تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قفز بالأغنية المصرية إلى آفاق جديدة غير مسبوقة 

أمثاله لا يموتون.. ولا يغادرون ذاكرة الوطن

أجمل ما فى شخصيته أنه لا يشبه أحدًا ولا يقلد ولا يسهل تقليده

فاطمة رشدى وعزيز عيد أول من اكتشفا موهبته في التلحين

أعماله الموسيقية والسينمائية ذات توجه وطنى واجتماعي مستنير

محمد فوزى «1918 - 1966» من علامات وأعلام الفن المصرى فى القرن العشرين، والسمة الأبرز فى إبداعه الغنائى والتلحينى والسينمائى تتمثل فى ذلك المزيج النادر من البساطة والانطلاق والحرية، ذلك أنه مسلح بالروح الشعبية المرحة الأصيلة، وكاره للزخرفة والادعاء والإسراف فى الصنعة.

فى كل الفنون التى يمارسها محمد فوزى، ينبع أداؤه من القلب، ويسهل وصوله إلى القلوب. جماله الأخاذ يقترن بالعفوية، فهو يغنى كأنه لا يغني، ويلحن فيشعر المستمعون من فرط الصدق بأنها ألحانهم، ويمثل فيوقن المشاهد أن الشعور بالغربة لا موضع له فى ظل الحضور المتوهج.

يظهر محمد فوزى فى عصر مزدحم بالأفذاذ من المواهب، السابقين له والمواكبين واللاحقين فى الساحة الغنائية، يتزامن تألقه مع الوجود الفعال الطاغى لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمد عبدالمطلب وعبدالغنى السيد وعبدالعزيز محمود وكارم محمود ومحمد قنديل وعبدالحليم حافظ، ويعاصر عمالقة التلحين: محمد عبدالوهاب وزكريا أحمد ورياض السنباطى ومحمد القصبجى ومحمود الشريف وفريد الأطرش. كيف يستطيع الصمود والتفوق، مطربا وملحنا، فى منافسة هؤلاء جميعا؟ وكيف ينجح سينمائيا فى ظل الصراع المحتدم الذى لا متسع فيه للبقاء إلا للموهبة الأصيلة التى تملك الإمكانات المؤهلة للمنافسة؟

أجمل ما فى محمد فوزى أنه لا يشبه أحدا، فلا يقلد ولا يسهل تقليده. متفرد هو فى الغناء والتلحين والتمثيل، وهو كذلك أيضا فى نمط حياته وأسلوب معيشته ومنهجه فى التعامل مع الآخرين.

من ناحية أخرى، يتميز محمد فوزى دائما بالنقاء الذى يحول دون التورط وإضاعة الوقت فى صراعات وهمية ومعارك بلا محصول، ويفيد الفنان الكبير من هذه السمة الشخصية فيتضاعف عمره القصير.

رحلة الحياة 

يولد محمد فوزى حبس عبدالعال الحو، الشهير بمحمد فوزي، فى الثامن والعشرين من أغسطس سنة ١٩١٨، وكان مولده فى قرية «كفر أبو الجندي»، التى تبعد عن مدينة طنطا بعدة كيلومترات. الأب من قراء القرآن الكريم، والأم فلاحة بسيطة لا تجيد القراءة والكتابة. الظروف الاقتصادية أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى، أما الوفرة الحقيقية ففى عدد أفراد الأسرة. محمد فوزى يحمل رقم «٢١» فى قائمة الأخوة، ولم يكن أصغرهم أو آخرهم!.

يتلقى تعليمه الأولى فى كتاب القرية، ثم يلتحق بالمدرسة الابتدائية فى طنطا، ويحصل على الشهادة سنة ١٩٣١، لكنه لا يلتحق بالتعليم الثانوى لفرط انشغاله بالغناء وولعه بالموسيقى، يذيع صيته مطربا يردد الأغانى الشائعة لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، فى حفلات المدارس والتجمعات الشعبية للموالد.

يعارض الأب بضراوة توجه الابن الموهوب، وعلى الرغم من الرقابة الصارمة يتعلم فوزى أصول الموسيقى العربية، متتلمذا على يد عسكري المطافئ محمد الخربتلي، عضو فرقة طنطا الموسيقية، ومع أستاذه هذا يجوب الفنان الصغير معظم القرى المحيطة بطنطا، ويندمج فى العالم الثرى لمولد السيد أحمد البدوي.

