حكم نقل الوديعة بسبب سفر المودع عنده
تاريخ النشر: 16th, April 2024 GMT
قالت دار الإفتاء المصرية، إنه لا يجوز للمودع عنده نقل الوديعة دون إذنٍ مِن المودِع، ونقلُها موجِب للضمان، إلا إن أودَعَها عند مَن يثق بهِ في حفظِ ماله، أو كان في حالةِ عذرٍ وضرورةٍ كالسَّفر، فيجوز له حينئذٍ أن ينقلها إلى مَن يثق بهِ في حفظِ ماله حتى يعود مِن سفره، ولا ضمان عليه في تلك الحالةِ، مع التأكيدِ على عدمِ التساهل في حفظ الأمانة، ومراعاة تسليمها لصاحبها عند طلبها دون نقصٍ أو تلفٍ.
أَمَرَت الشريعة الإسلاميَّة بأداءِ الأماناتِ، وعدمِ تضييعِها أو التقصيرِ في حفظِها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]، وقال جَلَّ وَعَلَا: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» أخرجه الإمامان: أبو داود والترمذي في "السنن".
دار الإفتاء المصريةقال الإمام زين الدين المُنَاوِي في "التيسير بشرح الجامع الصغير": [(الأمانة) هي كل حقٍّ لزمك أَدَاؤُهُ (إلى مَن ائتمنك) عليها].
والوديعةُ مِن عقود الأمانات، وهي مِن الوَدعِ بمعنى التَّرك، كما في "المصباح المنير" للعلامة الفَيُّومِي، والمراد بها: ما يَدفَعهُ الإنسان مِن المال لغيرِه ليحفظَه له ويَرُدَّه بعَيْنِه، وعلى هذا تعاوَرَت نصوصُ الفقهاء. كما في "رد المحتار" للإمام ابن عَابِدِين الحنفي، و"شرح الإمام الخَرَشِي المالكي على مختصر خليل"، و"روضة الطالبين" للإمام النَّوَوِي الشافعي، و"الإنصاف" للإمام علاء الدين المَرْدَاوِي الحنبلي.
مذاهب الفقهاء في حكم نقل الوديعة بسبب سفر المودع عندهالوديعة إما أن تكون بأجرٍ أو بغير أجرٍ، فإن كانت بغير أجرٍ -كما هي مسألتنا- فهي عقدٌ لا ضمان فيهِ إلا بالتَّفريطِ والتَّعدِّي؛ لأنَّها "مَعرُوفٌ وَإِحسَانٌ، فَلو ضُمِنَت مِن غَيرِ عُدوَانٍ زَهَدَ النَّاسُ فِي قَبُولِهَا فَيُؤدِّي إِلَى قَطعِ المَعرُوفِ"، كما قال الإمام الشِّيرَازِي في "المهذَّب".
ويُؤيِّد ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ» أخرجه الأئمة: ابن ماجه والدارقطني والبيهقي في "السنن".
والفقهاء متفقون على أنَّ الضمانَ في الوديعةِ لا يَثبُت إلا بالتقصير والتعدي، كما في "بداية المجتهد" للإمام ابن رُشْدٍ الحفيد، وحكى الإمامُ شهاب الدين القَرَافِي الإجماعَ عليه في "الذخيرة".
والوديعة عقدٌ يُراعَى فيه الاعتبارُ الشَّخصِي، حيث يُقصَد منه حِفظُ المال، ولولا ثِقةُ المودِع في أمانة مَن أَودَع مالَه عندَه بخصوصِهِ ولشخصِهِ، وتعلَّقَت إرادتُه بإبقاءِ مالِه تحتَ يدِه، مَا دَفعَه إليه وديعةً.
ومِن هذا المُنطلق اتَّفق الفقهاءُ على عدم جواز نَقلِ المودَع عنده الوديعةَ إلى غيره دون إذنٍ مِن المودِع إلا في حالةِ العُذرِ والضرورةِ الملجئةِ، كما في "تبيين الحقائق" للإمام فخر الدين الزَّيْلَعِي الحنفي، و"الذخيرة" للإمام شهاب الدين القَرَافِي المالكي، و"منهاج الطالبين" للإمام النَّوَوِي الشافعي، و"المغني" للإمام مُوَفَّقِ الدِّين ابن قُدَامَة الحنبلي، وهو ما جَرَى عليه القانون المدني رقم (131) لسنة 1948م في مادته رقم (721).
إلا أنهم اختلفوا في اعتبار إرادةِ السَّفر عذرًا مِن تلك الأعذار والضرورات الملجئة، والتي تُسَوِّغُ للمودَع عِندَه نقلَ الوديعة لأمينٍ دون إذنٍ مِن المودِع مِن غير أن يَضمنها.
فذهب الحنفية إلى أنَّ إرادة السَّفرِ ليست مِن جملة هذه الأعذار.
