من المفارقات الساخرة التي تظهر بين الفينة والأخرى في الانتخابات الأمريكية القادمة ما أعلنه المرشّح الرئاسي القادم للولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب في منصات التواصل الاجتماعي عن بيع نسخ من الكتاب المقدّس، الإنجيل، لكن مع تغييرات على نسخة الملك جيمس الشعبية في غلافها الخارجي الذي وُضع تحت عبارة “بارك الله أمريكا” تيمّناً بالأغنية الوطنية الشهيرة للمغني الأمريكي الريفي الشهير لي جرينوود الذي شارك ترامب في الترويج لهذه النسخة “الوطنية” من الإنجيل؛ أما الغلاف الداخلي للكتاب المقدّس فقد ضم كلمات الأغنية الشهيرة وإعلان الاستقلال والدستور الأمريكي ووثائق تاريخية أمريكية أخرى لاعلاقة لها بالإنجيل.
وصف رجال الدين في أمريكا ردة فعلهم إزاء هذه الخطوة المجنونة بأنها “تدنيس” للكتاب المقدس و”هرطقة” وخطوة تعكس مسيحية مفلسة، كما قال القس بينيامين كريمر في تغريدة له، عندما ترى ديماغوجياً غوغائياً يستغل ديننا، كما يقول، وكتبنا المقدّسة من أجل الوصول إلى السلطة، وهذا ما يشغل الصحافة الأمريكية التي أبرزت الأزمة المالية التي يعيشها ترامب بسبب القضايا الكثيرة التي تلاحقه في المحكمة وحاجته الماسة إلى المال في حملته الانتخابية التي يواجه فيها العجوز بايدن، وهذه مفارقة ساخرة أخرى لديموقراطية الولايات المتحدة التي تجعل المواطن الأمريكي أمام خيارين أحلاهما مر.
يقول ترامب أن الانجيل كتابه المفضّل لكنّه، عندما سأله أحدهم، لم يكن قادراً على ذكر آية واحدة مفضّلة لديه من كتابه المفضّل هذا؛ إذ يبدو والله أعلم أنه لم يقرأه أبداً، لكنها الحاجة التي دعته إلى هذا الأمر.
هذه الخطوة التي قام بها ترامب تكشف عن الكيفية التي يمكن أن يكون فيها الدين علمانياً، وهي شبيهة لظاهرة كانت منتشرة في السابق لدى رجال الدين الذين كانوا يستخدمون أرقاما مختصرة عند شركات الاتصالات ويخصصون فيها قنوات للفتوى والأدعية وتفسير الرؤى لكنك إن أردت استخدامها فعليك أن تشترك بقنوات الشيخ المذكور وتدفع مبلغاً رمزياً كل أسبوع. هذا المبلغ الذي يبدو زهيداً هو في الواقع مبلغ ضخم إذا أخذت بعين الاعتبار ملايين المشتركين الذين يشجعون هذا الشيخ كما يشجّع الرياضيون ميسي ورونالدو، بغض النظر عن القيمة الأخلاقية التي ينتظرونها من هذا الشيخ أو من هذا اللاعب. أقل ما يمكن أن يوصف به هذا الشيخ هو أنه علماني مع سبق الإصرار والترصّد لأن له مآرب مادية أخرى لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد. هذه المآرب تنتهي عادة بنوع السيارة التي يقودها أو المسكن الذي يقطنه أو المنصب الذي ينتظره، كما في حالة صاحبنا رجل الأعمال ترامب الذي يعتقد أنه رجل دين قلبه عامر بالإيمان والتقوى، كما يقول عادل إمام، وأنه قادر على أن يجعل الأمريكيين يصلّون خمس مرات في اليوم كما يفعل المسلمون.
ترامب شخصية كاريكاتورية عندما تراه يلبس عباءة الدين ويمكنك أن تضحك ملء فيك عندما ترى الإعلان الذي يحمل فيه الإنجيل المقدّس الذي طاله التحريف قبل أن تطاله يد ترامب.
khaledalawadh @
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
نزْعٌ و تمزيق . قصة قصيرة
نزْعٌ و تمزيق . قصة قصيرة
حكايةُ حربٍ!