كان محمد فوزى محظوظا إذ يستمع إليه الملحن المعروف مصطفى العقاد، ضابط الإيقاع فى الموسيقى العربية، يعجب بصوته فيساعده على الالتحاق بالمعهد قرب منتصف الثلاثينيات، ولم يكن بد فى السفر إلى القاهرة لتبدأ مرحلة جديدة فى حياته.

يسافر دون موافقة الأب ورضاه، بكل ما يترتب على ذلك من توقف الدعم المادي. يصطدم الشاب الصغير بالغربة والفقر معا، وتستمر المعاناة الرهيبة حتى تُتاح له فرصة العمل مطربا فى فرقة بديعة مصابني، مدرسة المسرح الاستعراضى فى تلك المرحلة، وهى الفرقة التى تحتضن عشرات الأسماء البارزة فى تاريخ الفن المصري.

يتعاقد فوزى مع بديعة بأجر يصل إلى سبعة جنيهات شهريا، وهو مبلغ كبير بالنظر إلى مستوى الأسعار فى الثلاثينيات من القرن العشرين، لكن الفنان مرهف المشاعر يستقيل سريعا تضامنا مع الراقصة لولا، التى يحبها ويحتج على فصلها من الفرقة، ترفض بديعة عتابه، وتصارحه بأنه يجب أن يكون سعيدا لأنه لم يُفصل معها، ينفعل فوزى فيقدم استقالته مضحيا بالراتب الكبير نسبيا، الذى ينتشله من حياة الفقر.

يخرجان معا من الفرقة لتشكيل ثنائى يتجول فى أنحاء مصر، ثم يعودان ليستقر فوزى فى فرقة فاطمة رشدي المسرحية، وكانت عملاقة المسرح المصرى وزوجها المخرج الكبير عزيز عيد، هما أول من اكتشفا موهبته فى التلحين.

فى غضون ذلك، يتخرج فوزى فى معهد الموسيقى العربية، جامعا بين الدراسة العلمية والخبرة العملية، ويبدو واضحا أن احتراف الفن هو المستقبل الوحيد الذى ينتظره، لقد خُلق ليغنى ويلحن، ويمثل أيضًا.

تألق وتوهج 

يعمل محمد فوزى عاما واحدا مع فرقة فاطمة رشدي، ثم تلحقه الفنانة القديرة بالفرقة القومية، لم تكن تجربته المسرحية ناجحة، ولعل فى غياب القدرة على التوافق مع آليات الفن المسرحي، حيث المواجهة اليومية المباشرة مع الجمهور، ما يبرر ويفسر انصرافه عن تكرار خوض التجربة فى المراحل التالية من حياته.

لم تكن تجربته المسرحية ناجحة، لكنها تقوده إلى المحطة الأهم والأخطر فى حياته، السينما، طفرة حقيقية تتمثل فى انتباه عميد المسرح العربى يوسف وهبى للموهبة الشابة، بعد مشاهدته والإعجاب به، سرعان ما يتحول الإعجاب إلى تعاقد للقيام بدور ثانوى فى فيلم «سيف الجلاد» سنة ١٩٤٤، وبعد الفيلم الأول يرتقى سريعًا من طائفة الكومبارس إلى البطولة الثانية فى فيلم «قبلة فى لبنان» سنة ١٩٤٥، ثم تبدأ رحلته العريضة مع السينما بطلا منفردًا ذا شعبية طاغية، يقدم أربعة وثلاثين فيلما غير هذين الفيلمين اللذين بدأ بهما.

يتوافق النجاح السينمائى لمحمد فوزى مع نجاحه اللافت مطربا وملحنا، وعبر ربع قرن تقريبا يقدم أكثر من أربعمائة لحن لنفسه وللآخرين، ومن الأصوات التى تغنى له: «ليلى مراد، هدى سلطان، شادية، صباح، إسماعيل يسن، محمود شكوكو، نور الهدى، سعاد محمد، نازك، نجاة الصغيرة، فايزة أحمد، شهرزاد، شريفة فاضل، ماهر العطار».

