية الشعبية، و”الهداي” شاعر الحروب والمغني الشعبي، والاثنان يشتغلان بحساسية عالية في منطقة الفخر، والفروسية، وفداء النفس مقابل سلامة القبيلة ونسائها ومضاربها.
ما حدث بعد اندلاع الحرب الأخيرة، هو لجوء كل من طرفي النزاع في صورتيهما المجتمعية الأولية، إلى هذا الموروث الثقافي الجاهز، لتستخدمه كل مجموعة وفقا لخطاب كراهية يهدّد بتحويل هذه الحرب إلى حرب أهلية شاملة لا تقل فظاعة عن الحرب الرواندية (1990 -1994). فالدعوة إلى دولة “البحر والنهر”، مفصولة عن باقي السودان، والدعوة إلى القضاء على “دولة 56” – المقصود مواربة جهة النهر – والتهديد بغزو مدن بعينها شمالا، “الشريط النيلي”، والدعوة إلى القضاء على “عرب الشتات” غربا، ما هي في النهاية إلا مظاهر للمجتمع القبلي العدائي الذي يصف الحالة السودانية في مجملها.
كم لبثنا
تقول التقارير الرسمية للمنظمات الأممية إن حرب السودان الكبرى منذ اندلاعها في الخامس عشر من أبريل 2023، أدّت – بعد مرور عام كامل على اندلاعها – إلى مقتل أكثر من 15 ألف مواطن سوداني، وتسببت في أكبر عملية نزوح داخلي في العالم، فأكثر من 8 ملايين سوداني أصبحوا إما لاجئين أو نازحين، تحت ظل ظروف ضاغطة وغير محتملة.
كما تؤكد التقارير الأممية نفسها أن السودانيين داخل مناطق النزاع، إلى جانب حصارهم وقتلهم بالرصاص والقنابل، باتوا مهدّدين بالموت جوعا، فهناك أكثر من 25 مليون سوداني يواجهون خطر الجوع الحاد.
ما الذي يريده قادة الفصيلين المتقاتلين من السودان؟ ما الذي تسعى إليه الجهات الخارجية المتصارعة على جثة السودان؟
إذن، ليس “الكيزان” وحدهم، ولا القوات المسلحة السودانية وحدها، ولا قوات الدعم السريع وحدها، من تسبب في هذه الحرب المهلكة التي أعادت السودان قرونا إلى الوراء. تكمن المأساة في الكيان المسمّى الدولة، أو بالأحرى “الغولة السودانية” كما وصفها ثوار ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة.
هذا الكيان الشره، بكل طرائقه الخبيثة وارثة المستعمر، هو الذي أنتج كل هذا الخراب، وهو الذي ساهم في استمرار مؤسسة بائسة مثل “القبيلة” ورفعها لتكون أعلى أدواته في لعبة المخاتلة التي ظل يمارسها على مدار السنوات للسيطرة على الجميع، وقتل الجميع إن استدعى الأمر. نعم “دولة 56” ابنة المستعمر – بعيدا من ادعاءات الدعم السريع الكذوبة – هي تلك الجهة التي جاء منها كل هؤلاء، واحرقوا البلاد.
