لجريدة عمان:
2024-11-26@17:12:52 GMT

الفن والتاريخ

تاريخ النشر: 16th, April 2024 GMT

الصلة بين الفن والتاريخ صلة وثيقة، ولكنها شائكة ومعقدة: فطالما تأمل الفن أحداث التاريخ وشخصياته المؤثرة في مساره، وطالما وثَّق التاريخ أعمال الفن وتطور صناعاته وأشكاله عبر التاريخ. وعلى هذا يمكننا القول إن وقائع التاريخ وأحداثه هي موضوع مشترك بين الفن والتاريخ. ولكن هذه الصلة أعقد كثيرًا من ذلك؛ لأن هذه الصلة تتبدد حينما ننظر إلى كلٍ منهما من حيث نهجيهما في تناول هذا الموضوع المشترك: فالفن يهتم دائمًا بالمعنى الكلي الذي توحي به الأحداث الجزئية؛ بينما التاريخ يهتم دائمًا بالوقائع والأحداث الجزئية ذاتها، أعني: أنه يهتم بهذا الحدث الذي وقع في التاريخ الفلاني، وبتلك الشخصية التي كانت مؤثرة.

ولا شك في أن البحث التاريخي في مثل هذه الحالات يتم وفقًا لمناهج وأصول البحث التاريخي، ومع ذلك فإن البحث هنا يظل بحثًا في الجزئي، بينما يسعى الفن إلى رؤية كلية.

لقد فطن أرسطو مبكرًا إلى هذا الاختلاف، فقال قولته الشهيرة: «إن الشعر أوفر من التاريخ حظًا من الفلسفة؛ لأن الفلسفة تبحث عن الكلي، بينما التاريخ يبحث عن الجزئي». وهذه العبارة تحتاج إلى تحليل: ينبغي أن نلاحظ أولًا أن «الشعر» هنا يعني الفن بوجه عام؛ لأن الشعر عند قدماء اليونان هو الفن الجامع (أي: الذي يجمع عند أدائه فنونًا أخرى: كالنص الشعري المسرحي، والتمثيل، والموسيقى والغناء). وينبغي أن نلاحظ ثانيًا أن مناط مقارنة أرسطو هنا بين الشعر/أو الفن وبين التاريخ هو الفلسفة، أي الرؤية الفلسفية باعتبارها رؤية كلية: فالفن/الشعر يهتم بما هو فلسفي أو كلي، بينما التاريخ يهتم بما هو جزئي.

كيف نطبق ذلك على الفن الذي يتمثل وقائع التاريخ وأحداثه وشخصياته؟ كيف نطبق ذلك على ما نسميه «فن التصوير التاريخي» و«الرواية التاريخية» على سبيل المثال؟ ما الذي يميز الفن عن التاريخ حينما يتأمل الفن التاريخ نفسه؟ لنتأمل حالة «فن التصوير التاريخي»:

فن التصوير التاريخي Historical Painting هو فن قد ساد في عصر النهضة والعصر الحديث، وهو فن يهتم بتصوير الأحداث التاريخية الكبرى وشخصيات الملوك والأمراء عبر التاريخ. ولقد برع في هذا الفن معظم الفنانين عبر العصور، ومنهم فنانون معاصرون عظام، من أمثال سِلفادور دالي الذي صور في لوحته الشهيرة «جيرنيكا» وحشية الحرب النازية على قرية مسالمة من القرى الإسبانية، وهو معنى يتجاوز الواقعة التاريخية بتفاصيلها الجزئية إلى التعبير الكلي عن معنى «وحشية الحرب» بوجه عام. ولكن يظل أعظم أساتذة هذا الفن هما: رافائيل وكوريجيو اللذان ينتميان إلى عصر النهضة. فقد استطاع هؤلاء الأساتذة تصوير الروح الكلية للعقيدة المسيحية التي تتمثل في الإيمان بأن السعادة الحقيقية هي سعادة أخروية؛ وهذه الروح «الإسكاتولوجية» أو الأخروية هي المسؤولة عن روح السكينة التي تتجلى في الشخوص المسيحية المقدسة التي عكف هؤلاء الفنانون على تصويرها: فغالبًا ما نجد المسيح في هذه اللوحات طفلًا مع أمه العذراء، أو نجدهما معًا وقد حفتهما الملائكة، وقد تبدى في عيونهم وإيماءاتهم الجسدية حالة الإيمان والرضى التي تتعالى على أية سعادة عابرة.

