التصوّف في الحضارة الإسلاميّة مجالٌ وسيع ورحبٌ يعسرُ حدّه وضبطه، وقد شهد عالم الشباب العربيّ في العشريّة الأخيرة عودة إلى التصوّف بعد انتشاره في صيغ متعدّدة كونيّا، الشباب العربي خاصّة في المهجر صار مهوسا بالنوازع الصوفيّة، وهي نوازع تشفّ عن رغبة في العودة إلى عالم الروحانيّات بعد إيمانٍ طغى بالعالم التقنيّ الماديّ الذي تصدّأ وعفّن الأنفس والأرواح.
شبابنا العربيّ اليوم هو شباب واعد، له وعي يفوق سنواتنا البدائية، وله آليات تعقّل وإدراك ينبغي على جيلنا العاجز المليء بالهزائم والفشل أن يؤمن بها، وأن يؤمن بهم، وأن يُفتّح أمامهم طُرق الإيمان وألاّ يُعطِّل أو يُحقِّر أو يُدجِّن أهواءهم وفكَرَهم واعتقادهم. اللجوء إلى الفكر الصوفيّ، أو الظاهرة التي يُسمّيها بعض المتخصّصين «العودة إلى الصوفيّة» هي ظاهرة أنتروبولوجيّة فكريّة فيها استصفاء للبعد الروحي للدين بعيدا عن تفصيلاته وتمذهباته.
الفكر القادم هو فكرٌ يعمل على التجرّد من التمذهب ورؤية العقيدة من زاوية محدودة، غير أنّ التصوّف هو في حدّ ذاته أيضا منزع مليء بالشوائب، ومتّخذٌ أشكالا قد تخرج عن حدّ صفاء الروح ومعانقة عوالم التهويم المطلق، إلى إتيان طُرق من الشعوذة وانتهاج سلوك داع للنكران أو هي تتحوّل عقائد «مضنون بها على غير أهلها» -على حدّ عبارة الإمام الغزالي- أو علوما لا يَصحّ أن يخوض فيها العامّة (المملوءة بطونهم بالأهواء).
الصوفيّة أيضا عالم مليء بالأهواء والظنون على الرغم من جماله وصفائه، ومن يدخل هذا العالم خلوا من هدايةٍ وعلم وإدراكٍ قد يحيد عن جادّة السبيل ويتوه في طلاسمه ورموزه، «ومن لا شيخ له، فإنّ الشيطان شيخه»، وهنا يأتي دور العالم في هذا الزمان، العالم الذي يجب أن يترك جبّة التفكير والتنكير والرفض والتنظير لعالم ماضٍ انقضى، وأن يفهم حاجات هذا الجيل وأن يُبسِّط له المعارف ويقدّمها له، فعوض مثلا أن نُحذّر الشباب من المنازع الصوفيّة، وأن نُكفّر بعضها وننكر البعض الآخر، نوضّح لهم أن تهذيب السلوك وخلوة الروح والزهّد في ماديّات الحياة أمور مرغوبة مطلوبة، أمّا التجنيح في ما عدا ذلك فأمور لا يُدركها إلاّ من أوتي علما ووعيا وتفصيلا به يُمكن أن يفصل بين اليقين والظلال، وبين الجهل والعلم. وعموما فإنّ هذا النزوع الشبابيّ إلى الاطّلاع على الصوفيّة لا يحتاج إلى علماء أو مرشدين، فهؤلاء الشباب لهم وسائطهم وأدواتهم ومصادرهم، ولن يخوضوا حتما في تفصيلات التصوّف ولا أبوابه الموغلة، المؤديّة إلى الشكّ، لأنّهم يحتاجون إلى قيمة الظاهرة دون عمقها الغائص.
التجربة العربيّة لهؤلاء الشباب حوّلت النزعة الصوفيّة الشعبيّة إلى فنّ، إلى مشاهد فرجويّة، تمّ فيها توظيف التصوّف الطرقي، أو تصوّف الزوايا في الموسيقى والعروض المسرحيّة وتمّ الدمج في أغلب الأحيان بين الموسيقى والمسرحة في عروض تُستَدعى فيها الأذكار والأوراد ويُعاد تهيئتها وتحديثها موسيقيّا ووضعها في مشاهد فرجويّة لاقت القبول الحسن، وقد بدأ هذا التوظيف منذ تسعينيّات القرن الماضي، وتواصل لحد اليوم.
أمّا في الأدب فإنّ التزوّد من الصوفيّة والنهل من منابعها واستعمال عناصرها في الحكاية خاصّة بقي ظلاّ شحيحا، وأثرا خفيفا، بالرغم من أنّ التصوّف الشعبيّ -على علاّته الاجتماعيّة والنفسيّة والحضاريّة- يحوي في مظاهره ومرجعيّاته زادا روائيّا وقصصيّا ما زال لم يُوظَّف على الشكل الأمثل، والتصوّف العالم يفتح أبوابا من التوظيف السردي يُمكن أن تُغني السرد العربي وأن تنقله من حال الفقر الموضوعاتي الذي بدأ يغلب عليه.