نقلا عن “المجلة”
الوسومالجيش السوداني الدعم السريع السودان الطيب صالح حرب السودان
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الجيش السوداني الدعم السريع السودان الطيب صالح حرب السودان
إقرأ أيضاً:
قراءة في الجذور الفكرية للحركة الإسلامية السودانية والحصاد المر
الحلقة الاولي :- شهادات الإسلاميين علي عهدهم
عبدالعزيز حسن علي
I. المدخل للدراسة
II. شهادات الإسلاميين علي عهدهم
III. ملاحظات علي شهادات الإسلاميين
I. المدخل للدراسة
جرائم الحركة الإسلامية السودانية بدأت في عقل عرابها ومنظرها الأوحد الدكتور حسن الترابي بفكرة شديدة التبسيط لدرجة السذاجة، مفادها إرجاع الزمن وإنسان القرن العشرين الي الماضي، إلى عهد الصحابة الراشدين، من خلال دولة إسلامية متخيَّلة بدأت في الديمقراطية الثانية بالتأمر والتحريض علي طرد نواب الحزب الشيوعي المنتخبين بواسطة الشعب السوداني ، محاولة تكفير واغتيال الأستاذ محمود محمد طه ، ثم لاحقاً في الفترة النميرية مبايعة عسكري مخبول أماماً لدولة للمسلمين. زعموا أن دولتهم هي دولة الشريعة، الدولة العفيفة الطاهرة التي بدأت عهدها الميمون بقذف عدة صناديق من الخمر في نهر النيل، ثم ما لبثت أن شرعت في قطع ايادي الفقراء، وانتهت بجريمة العصر اغتيال الأستاذ محمود محمد طه، ثم الانقلاب علي النظام الديمقراطي في الديمقراطية الثالثة. ليبدأ من حينها عهد التمكين والصعود الحثيث الي القاع بتأصيل الخدمة العسكرية والمدنية المتوارثة من الاستعمار، بإضافة مسمى وظيفي جديد “أخصائي اغتصاب”. ثم، صياغة قانون للنظام العام مهموم بقياس طول فساتين النساء. أنشأوا دولة الإحاطة والانغلاق والتطرف الدولة الأحادية التي تقمع الآخر المختلف، وتستسهل دمه وعرضه. الدولة التي لم تفكر قط في تطبيق قيم الحرية والعدالة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام. فقد فصلت جنوب البلاد، وأشعلت الحروب العنصرية فيما تبقي من وطن. لذلك، انتهت دولة الإنقاذ إلى دولة شديدة الفساد والإجرام، يتوارى منها قادتها خجلاً، وتبرأ منها عرَّابها الدكتور حسن الترابي، قبل أن يقبرها الشعب السوداني عنوةً واقتدراً.
نشأت الحركة الإسلامية السودانية على المخلفات الفكرية لحسن البنا، وأبو الاعلي المودودي، وسيد قطب وآخرين ولم تجتهد مطلقاً في تقديم نظرية للحكم تحترم علوية الانسان ، وتعلي من قيم التسامح. بل، استسهلت الركون للشعارات الفضفاضة التي لا يمكن محاكمتها بالأدوات الموضوعية؛ شعارات خاوية هدفها، كما قيل، ربط الأرض بقيم السماء. فانتهت إلى تشويه قيم السماء والأرض معاً. من خلال هذه الدراسة التي تأتي مجزأة في عدة مقالات سنغوص معاً في الجذور الفكرية للحركة الإسلامية وتبيان خطلها كمشروع ظلامي مغيِّب للعقل، وعدو للإنسانية وقيمها.
في هذا المقال نورد بعض شهادات أصحاب المشروع الإسلامي (أصحاب الجلد والراس)، بعد تنفيذ المشروع ممثلاً في دولة الإنقاذ التي استمرت في الحكم والاحاطة بالحديد والنار لمدة تزيد علي الثلاثين عاماً. على أن نحاول في المقالات القادمة أن نحاور الأساس الفكري للحركة الإسلامية النظري "المشروع الحضاري" والعملي "دولة الإنقاذ"، ثم نختم الي كشف الحصاد المر ونتائجه.
II. شهادات الإسلاميين علي عهدهم
الرئيس المخلوع عمر البشير بعد الانقلاب على النظام الديمقراطي، وفي أول تصريح صحفي له لصحيفة (القوات المسلحة) بتاريخ ٢ يوليو ١٩٨٩، قال: "أهدافنا محاسبة المفسدين، ومواجهة السوق الأسود والتهريب، لا نتخذ واجهة سياسية ضيقة، والذين يروجون لذلك يحاولون شق الصف وجرنا إلى صراعات".
دكتور تجاني عبدالقادر في مقاله في مقاله (الرأسماليون الإسلاميون)، يكتب: "تحول التنظيم إلى ما يشبه حصان طروادة، يشير مظهره الخارجي إلى صرامة المجاهدين وتقشف الدعاة، أما من الداخل فقد تحول إلى سوق كبير تبرم فيه الصفقات، وتقسم فيه الغنائم، دون ذكر لتجديد الفكر الإسلامي أو لنموذج التنمية الإسلامية الموعودة. وبهذه الطريقة صار أفراد هذه الشريحة أغنياء، بينما ترك التنظيم ليزداد فقراً وتمزقاً. بل، إن عامة العضوية ظلوا فقراء مثل عامة الشعب برغم الشركات الكثيرة التي تم توزيعها بين المؤتمرين الوطني والشعبي؛ الشركات التي أسست باسم الإسلام ومن أجل نصرة الفقراء والمستضعفين “.