يهتم التاريخ بتسجيل مواقف الحكام والشخصيات المؤثرة في صنع الأحداث، سواء أكانت أحداثًا كلية عامة أم أحداثًا جزئية عابرة. ينشغل التاريخ بتوثيق الأحداث وفقًا لمناهج البحث التاريخي. ومع ذلك، فإنه لا يبقى من التاريخ سوى تلك الشخصيات والأحداث التي كانت لها أهمية في تغيير مسار التاريخ، أو كانت لها دلالة إنسانية عامة تتجاوز الوقائع الجزئية التي تحدد إطارها الزماني والمكاني. ولذلك فإن اهتمام التاريخ بالحكام والأبطال عبر العصور (مثل: الإسكندر الأكبر، وكليوباترا، ومحمد علي، ونابليون، وهتلر، وموسوليني، إلخ)، هو اهتمام لا قيمة له إن لم ننظر إلى هؤلاء باعتبارهم نتاجًا لعصر ما أو لمرحلة تاريخية ما، أعني: إنه ينبغي تناولهم باعتبارهم جزءًا في سياق مرحلة تاريخية ما. وهذا هو في الحقيقة الفارق الجوهري بين التاريخ وفلسفة التاريخ: فالتاريخ يهتم بما هو جزئي، بينما فلسفة التاريخ تهتم بما هو كلي. ولذلك فإن المؤرخ الذي يتجاوز الأحداث الجزئية إلى فهم دلالتها الكلية في سياق عصرها، لا يكون مجرد مؤرخ، وإنما يكون أيضًا فيلسوفًا للتاريخ.

وعلى هذا النحو نفسه ينبغي أن نفهم رسالة الفن: فرسالة الفن ليست رسالة أخلاقية كما يُروَّج العوام لذلك عادةً، وإنما هي رسالة في فهم معنى أو دلالة إنسانية عامة كما تتجلى من خلال مواقف شخصيات وأحداث جزئية. وبعبارة أخرى يمكن القول بأن هذا هو الفارق بين التاريخ وتأمل التاريخ. وفي ضوء هذا ينبغي أن نتأمل لوحة بيكاسو التي يصور فيها فظاعة ووحشية الحرب النازية على قرية مسالمة من قرى إسبانيا؛ وينبغي أن نتأمل أعمال نجيب محفوظ الروائية التي يصور فيها من خلال أحداث وشخصيات جزئية الروح المصرية كما تتجلى في مرحلة تاريخية معينة؛ والأمثلة على ذلك يمكن أن تتعدد إلى ما نهاية.

وعلى هذا، يمكننا القول إن الفن يكون قادرًا على التعبير عن روح التاريخ وحقيقته أكثر من التاريخ نفسه. وبهذا المعنى يمكن القول أيضًا إن الفن يكون أقرب إلى فلسفة التاريخ من التاريخ نفسه. ولهذا فإن المؤرخين العظام هم أولئك الذين تجاوزوا التاريخ نفسه إلى تأمل دلالة وقائعه وأحداثه، تمامًا مثلما فعل ابن خلدون منذ البداية، باعتباره المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ، وهو ما يتبدى بوضوح في مقدمة كتابه الشهير الذي يحمل عنوانًا طويلًا هو «كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».

د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التاریخ نفسه من التاریخ ینبغی أن أحداث ا بما هو

إقرأ أيضاً:

سلمان بن حمد وعبدالله بن زايد: العلاقات الإماراتية البحرينية تجسد الروابط الأخوية والتاريخ المشترك

استقبل الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء في مملكة البحرين اليوم الإثنين، في قصر القضيبية الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية.