يقفز محمد فوزى بالأغنية المصرية إلى آفاق جديدة غير مسبوقة، وفى إبداعه الموسيقى الحافل بالعطاء المختلف نجد أشكالا شتى ومغامرات رائدة: «الأغنية الخفيفة المرحة، الرومانسية العاطفية الشبابية، الدينية الروحية، أغنيات الأطفال»، فضلا عن ريادته التى لا جدال حولها فى مجال الأغنية السينمائية الاستعراضية.

مشروع عملاق 

الإنتاج السينمائى هو المحطة الأولى فى رحلة محمد فوزى مع اقتصاديات الفن، ويعود تأسيس شركته الإنتاجية الخاصة إلى العام ١٩٤٧، ومن الإنتاج السينمائى ينتقل إلى شركة «مصر فون» لإنتاج الأسطوانات، وهى أول شركة من نوعها فى الشرق الأوسط، ينذر فوزى لمشروعه هذا كل مدخرات عمره، ويتفرغ لإدارته وتطويره، ويحقق نجاحا مدويا ومجديا لمن يتعاملون معه من كبار الفنانين والفنانات، لكن عاصفة التأميم تهب عاتية لتطيح بالمشروع الناجح الجسور، وتضع نهاية تعيسة مؤلمة لفكرة جديرة بالتشجيع.

يولد المشروع عملاقا فى الثلاثين من يوليو سنة ١٩٥٨، ويفتتحه وزير الصناعة الدكتور عزيز صدقي، الذى يشيد بالفكرة الإيجابية البناءة التى توفر العملة الصعبة وتتيح إنتاج أسطوانة محلية رخيصة السعر وغير قابلة للكسر، ويمكن استخدامها على الوجهين فتتسع لأغنيتين.

لم يكن قرار تأميم شركة «مصر فون» يستهدف شخص محمد فوزي، فهو لم يكن ذا موقف سياسى معارض يستدعى عقابه والتنكيل به، حياته كلها قبل ثورة يوليو وبعدها منذورة للفن والإبداع، وأعماله الموسيقية والسينمائية ذات توجه وطنى واجتماعى مستنير، أما سيرته الشخصية والعائلية ففوق مستوى الشبهات، الظلم الفادح الذى يطوله جزء من منظومة عامة تطيح بالكثيرين غيره، ممن يُعاقبون بتهمة النجاح، وتتم إدانتهم لفرط النشاط الإيجابي، وعندئذ يهبطون بلا مقدمات من ذروة العطاء والحيوية إلى هاوية البطالة والركود.

قد يكون مفهوما أن تتدخل الدولة لتفرض ما تراه مناسبا من أجل تنظيم العمل الفنى والارتقاء بمستواه، لكن غير المبرر على الإطلاق هو أن تتحول الدولة إلى منتج لا يتقن آليات وخصائص السلعة التى يقدمها، ولعل فى مسار «مصر فون» بعد التأميم ما يؤكد أن البناء الذى يشيده فرد مخلص بالجهد والعرق، يفسده سريعا أهل الثقة ممن يجهلون طبيعة وخصوصية العمل المسند إليهم.

الفنان الكبير ليس من المستغلين أعداء الشعب، ولم تكن الأموال التى ينشئ بها مشروعه مشوبة بما يسيء إليه أو يشكك فى نزاهته، لكن المناخ العام كان يسير فى اتجاه مدمر بلا منطق رشيد يحكمه، يتأثر محمد فوزى بالصدمة القاسية غير المتوقعة، وتبدأ مسيرته المضنية مع المرض، ينخفض وزنه من ٧٧ إلى ٤٠ كيلو فقط، ولا يجد الأطباء الأمريكيون تفسيرا طبيا يبشر بالعلاج أو يكشف عن الغموض المحير، وما زالت الموسوعات الطبية العالمية تشير إلى المرض الغامض المعقد باسم محمد فوزي!

خمس سنوات من المعاناة، بين عامى ١٩٦١ و١٩٦٦، وفى العشرين من أكتوبر سنة ١٩٦٦ يرحل الفنان الكبير قبل عامين من الوصول إلى الخمسين.

أحببتك يا بلدى

الإيمان بالوطن، فى أحلك الظروف، من الدروس المهمة المستخلصة من حياة الفنان الكبير، وآية ذلك أنه ينجح إلى اليوم الأخير من حياته فى الفصل بين المعاناة الذاتية والتسامح الموضوعى الذى لا أثر فيه للمرارة.