الشيخ ياسين عمر الإمام، في لقاء مطول لصحيفة (ألوان)، بتاريخ ١٢ أغسطس ٢٠٠٧، حول تقييم التجربة الإسلامية في السودان قال: "زارني بعض الإخوان بالمنزل، وكان من ضمنهم حسن الترابي، قلت لهم إنني أخجل أن أحدث الناس عن الإسلام في المسجد الذي يجاورني بسبب الظلم والفساد الذي أراه، وقلت لهم إنني لا أستطيع أن أقول لأحفادي انضموا للإخوان المسلمين لأنهم يرون الظلم الواقع على أهلهم، فلذلك الواحد بيخجل يدعو زول للإسلام في السودان، أنا غايتوا بخجل".
انتقدت القيادية الإسلامية البارزة والنائبة البرلمانية السابقة عن المؤتمر الوطني، دكتورة عائشة الغبشاوي، الوضع الاقتصادي الذي وصلت إليه البلاد، مطالبة الحكومة بإعلاء الشورى، والحرية، والمساواة، ورفع راية العدل، ورفع الظلم عن الناس، وصرحت لصحيفة (الصيحة) بتاريخ ٢٠ سبتمبر ٢٠١٦ بالقول: "خلال 27 عاماً لم ننتهج نهج النبوة ولم نخرج البلد من الفقر، بعض قادة المؤتمر الوطني لا يعترفون بالأخطاء، ويعتبرون كشفها إحباطاً للهمم".
دكتور محمد محي الدين الجميعابي، صرح في لقاء تلفزيوني، بقناة أم درمان مع الأستاذ بكري المدني: "البشير أخبرني أنه يريد قتل الترابي، وأنا قلت للترابي: أنت أكبر مُربٍّ للأفاعي وهم سوف يؤذونك ويؤذون الشعب السوداني " .
الدكتور حسن مكي، في مساهمته في ندوة مركز دراسات العالم الإسلامي ١٤ أكتوبر ٢٠١٥، قال: "على الحركة الإسلامية أن تراجع أولوياتها وخطابها السياسي، وأنهم لم يتمكنوا من ضبط تكامل شخصياتهم مع الضوابط الشرعية، واعتقدوا أن الشريعة هي الحدود، وأهملوا القضايا الأساسية مثل التعليم والصحة والاقتصاد ومعاش الناس، فأصبح 90% منهم يعاني من الفقر والفقر المدقع، فأصبح الشعب يتسول داخل البلاد وخارجها، مفضلين الموت غرقاً من البقاء في ذل الإنقاذ " .
دكتور عبد الوهاب الأفندي، في لقاء مع صحيفة (الجريدة) بتاريخ ٢٨ يوليو ٢٠١٥، وفي إجابته عن سؤال المحرر كيف ترى النظام السياسي السوداني؟ أجاب: " لا يوجد في السودان نظام سياسي، لان من يتولون الامر فيه لا يريدون نظاماً ولا مؤسسات. هنالك تفريغ للمؤسسات من محتوها ، الحكومة تكتل انتهازيين ، والصحافة محاصرة من داخلها وخارجها ، هنالك نظام الانظام ، وهي وصفة جيدة للتدمير الذاتي " .
الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد، المراقب العام الأسبق للإخوان المسلمين بالسودان، صرح في لقاء تلفزيوني بالقول: "عايشت كل الحكومات منذ ١٩٥٥، وأشهد أن نظام الإنقاذ أفسد نظام في تاريخ السودان الحديث" .
