بعد عام من الحرب في السودان .. قراءة في الخطط العسكرية
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
وفق ما توفر، أن التمرد كان يتوقع أنه سيسيطر على القيادة العامة والمراكز الحيوية في مدة اقصاها ثلاثة أيام، وبها يكون قد سيطر على قلب البلاد والمنطقة المركزية، وقتل او اعتقل كل القيادة العسكريين للجيش، لكنه كان يتوقع أن يجد مقاومة في بعض المواقع العسكرية مثل المدرعات، ووادي سيدنا، وكان يضع أن اقصى حد يمكن أن تصمده هذه المواقع ثلاثة أشهر.
كانت المخاوف كلها بالنسبة لعقل التمرد هو سلاح الطيران، لذلك بادر قبل ساعة الصفر للذهاب لقاعدة مروي وكان الهدف أما السيطرة عليها، او حصارها لتحييد الطيران، أما قاعدة وادي سيدنا والأبيض سيكون فيها اشتباك وبدورها تكون خارج الخدمة.
أما الجيش، لما يتوفر له من معلومات حول صديق الأمس عدو اليوم فكان يعلم أن هذه الحرب ستطول لأسباب موضوعية بين يديه:
– الأول: ضراوة المخطط وكمية الدول التي تقف خلفه، وما تشكله من دعم عسكري ودبلوماسي وإعلامي.
– الثاني: أن عدد الجنود المشاة للجيش غير كافٍ لخوض حرب مفتوحة مع عدو يمتلك تسليح جيد وخطوط دعم مفتوحة.
– الثالث: أن التسليح للجنود الموجودين لايكفي لهذه الحرب، خصوصا أن هذه الحرب حرب مدن لا يمكن استخدام الأسلحة الثقيلة، وهي الأسلحة الوازنة لدى الجيش والتي كان يشتغل عليها ويعدها طوال العقدين، فهذه الأسلحة أصبحت خارج الخدمة.
وفقًا لهذه المعطيات، وضعت قيادة أركان الجيش خطتها على ثلاث مراحل:
– المرحلة الأولى مرحلة دفاعية، وهي تقتضي المحافظة على المواقع والمقرات العسكرية وفق لأولية المواقع، والمحافظة على حياة الجنود وإن دعت الضرورة إلى الإنسحاب من بعضها، ومدة هذه المرحلة ستة أشهر.
– المرحلة الثانية مرحلة بنائية، يقوم فيها الجيش بترتيب وضعه الداخلي بإحالة بعض الضباط المشتبه في ولائهم أو من كانت لهم مصالحة اقتصادية مع المليشيا أو من تحصلوا على إمتياز مالي منها، وتكوين قوة مشاة من الشعب وتدريبها وإعدادها بدنيا وذهنيا لتكون مهيئة لمواجة هذه المليشيا، مع توفير العتاد العسكري الجيد لذلك، والأسلحة المناسبة لمثل هذه الحروب الهجينة وحروب المدن، وهذه الفترة مقدرة ايضا بستة أشهر.
-المرحلة الثالثة مرحلة إستعادة الأرض والهجوم على المليشيا وتحرير المواقع، بطرية تؤدي إلى الحفاظ على حياة وممتلكات المواطنين بقدر الإمكان، وهذه الفترة ايضا قد تصل لستة أشهر.
هذه الخطة العسكرية معها متطلبات سياسية وقانونية ودبلوماسية، تقديرات بعض القادة على رأس الدولة لم يقوموا بها على أكمل وجه، وتماطلوا في جزء كبير منها، وتأخروا في وقت إصدار الكثير من هذه القرارات، وهذا ما جمعل السيد مساعد القائد العام يصرح للإعلام بذلك.
هناك ضغوطات كبيرة من بعض الدول على القيادة السياسية للبلاد، ومساومات ايضا، لكن القرارات تجاوزت القيادة منفردة، فاقصى ما يمكن فعله هو تأخير الوقت، أما امر الحسم فهو ماضٍ لا مناص منه ابدًا.