ونقل الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان إلى  الأمير سلمان بن حمد آل خليفة تحيات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس الدولة، نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس ديوان الرئاسة، وتمنياتهم لمملكة البحرين وشعبها دوام التقدم والازدهار.
ورحب الأمير سلمان بن حمد آل خليفة بزيارة الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان والوفد المرافق بمناسبة انعقاد الدورة الـ 12 من اللجنة العليا المشتركة بين البلدين، وحمله تحياته إلى الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، والشيخ منصور بن زايد آل نهيان، وتمنياته لدولة الإمارات وشعبها المزيد من الرفعة والنماء.

أسس صلبة

وأكد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة أن العلاقات البحرينية الإماراتية بنيت على أسس صلبة تجسد وشائج الأخوة والتاريخ المشترك، وتمثل نموذجاً متقدما للعلاقات الأخوية والاستراتيجية.
وأشار إلى أن أوجه التعاون الثنائي بين البلدين تحظى على الدوام برعاية واهتمام من الملك حمد بن عيسى آل خليفة،عاهل مملكة البحرين، والشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات مع الحرص المستمر على مواصلة تطويرها والدفع بها نحو فضاءات أشمل على كافة الصعد.
من جانبه أعرب الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان خلال اللقاء عن اعتزازه بالروابط الأخوية الوطيدة التي تجمع دولة الإمارات ومملكة البحرين، مشيداً بما تشهده علاقات التعاون والشراكة بين البلدين من نمو وتطور على الصعد كافة وفي مختلف القطاعات التي تدعم الأهداف التنموية للبلدين.
كما أعرب عن تقديره العميق للأمير سلمان بن حمد آل خليفة، على ما يوليه من اهتمام وحرص بالغ على تطوير وتنمية العلاقة الأخوية ومسارات التعاون الثنائي بما يسهم في تحقيق التنمية الشاملة والازدهار الاقتصادي المستدام للبلدين وشعبيهما.
حضر اللقاء عبدالله بن طوق المري وزير الاقتصاد، ونورة بنت محمد الكعبي، وزيرة دولة ، والدكتور سلطان بن سيف النيادي، وزير دولة لشؤون الشباب، وخليفة شاهين المرر، وزير دولة، وسعيد مبارك الهاجري، مساعد وزير الخارجية للشؤون الاقتصادية والتجارية، وفهد محمد سالم بن كردوس العامري، سفير الدولة لدى مملكة البحرين، وعدد من كبار المسؤولين في كلا البلدين.
وأقام الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء في مملكة البحرين مأدبة غداء تكريماً للشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية والوفد المرافق.

#عبدالله_بن_زايد: البحرين شريك استراتيجي للإمارات في كافة المجالاتhttps://t.co/wHF60eyGAH pic.twitter.com/LZPOB2cDtS

— 24.ae | الإمارات (@24emirates24) November 24, 2024

مقالات مشابهة

  • إلى التي فاق مجدها حدود الفنّ... لبنان يحنّ لـالشحرورة في كلّ صباح
  • فريدمان يوجه رسالة تحذيرية إلى ترامب.. العالم تغير والتاريخ لا يرحم
  • أبو الغيط: الجامعة العربية تحرص على الالتزام الثابت بالسلام والمبادئ الحقوقية والإنسانية التي تغذيها جروح التاريخ
  • إشارة غامضة قبل أقوى انفجار بركاني في التاريخ.. ما الذي كشفه العلماء؟
  • سلمان بن حمد وعبدالله بن زايد: العلاقات الإماراتية البحرينية تجسد الروابط الأخوية والتاريخ المشترك
  • المالكي يصف موقف المحكمة الجنائية الدولية بتجريم نتنياهو بـ”التاريخي”
  • تحليل الأعمال الفنية التي تتناول موضوعات الذاكرة والنسيان: تداخل بين الماضي والحاضر
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • ثنائية الماء والتاريخ في رواية «عروس الغرقة» للكاتبة أمل الصخبورية
  • سيميوني التاريخي يصل للمباراة رقم 700 مع أتلتيكو مدريد