لقد أثارت رواية إليف شافاق «قواعد العشق الأربعون» التي تضمّنت في أثنائها قصّة الشاعر الصوفي الفارسي جلال الدين الرومي مع شيخه شمس الدين التبريزي، شغف القراءة لدى طبقة هامّة من جيل الشباب، وأثار التوظيف الذكيّ للقصّة الرسالة، المُضمَّنة، لجلال الدين الرومي إعادة تفكير في قدرة المخازن التراثيّة القصصيّة وإمكان دعوتها واستعمال حمولاتها الدلاليّة والرمزيّة. لقد أجمع النقد على أنّ رواية إليف شافاق أسهمت بقسط وفير في دعوة الناس إلى الصوفيّة وفي استدراجهم إلى عوالمها، وفي تغذية شغفهم للعودة إلى منابعها والاطّلاع على مفاهيمها، على الرغم من أنّ تاريخنا الروائيّ الحديث قد شهد أعمالا تغذّت من الصوفيّة الشعبيّة أو العالمة، لعلّ أجلاها «تجليّات» جمال الغيطاني ودراويش نجيب محفوظ، عوالم من الأحوال ومن الشعبيّات الصوفيّة بدت في ما كتبه الطيب صالح ويحيى حقّي ومحمود المسعدي وإبراهيم الكوني والطاهر وطّار، ولكن هذا التوظيف الفنّي لم يُلاق في التلقّي الشبابيّ حظوة وحسن قبول مثل ما لاقاه كتاب «قواعد العشق الأربعون» الذي هوس جيل الشباب وشدّهم إلى عوالم استحسنوا مظاهرها.
فهل للفكر العربيّ أن يعيد صياغة أسئلته الحضاريّة، وأن يقف على القضايا الفكريّة والحياتيّة الحقيقيّة بعيدا عن التحليل والتحريم، وبعيدا عن التجريم والتخوين، وأن يُفكّر مرّة في تاريخه بشكل مساوق لطبيعة المرحلة الحضاريّة الهشّة التي نكاد فيها نفقد اليقين في قيم بدت للعالم حتميّة وصارخة، وهل نعود إلى الأرضيّة التي بذرها الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغانشتاين رفضا للعلم ولفظا للتقدّم عند عجزهما عن تحقيق آمال الإنسان؟
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الصوفی ة التصو ف
إقرأ أيضاً:
الكرة المغربية تتألق وتتعملق.. منتخب الشباب يتفوق على الأول
بين "أسود الأطلس" وأشباله ولبؤاته، تتنقل كرة القدم المغربية في حقول المستديرة الساحرة لتقطف زهرة رابع مونديال 2022 ونهائي كأس تحت 20 عاما، وبرونزية أولمبياد باريس 2024.
وخلال سنوات معدودات، استطاع المغرب أن يتحول من منتخب مغمور ولا يظفر بالبطولات الأفريقية ولا حتى العربية، إلى "مارد كروي" يلتهم الفرق المنافسة بغض النظر عن قوتها وليس فقط على مستوى المنتخب الأول بل أيضا في المنتخبات السنية والنسوية بخلاصة مفادها ومرحلة شعارها "ربيع مغربي كروي".
اقرأ أيضا list of 1 itemlist 1 of 1بطولات كرة القدم العالميةend of listوفي السياق نفسه، يقول الموقع الرسمي للاتحاد الدولي للعبة (فيفا) عن هذه الإنجازات إن "العامل المشترك في معظمها أنها تحدث لأول مرة في تاريخ أفريقيا والعرب وليس فقط في تاريخ المغرب. إنجازات غير مسبوقة في زمن قياسي، وبعد فترة لم تكن فيها المغرب في الواجهة".
ونبدأ من آخر إنجاز حققه المغرب عبر منتخب تحت 20 سنة، إذ تأهل لأول مرة في تاريخه، إلى نهائي كأس العالم. وضرب فوز المغرب على منتخب فرنسا بركلات الترجيح، عصفورين بحجر واحد، الأول العبور إلى النهائي والآخر الثأر للمنتخب الأول من خسارته أمام فرنسا في نصف نهائي مونديال 2022 ووقف مغامراته وقصته الخيالية في المونديال القطري.
وأصبح ثاني منتخب عربي يصل إلى النهائي البطولة، بعد قطر عام 1981، عندما خسرت أمام ألمانيا الغربية 0-4 في أستراليا.
وبات المغرب ثالث منتخب أفريقي يبلغ النهائي بعد:
غانا التي فازت بنسخة 2009 على حساب البرازيل بركلات الترجيح، وخسرت نهائي 1993 أمام البرازيل 1-2، و2001 أمام الأرجنتين 0-3. نيجيريا التي خسرت نهائي 1989 أمام البرتغال 0-2، و2005 أمام الأرجنتين 1-2.وكانت أفضل نتيجة سابقة للمغرب حلوله في المركز الرابع في نسخة 2005 في هولندا.