قال الإمام علاء الدين الكَاسَانِي في "بدائع الصنائع": [فلو أراد السفرَ، فليس له أن يُودِعَ؛ لأنَّ السَّفَرَ ليس بعذرٍ].
إلا أنَّه لما كانت الغَايَة عندَهم في الودائِع أن يَحفظها المودَع عنده كما يحفظ مالَه، فقد نصَّ الإمام محمد بن الحَسَن الشَّيْبَانِي في روايةٍ بأنَّ حِفظَ الوديعةِ يتحقَّق بحِفظ المودَع عنده لها بنَفْسه، أو بعيالِه، أو بمَن يَثِقُ بهِ في حِفظِ مالهِ، فلو نَقَلَ الأمانَةَ إليهِ لا يَضمن، وقد نُقِل عن شمس الأئمة الحَلْوَانِي بأنَّ هذه الرواية هي المُفتى بها في المذهب.
قال الإمام فخر الدين الزَّيْلَعِي في "تبيين الحقائق": [وعن محمدٍ: أنَّ المودَع إذا دفع الوديعة إلى وكيله وليس في عياله، أو دفع إلى أمينٍ مِن أمنائِهِ ممن يثق به في ماله وليس في عياله -لا يَضمن؛ لأنه حَفِظَه مثلَ ما يَحفظ مالَه وجعله مثله، ولا يجب عليه أكثر مِن ذلك، ذكره في "النهاية" ثم قال: وعليه الفتوى، وعزاه إلى التُّمُرْتَاشِي، وهو إلى الحَلْوَانِي].
بينما ذهب المالكيَّة إلى أنَّ السَّفر الطارِئ عذرٌ يَجُوز بهِ للمودَع عندَه نقلُ الوديعة مِن غير ضمانٍ إذا لم يستطع تسليم الوديعة لصاحبها عند سفره؛ لأنه يكون حافظًا لها في تلك الحالة.
والأصل فيه فِعلُ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما استخلَف سيدَنا عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه ليؤدِّيَ الودائعَ إلى أهلها، تقول أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: «وَأَمَرَ -تعني رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ بِمَكَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ» أخرجه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى"، وذكره الإمام ابن الأثير في "الكامل في التاريخ".
قال الإمام ابن الحَاجِب في "جامع الأمهات" (ص: 404، ط. دار اليمامة): [وَيضمن بالإيداع وَالنَّقْل.. فَإِن أودع لعذرٍ كعورةِ منزلِه، أَو لسفرِه عِنْد عجزِ الرَّد، لم يضمن وَلَو لم يُشْهد].
وقال الإمام أبو البَرَكَاتِ الدَّرْدِير في "الشرح الكبير": [(و) ضَمِنَ (بإيداعها) عند أمينٍ.. (إلا) أن يودِع (لعورةٍ حدثت) للمودَع بالفتح، والمراد بالعورة: العُذر كهدم الدَّار وجارِ السُّوءِ (أو لسفرٍ) أي لإرادة سفر طرأ عليه (عند عجز الرَّدِ) لربِّها غائبًا أو مسجونًا مثلًا، فيجوز له إيداعها، ولا ضمان عليه إن تلفت أو ضاعت].
وأمَّا الشافعية والحنابلة فقد وافقوا المالكية في اعتبارهم أنَّ السَّفر مِن جملة الأعذار التي لا يطالَب معها المودَع بالضمان إن نَقَل الوديعة، إلا أنهم اشترطوا في النقل ترتيبًا خاصًّا، فينقلها أولًا إلى الحاكم أو القاضي، فإن تعذَّر النقل لهم فله نقلها حينئذٍ إلى مَن يأمنه عليها، وإن خالف الترتيب دون عذرٍ ضَمِن، كما في "أسنى المطالب" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي، و"شرح منتهى الإرادات" للإمام أبي السَّعَادَاتِ البُهُوتِي الحنبلي.
إلا أنه قد نَصَّ بعض فقهاء الشافعية والحنابلة على أنَّ الترتيب المشروط خاصٌّ بالزَّمان الأول، ولم يَعُد معمولًا به في زمانهم؛ لفساد الزَّمان، كما أنَّ الأمِين قد يكون أحفظَ للوديعة وأحبَّ إلى صاحبها مِن غيره، فلا يضمن إن أودعها عند أمينٍ مع وجود الأسبق له في الترتيب، كما نقله شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن الإمام الفَارِقِي في "أسنى المطالب" (3/ 77)، ونصَّ عليه الإمام مُوفَّقُ الدين ابن قُدَامَة في "المغني.
فإن كان الترتيب غير معمولٍ به في زمانهم، فإنَّ هذا الزَّمان أولى؛ لكثرةِ النَّاسِ، واختلاف عاداتِهم وأعرافِهم، وتغيُّرِ نمط الحياةِ عامَّةً عمَّا كان عليه عندهم.