دكتور الطيب زين العابدين في مقاله بتاريخ ١٣ مارس ٢٠١١ كتب شهادة مهمة عن تجربة الإنقاذ، نقتطع منها أجزاء قال فيها: "لم يخطر ببالنا -طرفة عين- أننا عندما نحكم قبضتنا على مقاليد الدولة والمجتمع، سنضرب أسوأ مثل لحكم ديمقراطي أو عسكري شهده السودان علمانياً كان أم إسلامياً. فقد حدث في عهد الإنقاذ ما لم يحدث في غيرها من الكبائر: حارب أبناء الشمال لأول مرة مع حركة تمرد جنوبية يسارية كراهية في حكم الإنقاذ، وانقلبت الحرب ضد التمرد من حرب وطنية تحفظ وحدة السودان إلى حرب دينية جهادية ضد الكفار في الجنوب أدت إلى مقتل أكثر من عشرين ألفاً من شباب الإسلاميين". وكتب عن التمكين وفساد الدولة: "سعت الحكومة الإسلامية إلى تسيس الخدمة المدنية والقوات النظامية والقضاء والمؤسسات الأكاديمية تحت شعار التمكين، بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السودان الحديث، وبلغ الفساد المالي والأخلاقي مداه في ظل حكومة الإنقاذ بممارسات لم نسمع بها من قبل في العهود العسكرية السابقة" .
والي “حاكم” ولاية القضارف الأسبق، كرم الله عباس، جاهر بالقول بعد تقديم استقالته: "الإنقاذ فاسدة، وإذا كنا في السابق نقول إن المعارضة يجب أن تغتسل سبع مرات، فإن الإنقاذ يجب أن تغتسل ثلاثين مرة من الفساد" .
المهندس داؤود يحيى بولاد، الرئيس الأسبق لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم ،أجاب عندما سأله الشهيد دكتور جون قرنق: لماذا تركت الحركة الإسلامية؟! قال بولاد بأسًى: "لأنني اكتشفت أن رابطة الدم أثقل عند الإسلاميين من رابطة الدين " .
الرئيس المخلوع عمر البشير يعترف في مأدبة إفطار رمضاني عام ٢٠١٣ بمنزل التجاني السيسي الرئيس السابق للسلطة الانتقالية بدارفور: "لقد سفكنا دماء أهل دارفور لأتفه الأسباب، كيف قتلنا المسلمين ونحن عارفين أن هدم الكعبة أهون على الله من قتل امرئ مسلم، وبعد دا عاوزين الله يغفر لينا!! غايتوا أنا قدر ما فتشت ما وجدت أي كفارة للموضوع دا" .
الشيخ أحمد عبد الرحمن ، احد القادة التاريخيين للحركة الإسلامية السودانية ، في اعترافاته الجريئة مع الصحفي مزمل عبد الغفار نشر بصحيفة الانتباهة “البشير كان مظلة للفساد، لا أتأسف على زوال الإنقاذ، النظام بنفسه قضى على نفسه بسياساته الخرقاء. وسُبة بالنسبة للإسلاميين أنهم تابعوا رجلاً واحداً. البداية تكمن في النقد الموضوعي لتجربة الحركة الإسلامية في الحكم" .
الرئيس المخلوع عمر البشير، في اجتماع مجلس شورى الحركة الإسلامية، بالعيلفون بتاريخ ١٣ مايو ٢٠١٢، قال: "الحكم والسياسة أفسدا كثيراً من عضوية الحركة الإسلامية في السودان، على الرغم من أن مجيئهم كان لأجل القيم وتطبيق الشريعة الإسلامية" .
دكتور مبارك علي طه الكوده معتمد الخرطوم الأسبق يعترف: "في مسيرتي الطويلة وأنا في حركة الإخوان المسلمين أعترف باني أخطأت في مفاهيم كثيرة منها مفهوم الجماعة في الإسلام، ومفهوم الإمارة، والطاعة لأولي الامر، وأخطأت كذلك في مفهوم الاعتراف بالآخر وإنسانيته وحقوقه، وهذه الأخطاء المفاهيمية شكلت تكويني العقلي مما جعلني أخطئ التقدير فيما هو ظني الدلالة فأخطأت التقدير عندما كنت مسئولاً في الدولة في الصرف علي المؤتمر الوطني من مال المواطن بحجة المصلحة العامة. وأخطأت التقدير بالصمت علي تمكين أهل الولاء في مفاصل الدولة علي الكفاءات من أبناء الشعب السوداني بحجة أن خير من استأجرت القوي الأمين وبحجة أن تأمين دولة الإسلام يقتضي ذلك. وأخطأت التقدير في الطاعة المطلقة لأولي الأمر لأنني تعلمت منهم: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية) مما جعلهم يزيدون طغيانا على طغيانهم ويستخفون بعقولنا وذواتنا ولا يزالون. وأخطأت حتى في فهمي لآيات الله لأَنَّنِي كنت أسوقها سوقاً لما أعتقد" .