أعدّ الجوع لهم مؤائد. تحولت دمدمة المتفجرات ، أزيز المسيّرات ، زمجرة الطائرات فوق رؤوسهم مع صوت الرصاص، تحولت إلي شخيرِ يصدر عن نومهم العميق. لم يكن بالأنحاء ماءٌ ليشربوه غير ما تبقي من خطوِ الجنود في بِرَكِ مياه الأمطار، شربوا ذلك الخليط المُشّبَع و المحتشد بالموت الذي رفض المجيء. تعب الموتُ من التِجوال في شوارع حِلّتهم المنتهكة إلي آخر بيت فيها ،تعب!
قالوا " نحن عائلة إندمجت و صارت جسداً واحداً ، ليست له هوية جنسية و لا ذاكرة ليخدش الإغتصاب حياءَه أو يؤلمه في الروح". و قالوا لم يعد عند الجنود ما يغضبوننا به أو يجعلنا نرد علي أسئلتهم. و قلت لم يعد للحرب ما تقوله أو تستطيع به أن تجعلهم يتكلمون.
جاء بعضهم ليقتلوهم لأنهم من الفلول، فعل القتَلّةُ فعلتهم و فرحوا بها و هللوا و كبّروا. جاء قتَلَةٌ آخرين ليقتلوهم لأنهم متعاونون مع المليشيا المتمردة، فعل القتَلّةُ فعلتهم و فرحوا بها و هللوا و كبّروا. قالوا لم نمت جراء الهجمتين لا بل ظللنا كما نحن "نحن عائلة إندمجت و صارت جسداً واحداً ، ليست له هوية جنسية و لا ذاكرة ليخدش الإغتصاب حياءَه أو يؤلمه في الروح" قالوا إنتهت الحرب عندما صار القتلُ لا يقتل و أصبح الرعبُ لا يُخِيف. فقلت فعلاً إنتهت الحرب عندما تحوّل الجوع إلي واهبٍ للطعام.
لم يجد الجنود ما يفعلونه فقرّر قادتهم الإتفاق و إقتسام البلاد مناصفة بينهما ، ناسها و موارده مناصفةً بينهما. قالوا سمعنا ذلك عندما مرّ جندي جوار بيتهم. كان الجندي يسمع كلام قائده المتفق مع القائد الآخر. سمع الجندي ذلك في واحدٍ من تلفوناته التي كانت لمَوْتَى أو منهوبين. كان الجندي يسمع و يتلفت كأنه يسمع أصواتا. لم يكن هنالك ما يُصدِر صوتا لأنه خلال الحرب قد نفدت الكلمات و لم يتبقَ من الكلام غير تلك الأصوات المجوفة الي لا تهتم لها طبلةُ أُذنِ و لا ترتعش من أجلها. حتي الحيوانات صارت صمّاء. مع نهاية المكالمة إنتشرت في الهواء رائحةُ البُراز المختلطة برائحةِ الأجساد المُتحللة. رأيت في نهاية الشارع جثة قديمة تحلّلت و يبست و صارت هيكلا مكسواً بجلد رقيق، هيكلٌ بفم مبتسم. قوة الرائحة و نفاذها فيما يبدو دفع بالكلاب ، القطط، الطيور، الهوام، القوارض و جمهرة الحشرات النَشِطة. دفعت الرائحةُ الجميع ركضا، زحفاً و طيراناً نحو النهر. قالوا عندما تأكدنا من ذلك المنظر المهيب و هو مغادرة الحيوانات لحِلَتنا حدث أمر غريب حيث بدأت عائلتنا المندمجة في الإنفصال، إنفصل الأب مبتعدا، نزعت الأم نفسها عن جسد العائلة، تبقي جسد ممزق و مرتبك في إندماجه لكنه بدأ في الإنفصال فتفرق الأولاد و البنات بددا، خرجوا عن ذلك الجسد حيث كما قالوا كنّا عائلة إندمجت و صارت جسداً واحداً ، ليست له هوية جنسية و لا ذاكرة ليخدش الإغتصاب حياءه أو يؤلمه في الروح. إنفصلنا أي واحد منّا بندوب و تقرحات شملت جسد الواحد منّا و روحه. قالوا لم نهتم بما حدث لأن الحرب إنتهت عندما لم يجدِ الموتُ من يقتله و لم يجدِ الجوعُ ما ينهشه و لم يجدِ المرضُ جسدا ليعذبه. قلت إنتهت الحرب.
طه جعفر الخليفة
كندا – اونتاريو
31 نوفمبر 2024م
taha.e.taha@gmail.com