احمدحسن كرار
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
قراءة تفكيكية في كتاب “التصوف والسياسة في السودان” للدكتور عبد الجليل عبد الله صالح
حين أرسل إليّ الصديق العزيز، الأستاذ صلاح شعيب، هذه النسخة الإلكترونية من كتاب "التصوف والسياسة في السودان"، وجدت نفسي مأخوذًا منذ اللحظة الأولى بموضوعه. كنا قد خضنا نقاشًا مطولًا حول التصوف في السودان ودوره في السياسة، وعندما وصلني الكتاب، شرعتُ في قراءته بشغف عجيب، مدفوعًا برغبة في الغوص في هذا التداخل المعقد بين الروحي والسياسي في تاريخ السودان. ومنذ الصفحات الأولى، بدا لي أن الكاتب يطرح رؤى تتطلب قراءة تفكيكية تتجاوز السطح النصي إلى بنيته العميقة، محاولًا تحليل الخطاب الكامن وراءه.
يقدم الكتاب تحليلًا موسعًا للتفاعل بين التصوف والسياسة في السودان، بدءًا من دولة الفونج (1504) وحتى الفترة الانتقالية (2022). يعتمد المؤلف على سرد تاريخي يُظهر كيف شكلت الطرق الصوفية، مثل السمانية والختمية والقادرية، قوة اجتماعية وسياسية، لا سيما في مقاومة الاستعمار وبناء الهوية الإسلامية. لكن رغم شمولية الإطار الزمني، يمكن ملاحظة تركيز الكاتب على الفترات الإسلامية المبكرة دون التعمق الكافي في التحولات الحديثة، مثل دور الصوفية في مواجهة الأنظمة العسكرية، خاصة في عهد النميري وبعد انقلاب 1989. كما أن الكتاب لم يتوسع في تحليل تأثير العولمة والحركات السلفية على تراجع النفوذ الصوفي، وهي عوامل كان من شأنها أن تثري النقاش حول طبيعة التحولات الصوفية في العصر الحديث.
يُجادل الكتاب بأن الصوفية لم تكن "دمى في يد الأنظمة"، بل كانت ضمانة لحماية الدين من الاستغلال السياسي. ويستشهد المؤلف بمواقف شيوخ الصوفية الذين رفضوا الانخراط في الصراعات السياسية المباشرة، مع الحفاظ على دورهم كوسطاء اجتماعيين. لكن هنا يظهر التناقض في الطرح، حيث يناقش الكاتب أيضًا تحالف بعض الشيوخ مع الأنظمة العسكرية، مثل حكومة الإنقاذ، لكنه يفسر ذلك كـ"استثناء" ناتج عن استغلال السلطة لهم. غير أن هذا التفسير يبدو قاصرًا، إذ لم يتناول الكاتب آليات هذا الاستغلال بشكل معمق، كما لم يحلل كيف قاومت الطرق الصوفية هذا النفوذ السياسي، أو إن كانت بالفعل قد نجحت في تحييد نفسها عنه.
على مستوى المنهجية، يعتمد المؤلف على مزيج من المصادر الأولية، مثل المقابلات مع شيوخ الصوفية، والمصادر الثانوية كالأدبيات التاريخية. هذا الأسلوب يضفي طابعًا توثيقيًا على الكتاب، لكنه في ذات الوقت يطرح تساؤلات حول الحياد البحثي، إذ أن المقابلات مع الصوفيين قد تعكس تحيزًا ذاتيًا، بينما يغيب في الكتاب صوت المعارضين أو النقاد الخارجيين. كما أن غياب المراجع الأرشيفية الداعمة، مثل الوثائق الحكومية أو المراسلات التاريخية، يجعل بعض الاستنتاجات بحاجة إلى تدعيم إضافي.