بالرغم من كثرة انتقادات بعض الإسلاميين لنظامهم الذي أتوا به على ظهر الدبابات والخديعة، إلا أن هدف هذا المقال ليس حصرها، لذلك نختم بشهادتين لمفكر الحركة الإسلامية الأوحد، وعرَّاب انقلاب الإنقاذ، الدكتور حسن الترابي:
الشهادة الأولى عند مخاطبته بتاريخ ٢٦ مارس ٢٠١٢ احتفال إقامة المؤتمر الشعبي، والتي صوب فيها الترابي انتقادات حادة للحكومة ودمغها بالإساءة البالغة لصورة الإسلام. وأبدى ندماً على إتيانه بالحاكمين. قائلاً: "السلطة أصابتهم بالفتنة"، منتقداً ما يجري في السودان تحت واجهة الدين والإسلام: "نكاد نشفق على سمعة السودان الذي أصبح من أبشع الصور في العالم، نعيش في حدود دنيا للعدالة، خربوا علينا سمعة الإسلام. ظنناهم دعاة ذات يوم، لكنهم أصبحوا أكثر من ينفر عن الإسلام. أقاموا فينا أفسد الدول وأكثرها سفكاً للدماء، وأكثرها تقطيعاً للأرض التي مكنهم الله فيها".
الشهادة الثانية لبرنامج (شاهد على العصر) على قناة (الجزيرة)، قال الترابي: "الفساد انتشر في مفاصل الدولة تحت سمعي وبصري وعجزي"، مؤكداً أن السلطة "فتنت أعضاء جماعته، وانساقوا خلفها لأنهم منذ البداية كانوا يجهلون أن السلطة يمكن أن تفتن من تربى وتزكى في حركة دينية عشرات السنين" .
III. ملاحظات علي شهادات الإسلاميين
أن هذه الشهادات الموثقة لم تصدر من خصوم سياسيين للحركة الإسلامية ولم تقف وراءها دول الاستكبار والكنيسة العالمية أو الشيوعية الدولية. ولم تصدر كذلك من (طرف ثالث). بل، صدرت من قادة في الصف الأول والثاني للحركة الإسلامية، من إسلاميين تربوا في حضن الحركة الإسلامية منذ نعومة أظافرهم وحتى بلوغهم سن الشيوخ، لذلك يصعب دحضها، ورغم ذلك سيحاول البعض الانكار، لأن الكذب في سبيل التنظيم عندهم فريضة، والغاية تبرر الوسيلة، وصدق من قال إن السياسة بدون ضوابط أخلاقية وقانونية إجرام منظم.
أن القاسم الأكبر بين هذه الشهادات هو الحديث عن الفساد والاعتراف به والعجز عن مقاومته، وهو أمر مثير للتفكير لجماعة تدَّعي الطهر والعفاف وتشدد على أن دستورها القرآن، وقدوتها محمد صلوات الله وسلامه عليه .
أن الفساد ليس فساد أفراد فقط، بل فساد المؤسسات، الذي طال حتى المؤسسات المسؤولة عن "صياغة الفرد والجماعة وفق أسس الشريعة الإسلامية" – حسب زعمهم - . فوفقًا لتقارير المراجع العام لجمهورية السودان، فإنَّ المؤسسات ذات الطابع الديني كانت الأكثر فساداً، مثل: ديوان الزكاة، وهيئة الحج والعمرة. فيما أن هناك مؤسسات أخرى شبيهة لا تتم مراجعة حساباتها، مثل هيئة علماء السودان، وهيئة الذكر والذاكرين.
نواصل في الحلقات القادمة مناقشة المرتكزات الفكرية لمشروع الحركة الإسلامية مثل: الوطن ، الشعب والأمة، الشوري والديمقراطية، ودولة الشريعة، مقابل دولة المواطنة ، الآخر في فكر وممارسة الإسلاميين .
نشر في موقع مجلة افق جديد
https://nehorizon-s.net
abdelazizali@outlook.com