لم يكن ضياع «تحويشة العمر» بالصدمة الهينة، وكان الشعور بالغضب واردًا ومبررًا، لأن التعرض للظلم الفادح يسيء ويدمى القلوب، لكن الفنان الوطنى كتم انفعالاته السلبية وتعذب فى صمت، وصمدت وطنيته الأصيلة للمحنة التى تدفع غيره إلى سلوك معيب مشين.

قبل أيام قلائل من موته، يكتب محمد فوزى رسالة ووصية، وكل كلمة تنم عن شعوره الغامر بالارتياح، لأنه يؤدى واجبه كاملًا.

لا يخفى قلقه على مستقبل أولاده الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والعاشرة، لكنه يبدو عظيم الثقة بأن الوطن كفيل بهم.

لا أثر للمرارة فى كلماته الدافئة البسيطة، ولا يكاد قارئ الرسالة يستوعب حقيقة موت الفنان القدير فقيرًا لا يستطيع أن يدبر تكاليف علاجه، وهو من كان قبل سنوات قلائل يملك آلاف الآلاف، ويأبى أن يكنزها، مؤثرًا استثمارها بما يعود على الجميع بالخير.

الأوطان باقية، أما الأفراد فزائلون، وكذلك الأنظمة التى تتبدل سياساتها وفق اجتهادات قد تخطئ وقد تصيب.

مثل الأرض المصرية الطيبة فى عطائها المتدفق الذى لا يتوقف، كان محمد فوزي، ومثل النيل مانح الخير والخصوبة يعيش فنان الشعب ليعطى ويمنح البهجة والمتعة، أمثاله لا يموتون ولا يغادرون الذاكرة الوطنية، ففى كل ساعة تتجدد ذكراه، وفى كل لحظة يستمع إليه ويشاهده وينتشى بعطائه ملايين من البشر، يجدون فيه إنسانا مصريا بسيطا يجتهد لخدمة الوطن والفن، يعانى ويكابد جراء سياسات خاطئة قاصرة ضيقة الأفق، لكنه يخلص فى انتمائه الوطنى الصادق، كاتما ما يعتمل فى أعماقه من حسرة ووجيعة، قانعًا بالغناء العذب الذى يغزو القلوب ويستوطنها:

بلدى أحببتك يا بلدي

حبًا فى الله وللأبد.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: محمد فوزى الفنان الکبیر محمد فوزى محمد فوزی لم یکن

إقرأ أيضاً:

سوريا.. حنين لا يغادر محبيها

حلم الرجوع يداعب أقلام الطيور المهاجرة
أدب العودة.. أمل تحقق أم سيظل طريدا؟

هذى دمشق.. وهذى الكأس والراح

إنى أحب... وبعـض الحـب ذباح

أنا الدمشقى.. لو شرحتم جسدى

لسـال منه عناقيـدٌ.. وتفـاح

و لو فتحـتم شرايينى بمديتكـم

سمعتم فى دمى أصوات من راحوا

زراعة القلب.. تشفى بعض من عشقوا

وما لقلـبى –إذا أحببـت جـراح
مآذن الشـام تبكـى إذ تعانقـنى

و للمـآذن.. كالأشجار.. أرواح
هنا جذورى.. هنا قلبى... هنا لغـتى

فكيف أوضح؟ هل فى العشق إيضاح؟


خمسون عاماً.. وأجزائى مبعثرةٌ..

فوق المحيط.. وما فى الأفق مصباح

تقاذفتنى بحـارٌ لا ضفـاف لها..