يرى الكاتب أن التصوف يشجع التعددية ويرفض الإقصاء، مشيرًا إلى أن كل شيخ يمتلك طريقته الخاصة في التعبد والممارسة. ويذهب أبعد من ذلك بمقارنته مع الليبرالية، حيث يُصور المسيد أو الزاوية كنموذج مصغر لدولة المواطنة التي تذوب فيها الانقسامات القبلية. هذه المقاربة تفتح أفقًا جديدًا لفهم التصوف، لكنها قد تكون مبالغًا فيها. فبعض الطرق الصوفية تعاني من مركزية شديدة في السلطة الروحية للشيخ، وقد تكرس الانقسامات بين مريديها بدلًا من إذابتها. كما أن فكرة "التصوف الليبرالي" تتعارض مع الممارسات الصارمة لبعض الطرق، حيث لا يزال بعض الشيوخ يفرضون طقوسًا متشددة لا تترك مجالًا كبيرًا للفردانية أو التعددية الفكرية.
عند مناقشة علاقة الصوفية بالأنظمة العسكرية، يفند الكتاب الادعاء بأن الطرق الصوفية كانت دائمًا حليفة لهذه الأنظمة، مشيرًا إلى أن هذا الاستقطاب السياسي أضر بسمعتها في بعض الفترات. يوضح كيف استخدمت حكومة الإنقاذ الصوفية كأداة لتقويض الأحزاب التقليدية، مثل الأمة والاتحادي. لكن رغم أهمية هذه الإشارة، فإن التحليل يظل ناقصًا، إذ لم يناقش الكاتب الأسباب الهيكلية التي جعلت الصوفية عرضة للاستغلال، مثل ضعف التنظيم المؤسسي للطرق الصوفية واعتمادها على الزعامات الفردية، مما سهّل على الأنظمة السياسية استقطاب بعض رموزها.
على مستوى الإسهامات، يبرز الكتاب دور الصوفية في بناء السلام الاجتماعي، حيث استخدمت الطرق الصوفية كوسيط في حل النزاعات القبلية، وساهمت فيما يمكن وصفه بـ"الدبلوماسية الشعبية" من خلال نشر الإسلام بطريقة سلمية في مناطق متعددة. لكن في المقابل، يغيب عن الكتاب تحليل الصوفية في جنوب السودان، رغم وجود ممارسات صوفية هناك قبل انفصال الجنوب. كما أن البعد الاقتصادي لم يحظَ بالاهتمام الكافي، رغم أن بعض الطرق الصوفية كانت تسيطر على شبكات اقتصادية واسعة، مما أثر على علاقتها بالسلطة والمجتمع.
إعادة قراءة النص من زاوية تفكيكية تكشف أن الكتاب ليس مجرد سجل تاريخي محايد، بل هو خطاب يحمل رؤية ضمنية عن التصوف ودوره في السودان. ثمة تردد واضح بين تقديم التصوف كفاعل مستقل عن السياسة، وبين الاعتراف بأنه كان جزءًا من اللعبة السياسية في فترات متعددة. هذا التوتر بين الرؤيتين يعكس تناقضًا لم يُحسم بالكامل داخل النص، وهو ما يجعل القراءة النقدية ضرورية لفهم مآلاته الفكرية. لكن هذا ليس بالعيب أو النقصان من قيمة هذا السفر، بل هي ملاحظات وتأملات قارئ يحاول فهم دقائق الأشياء، ويبحث عن مقاربة نقدية تضيء النص من زوايا متعددة.
يبقى الكتاب، رغم هذه الملاحظات، إضافة مهمة للمكتبة السودانية، حيث يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول علاقة الدين بالسياسة. لكنه في نهاية المطاف ليس نصًا مغلقًا، بل نص قابل لإعادة التأويل، وهو ما يجعله محفزًا لحوارات أعمق حول التصوف والسياسة، ليس فقط في السودان، بل في العالم الإسلامي عمومًا.
zuhair.osman@aol.com