هذا ولم يشترط القانون المدني المصري حال نقل الوديعة للضَّرُورَةِ -والتي منها السَّفر عند جمهور الفقهاء- أن يكون الترتيب على نحوٍ محدَّدٍ أو لأشخاصٍ معيَّنِين، حيث نصَّت مادتُه رقم (721) على أنَّه: [ليس للمودَع عنده أن يحل غيره محله في حفظ الوديعة دون إذنٍ صريحٍ مِن المودِع، إلا أن يكون مضطرًّا إلى ذلك بسبب ضرورةٍ ملجئةٍ عاجلةٍ].
وحيث تقرَّر أنَّ السفر مِن جملة الضرورات، وأنه عاجلٌ -كما ورد في السؤال- فيترك الأمر فيه على المشروعيَّة والسَّعةِ، للمودَع عنده في نقل الوديعة لمن يثق فيه إن كان ذلك هو الأصلح في تقديره لحفظ الوديعةِ؛ إذ يختلف الحفظ في كلِّ شيءٍ بحسبه، على أن تكون مشروعية التصرف في الوديعة بالنقل إلى الأمين دون ضمانٍ، بالقدر المُحتاج إليه ولا تتعداه؛ "لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا"، كما في "قواعد الأحكام" لسلطان العلماء عِزِّ الدين بن عبد السلام.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الوديعة الإفتاء دار الإفتاء حفظ الأمانة الشريعة الإسلامي ة م ن المود ع قال الإمام ل الودیعة دون إذن على أن ع عنده الله ع کما فی إلا أن فی حفظ ى الله
إقرأ أيضاً:
الإفتاء تكشف عن سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
أوضحت دار الإفتاء المصرية، برئاسة الدكتور نظير عياد مفتي الديار، سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، موضحاً أنها أعطرَ سيرة عرفَتْها البشريةُ في تعاليم التسامح والنُّبْل والعفو؛ فقد منحه الله سبحانه وتعالى مِن كمالات القِيَم ومحاسن الشِّيَم ما لم يمنحه غيره من العالمين قبله ولا بعده، وجعله مثالًا للكمال البشري؛ في التعايش، والتسامح، والرحمة، واللين، واللطف، والعطف.
سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلمقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال سبحانه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» رواه الحاكم في "المستدرك".
ولم يكن خطابُه صلى الله عليه وآله وسلم موجهًا للمسلمين فقط، وإنَّما شَمِل كلَّ النَّاس في المدينة مسلمين وغير مسلمين، أهل الكتاب وغيرهم؛ بدليل أن راوي هذا الحديث هو سيدنا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكان وقتَها كبيرَ أحبارِ اليهود وعالمَهم الأول.
وعلى السماحة والتعايش واحترام الآخر تأسَّس المجتمعُ الإسلامي الأول؛ حيثُ أمر الشرع بإظهار البر والرحمة والعدل والإحسان في التعامل مع أهل الكتاب المخالفين في العقيدة؛ فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، فعاش اليهود في كنف الإسلام، يحترم المسلمون عاداتهم وأعرافهم.
واحترمت الشريعة الإسلامية الكتب السماوية السابقة، رغم ما نَعَتْه على أتباعها من تحريف الكلم عن مواضعه، وتكذيبهم للنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فبعد غزوة خيبر كان في أثناء الغنائم صحائف متعدِّدة من التوراة، فجاءت يهود تطلبها، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بدفعها إليهم، كما ذكره الإمام الدياربكري في "تاريخ الخميس في أحوال أنْفَسِ نَفِيس صلى الله عليه وآله وسلم" (2/ 55، ط. دار صادر)، والشيخ نور الدين الحلبي في السيرة الحلبية "إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون" (3/ 62، ط. دار الكتب العلمية).
وأضافت الإفتاء قائلة: وهذه غاية ما تكون الإنسانية في احترام الشعور الديني للمخالف رغم عداوة يهود خيبر ونقضهم للعهود وخيانتهم للدولة؛ حيث كانوا قد حزبوا الأحزاب، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، واتصلوا بالمنافقين وغطفان وأعراب البادية، ووصلت بهم الخيانة العظمى إلى محاولتهم الآثمة لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وتابعت: وبلغ من تسامح النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نهى المسلمين عن سب الأموات من المشركين بعد وفاتهم إكرامًا لأولادهم وجبرًا لخواطرهم؛ فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "لَمَّا كان يوم فتح مكة هرب عكرمة بن أبي جهل وكانت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأةً عاقلةً أسلمت، ثم سألَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمانَ لزوجها فأمرها بردِّه، فخرجت في طلبه وقالت له: جئتُك مِن عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، وقد استأمنتُ لك فأمَّنَك، فرجع معها، فلما دنا من مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: «يَأْتِيَكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلَا تَسُبُّوا أَبَاهُ؛ فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ وَلَا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ» فلما بلغ باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استبشر ووثب له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائمًا على رجليه فرحًا بقدومه" أخرجه الواقدي في "المغازي"، ومن طريقه الحاكم في "المستدرك".