وطاردتنى شيـاطينٌ وأشبـاح


هكذا عبر نزار قبانى فى قصيدته الدمشقية عن ذلك الحنين الساكن فى حنايا قلوب المغادرين لأوطانهم قهرا..
نعم، إنه الوطن، جرح غائر، تستبيحه الغربة وتمد فى عمقه نصلا من نار، لا يشعر به إلا كل ذى وطن مستلب، باحتلال كان أو تهجير قسرى، أو حتى ظلم داخلى..
ولأنه الأنشودة الخالدة فى دماء العرب، ستظل العودة إلى الوطن أو إعادته حلم كل حالم، وزائرا دائما فى منامات العاشقين، وفوق أقلام المبدعين، لا يغادر ما يسطرون ولا تنساه أفئدتهم مهما ذاقوا استقرارا أو هدوءا فى بلاد الغربة.. فالوطن يقبع هناك، بين أدمى ربوة فى القلب.
منذ اندلاع الثورة السورية فى 15 مارس 2011، وما صاحبها من حرب ظلت نيرانها مستعرة لسنوات، وراح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى، فقد شهدت السنوات التالية على تلك الثورة عملية نزوح واسعة للمبدعين السوريين، الذين هاجروا لبلدان عربية وأوروبية، ليأمنوا فيها على أنفسهم وعائلاتهم، ويمارسوا إبداعهم الأدبى بحرية، ولمعت أسماء الكثيرين منهم فى سماوات الأدب وشقوا طريقهم بقوة إلى العالمية، عبر أعمالهم التى ألقى الواقع السورى الراهن بظلاله عليها.
ويعد الأدب السورى أعظم شاهد على المرحلة الأهم والأخطر من تاريخ سوريا المعاصر، فلا تكاد تخلو الأعمال من ثيمات الحرب والحلم والحب والموت والغربة والهجرة ومعاناة اللجوء.
ولا شك أن الأدب المهجرى السورى قد أسهم مساهمة جلية فى التعبير عن معاناة الشعب السورى فى ظل ثورته، حيث نجد كتّابًا توزعوا فى بلدان العالم حاملين معهم همهم الوطنى، وأحلامهم المؤجلة، وحنينهم الذبيح وظلّوا مخلصين فى كتاباتهم لما آمنوا به، رغم أوضاعهم النفسية الموسومة بالإحباط والوحشة، ومع ذلك بقيت قلوبهم معلقة فى وطنهم تقطر ألمًا جسدوه من خلال أقلامهم التى ما فتئت تبث الظلم والقهر الممزوجين بأمل الانتصار وحلم العودة.
* سوريا حاضرة فى أقلام أبنائها
هكذا تناول الأديب السورى فى مغتربه موضوعات شتى، لكن الأغلب الأعم طغى عليه المضمون (الاحترابى السياسى) وما خلفه من تداعيات، تبدى هذا جليا فى الكثير من الأجناس الأدبية التى اتخذها أدباء سوريا أداة لتعبيرهم، وبرزت على سطح الأدب أسماء مهمة، ربما لم تنل من الشهرة على أرض الوطن ما نالته فى بلدان المهجر، وربما استطاعوا التعبير بحرية أوسع وبأقلام أكثر انطلاقا من تلك التى وصمتهم بالتقييد والخوف والارتعاش تحت سماء الوطن المستلب.
وقد تبدى ظل الوطن حاضرا بين إبداع ما بعد ثورة سوريا، نذكر على سبيل المثال القليل، رواية «باب الأبواب» ليوسف دعيس، ورواية «الخميادو» لإبراهيم جبين، ورواية «حتى إذا بلغت الأربعين» لليندا الشبلى، ورواية «اغتصاب الياسمين» لرشا الحسين، وكذلك ديوان «فراشة ونور» لسمية علونى، وديوان «أناشيد ميونخ المؤجلة» لفواز القادرى، رواية «جمهورية العبث» لفواز العلو، و«صداع فى رأس الزمن» لعواد الجدى، رواية «أرمان»، مجموعتا «جرح الفينيق»، «الشهيد الحى» لريتا بربارة.، روعة سنبل «دو يك»، ناهدة شبيب».
فأغلب هذه النصوص الأدبية مهما تشعب سردها، أو اختلفت طريقة تناولها وزاوية ولوجها، يبقى الناظم الجامع لها، والمحور الأساس الذى تدور حوله هو الوطن ولا شىء سواه... ولنا أن نطالع بعض تلك النماذج:
ريتا بربارة: 
قاصة وروائية سورية، مقيمة بمصر، لها العديد من الإصدارات، أحدثها رواية «أرمان»، تتناول فيها ذوى الشهداء ومعاناتهم لفقدانهم أولادهم، كما تتطرق الرواية إلى الحرب وإفرازاتها من فساد وفقر وعهر.
كما تتناول رواية ريتا بربارة، ظهور تنظيم داعش فى مدينة الرقة والإرهاب الذى حدث فى سورية.. والرواية تتحدث عن بعض الشهداء الأبطال بأسمائهم الحقيقية مثل البطل الشهيد كريكور وعن والدته أمل التى حولت ألمها وحزنها إلى حالة إجابية رائعة.
تأخذنا الكاتبة ريتا بربارة من خلال روايتها أرمان، لنحيا معها لحظات وأحداث قد عايشتها بألم ووجع لا يدركه إلا من عايش الحرب فى وطنه.
لا تفقد ريتا الأمل فى العودة والانتصار، فهى تؤكد عبر «أرمان» أن سوريا ستنهض وتنفض عنها غبار الفقد والوجع والألم لتحيا من جديد كما طائر الفينيق وهذا ما أظهرته لنا من خلال مسيرة بطلتها «أمل».
* روعة سنبل
روائية وقاصة ومسرحية سورية، تعبر مجموعتها القصصية الأحدث «دو. يَك» عن شعور الفقد والاغتراب، وتحاكى الحياة بوصفها لعبة يكون فيها الربح والخسارة محكومَين بالحظ والمصادفات. وتشتمل المجموعة التى تقع فى 104 صفحات، على 15 نصًّا، بعدد الأحجار المخصصة لكل لاعب نرد. و«دو. يَك» هى رمية مرتبطة غالبا بالخسارات، التى هى الهاجس الأساسى للمجموعة القائمة بأكملها على فرضية أن عشر سنوات ثقيلة ومنهكة مر بها بلدها كافية ليكون الجميع خاسرين حتى من «نَجا» منهم.
وتدور القصص فى ثلاثة فضاءات، هى: «ذاكرة»، و«دروب»، و«ليل». وتعتمد سنبل تقنيات متنوعة فى القصّ، من دون أن تنتمى بصرامة إلى الواقعية، إذ تنطلق أحيانا نحو فضاءات المتخيل الفانتازى، فى محاولة لمجاراة عبثية الراهن وغرائبيته. وتتناول القصص ثيمات مختلفة تدور فى فلك الخسارات، مثل: الأحلام التى دُفنت، وأزمات الذاكرة التى خسرها أصحابها طوعا أحيانا للتخلص من عبء ما حملوه، أو كرها، لأن هناك من يشوهها ويطمسها، وكذلك الأزمات الوجودية لشخصيات خسرت ذواتها، وتحولت إلى كيانات أخرى لا تشبهها، أو خسرت كرامتها التى هُدرت فى طوابير طويلة بانتظار كفاف اليوم، أو سُفحت ثمنًا للخوف الذى يتنفسه الجميع.
ويمكن القول: إن الفقد والوحدة والاغتراب هى الثيمات الحاضرة فى أجواء المجموعة، وإن الذاكرة والأغنيات والحكايات تشكل عناصر متلاحمة مع السرد.
ناهدة شبيب
شاعرة سورية، تتضمن مجموعتها الشعرية الأحدث «أجراس الحنين» 38 قصيدة على الشكلين العمودى والتفعيلة،، تتنوع قصائد الكتاب بين الوجدانية والوطنية نزفت فيها الشاعرة من جرح الوطن صهيلا موجعا.
عرجت الشاعرة بروحها على المخيمات وحالة الفقر والجوع وترجمت معاناة المهاجرين فى البحر على متن سفن الموت وفى قصيدتها المزاد شرحت واقع الحال وماآلت إليه البلد من الخراب وراحت على رأيها تهرول فى صحراء الروح باحثة عن الخلاص بالكثير من الحسرة.
* أيا سوريا جرح لا يغادر منذ الأقدمين 
ولأن تاريخ سوريا يحفل بالاستلاب والظلم، يظل الهم السورى البطل الأوحد والأهم فى إبداع من أبدعوا، منذ الرواد والأقدمين، ليس فقط فى سطور المعاصرين والحداثيين، من برزوا بعد ثورة سوريا، بل هو ضارب فى عمق أقلامهم، كما يضرب حلم استعادة فلسطين فى عمق سطور كل عربى، فمن الشعراء السوريين الذين حملوا راية الوطن نذكر: محمد البزم خير الدين الزركلى.. خليل مردم بك..شفيق جبرى بدوى الجبل..نزار قبانى، سليمان العيسى، عبد الباسط الصوفى، على كنعان.. أدونيس.. فايز خضور، ممدوح سكاف، وآخرون.
ومن الروائيين والقصاصين والمسرحيين: حنا مينة ونبيل سليمان وعبد النبى حجازى وعبد السلام العجيلى وفارس زرزور ووليد إخلاصى وأحمد يوسف داوود وهانى الراهب وغادة السمان وناديا خوست وخليل النعيمى وحيدر حيدر.
فواز حداد ونهاد سيريس ومحمد أبو معتوق وممدوح عزام وعلى عبد الله سعيد وخليل الرز وعبد العزيز الموسى، سعيد حورانية وعبد الله عبد وزكريا تامر وجميل حتمل وإبراهيم صموئيل وغادة السمان وهيفاء بيطار)، سعدالله ونوس، حمدى موصللى ووليد فاضل ومحمد الماغوط وعبد الفتاح قلعه جى ورياض عصمت، الذين اعتمدوا على جهود سابقة قدمها ممدوح عدوان ووليد إخلاصى. 
* ألفت الإدلبى
ومن الروائيين والقصاصين الذين اتخذوا من الوطن هما لا يغادر، الروائية السورية ألفت الإدلبى، والتى تعد إحدى أشهر رواياتها “صبرية: دمشق يا بسمة الحزن” التى كتبتها عام 1980، وتصور معاناة فتاة سورية شابة بين يدى المحتل الفرنسى وضغوط المجتمع المتمثل بعائلتها وبحثها عن هويتها الشخصية والوطنية، وتمتْ كتابتها لتلائم عملاً تلفزيونياً سورياً، وأصبحت واحدة من الآثار الكلاسيكية الهامة فى الأدب السورى.
* خالد خليفة
أما خالد خليفة فهو الروائى والكاتب الحاصل على جوائز عديدة، والذى أحدثت أعماله جدلاً كبيراً فى بلده الأصلى، واجه خليفة من خلال أدبه وقائع المجتمع السورى المعاصر والحكومة.
أحد أهم موضوعاته وأكثرها تكراراً هو التوتر القائم بين الفرد والنظام السياسى ومعاناة الأول على يد الأخير، ولذلك قد منعت كتبه بشكل متكرر فى بلده سورية.
* حنا مينة:
كان لتصريحه الشهير: «ستصبح الرواية فى القرن الحادى والعشرين للعرب مكان ما هو عليه الشعر اليوم». الفضل فى أن يُنسب ل»حنا مينة» الريادة فى التقاليد الروائية السورية، وتعتبر روايات مينة أمثلة بارزة على الواقعية الاجتماعية، وتستكشف رواياته صعوبات وصراعات المواطنين العاديين الذين يعيشون فى المجتمع السورى.
أحد أهم أعماله «المستنقع» الذى استوحى من طفولته فى الاسكندرونة، والذى يعد مثالاً حياً على الفقر، الصراعات الطبقية والمرونة البشرية.
سعد الله ونوس:
على غرار كتّاب المسرحية الأوروبيين مثل «بيرتورت بريخت – Bertolt Brecht»، تدور أعمال ونوس حول العلاقة بين الهياكل الفردية والاجتماعية والسلطات، مستخدماً المسرح كمنصة لإشراك الجمهور بالأسئلة السياسية المثيرة بشأن المجتمع العربى المعاصر.
بهذه الطريقة، فإن مسرحياته تمثل نقد وردّ على الأدب والثقافة التى تسيطر عليها الحكومة.
لا يسعى ونوس لصنع السياسة اليومية، بل بدلًا من ذلك يسعى لاستجواب السياسة فى الحياة اليومية.
* سمر يزبك
الوعى السياسى والاجتماعى العميق الجذور المتشارك مع القضايا المعاصرة، والذى تنسجه فى أعمالها، هو ما يجمع كل إبداعها، ويعد كتابها «امرأة فى تبادل إطلاق النار: يوميات الثورة السورية 2012» أبرز مثال لذلك، وهو قصة مشاركتها فى الاحتجاجات ضد النظام السياسى فى سورية قبل هروبها النهائى والنفى إلى باريس، وحصل الكتاب على جائزة «PEN Pinter»، والتى تمنح سنوياً لكاتب دولى تعرض للاضطهاد بسبب أعماله.
* محمد الماغوط
احترف محمد الماغوط الفن السياسى، وقام بتأليف العديد من المسرحيات الناقدة. وتعتبر مسرحية غربة، ومسرحية خارج السرب، ومسرحية العصفور الأحدب، ومسرحية المهرج من أهم مسرحياته.
* نزار قبانى
رغم رومانسيته التى اشتهر بها، إلا أن شعره يواجه قضايا اجتماعية عميقة وخطيرة، جامعاً جمال وبساطة الأسلوب مع الحديث عن الثقافة والقومية العربية، ومكانة المرأة فى المجتمع، الأمر الذى جعل منه واحداً من أبرز الأصوات التقدمية المناصرة للمرأة فى سورية.
* حيدر حيدر
كثير هو إبداعه المقاوم والثائر، لكن يمكن اعتبار المجموعة القصصية «الفيضان»، أحد أشكال أدب المقاومة، فهى على تصويرها لمآل الدول العربية التى اُحتلت فى فترات ما من التاريخ الحديث، والإشارة سواء ضمنيًا أم مباشرة لتلك الحروب التى عانى ويلاتها وطننا العربى، إلا أن تجاوزها لمجرد الرصد الشكلى، وعبورها إلى الانعكاسات النفسية والاجتماعية، ودعوتها الضمنية للمقاومة والثورة على الظلم، كل ذلك إنما يرجح كفة انتمائها لأدب المقاومة فى معناه الأشمل والأعمق.
ففى مجموعته تلك تتمثل ذات حيدر الثائرة، وكأننا نراه فى ظلال أبطالها، فهو إذن ذلك السورى الذى غادر دمشق إلى الجزائر ليشارك فى ثورة التعريب، وهو نفسه من لحق بالمقاومة الفلسطينية مع بدايات الحرب اللبنانية.
إنه ذلك الأديب الثائر، الذى لم يكتفِ بالقلم سلاحًا، بل تجاوزه لفعل المشاركة، إنه العروبى القومى الذى أبى إلا أن يفنى عمره مقاومًا ثائرًا ضد الظلم أينما كان ووجد.
هكذا، توحد الكاتب مع أبطال قصص المجموعة، ففى كل قصة منها نلمح جيفارا العرب، الناقم الثائر على كل ضيم، والباحث الدائم عن حرية الشعوب وخلعها عباءة الاستسلام والمداجنة.
إذن، إذا كان الأدب الذى كُتِبَ فى سنوات الحرب السورية، بأقلام كتّاب وكاتبات أجبروا أو آثروا النزوح عن سوريا منذ أول رصاصة شهدتها التظاهرات التى عمّتِ البلاد، فهل بعدما تغير المشهد الآن، وما تشهده سوريا من عودة أبنائها إلى أرضها، وفرحتهم التى لا ينكرها شاهد، هل ننتظر أدبا من نوع آخر، قد يغادره حلم العودة والحنين إلى الوطن وبكاء التهجير والظلم والاستلاب؟ هل ننتظر أدبا يتغنى بواقع الاستعادة، ويرفل طربا بين ذراعى دمشق وحلب وغيرهما؟ هل يتحول حلم العودة الذى تحقق إلى أغنيات فرح وهزيج طرب فوق ربوع الوطن؟ أم أن القراءة الواقعية للمشهد السياسى تجعلنا نتريث فى انتظارنا هذا.. وربما أجلناه طويلا؟ ربما.

مقالات مشابهة

  • منير أديب يكتب: سوريا المستقبل من بين رحم المؤامرة
  • محمود حامد يكتب: سلامٌ على سوريا الماضى والحاضر والأمل
  • سوريا.. حنين لا يغادر محبيها
  • كأسك يا وطن
  • بيومي فؤاد عن قرار تولي زوجته مسئولية إدارة أعماله الفنية: «السبب خجلي»
  • عمرو مصطفى: «هدعم ماس رحيم بكل قوتي لتحقيق حلمها في الغناء» (فيديو)
  • عمرو مصطفى يكشف لصدى البلد عن مشروعات عمل لم تنفذ بسبب رحيل محمد رحيم
  • عمرو مصطفى لـ" البوابة نيوز": محمد رحيم أخويا وكان أذكى مني
  • الديمقراطية الزائفة «3»
  • د.حماد عبدالله يكتب: وما نيلُ المطالب بالتمنى !!