ويبدو أن اللاعبين الشباب الذين يلعبون بقتالية ووفاء لبلادهم لن يرضوا بغير اللقب بديلا رغم أنهم يواجهون في النهائي، منتخب الأرجنتين صاحب الرقم القياسي بعدد مرات إحراز اللقب (6).
إعلانوعن مشوار "أشبال الأطلس" في البطولة يقول نجم المنتخب عثمان ماعما إنه "لم نستسلم في أي لحظة، على الرغم من صعوبة البطولة. أظهرنا مرة أخرى الوجه الجميل للمغرب".
وتابع أنه "ألعب من أجل فريقي، بلدي، ووطني، ومن أجل الجميع. نأمل أن نستمر بنفس المستوى في النهائي. لدينا مباراة واحدة فقط لتحقيق لقب البطولة، وأتمنى أن أقدم أفضل ما لدي، وأن يبذل الفريق كل ما عنده".
أما المدرب محمد وهبي، فأكد أنها "لحظة تاريخية لنا، وسنلعب في النهائي بنفس العقلية القتالية".
وبعد حلوله في المركز الرابع بمونديال قطر وفتح باب العالمية للكرة المغربية بالفوز على منتخبات الصف الأول في العالم مثل إسبانيا والبرتغال قبل أن يخسر أمام فرنسا في نصف النهائي، وقبل ذلك تصدّر المغاربة ترتيب المجموعة السادسة أمام منتخبات أوروبية عريقة مثل بلجيكا وكرواتيا برصيد 7 نقاط.
ويعود المنتخب الأول إلى الأضواء العالمية من نافذة رقم قياسي في التصفيات الأفريقية المونديالية، إذ حصد "أسود الأطلس" العلامة الكاملة في مجموعته الخامسة بتغلبه على الكونغو، متجاوزا الرقم القياسي لمنتخب إسبانيا في عدد الانتصارات المتتالية.
وحقق المغرب الفوز الثامن في الجولة الثامنة من مباريات المجموعة، ليكون المنتخب الوحيد الذي حقق الفوز بجميع مبارياته في التصفيات الأفريقية لنهائيات 2026 المقررة في الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.
وحقق المغرب الانتصار 16 على التوالي متجاوزا الرقم القياسي لإسبانيا التي حققت 15 انتصارا متتاليا بين يونيو/حزيران 2008 ويونيو/حزيران 2009.
وكانت آخر مرة فشل فيها المغرب في تحقيق الفوز عندما تعادل سلبيا مع موريتانيا في مباراة ودية في مارس/آذار 2024، لكنه منذ ذلك الحين، حقق 7 انتصارات في 7 مباريات بتصفيات كأس العالم، و6 مباريات بتصفيات كأس أمم أفريقيا و3 مباريات ودية.
الكرة المغربية تتألق وتتعملقوبعد رابع العالم في مونديال 2022، فتحت "طاقة القدر" الكروية على الكرة المغربية لتظفر بعدد من الألقاب المهمة على صعيد المنتخبات الأولمبية والسنية والنسوية ومنتخب الصالات:
2022: منتخب كرة الصالات يظفر بلقب كأس القارات عقب فوزه في النهائي على إيران حامل اللقب 4-3 2022: بلغ منتخب السيدات نهائي كأس أمم أفريقيا للسيدات للمرة الأولى في تاريخه، ولكنه خسر اللقب أمام جنوب أفريقيا 1-2. 2023: شاركت "لبؤات الأطلس" بكأس العالم للسيدات وخسرن في ثمن النهائي أمام فرنسا 0-4. 2023: منتخب الشباب تحت 17 عاما يشارك في كأس العالم ويخرج من ربع النهائي أمام مالي. 2023: منتخب الشباب تحت 23 عاما يتوج بكأس أفريقيا بعد الفوز في النهائي على مصر 2-1. 2024: المنتخب الأولمبي ظفر بالميدالية البرونزية عقب فوزه الساحق على نظيره المصري 6-0، ليصبح "أسود الأطلس" أول منتخب عربي يحقق هذا الإنجاز الأولمبي. 2025: منتخب الناشئين تحت 17 عاما يتوج بكأس أمم أفريقيا للمرة الأولى في التاريخ. 2025: كأس أمم أفريقيا للمحليين. استثمار طويل الأمدومن الواضح أن المسيرة التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا لم تكن وليدة الصدفة، لكنها جاءت نتيجة عمل جاد واستثمار رياضي طويل الأمد انعكس بالإيجاب على حاضر ومستقبل كرة القدم المغربية، وفي كرة القدم عندما تراكم الإنجازات ترفع سقف التوقعات ويصبح أسهل ضم المواهب من كافة أنحاء لأن الموهبة تعشق الألقاب وتهوى النجاحات ويبدو أن الكرة المغربية رسمت طريقا لنفسها تسير عليه بسرعة ولكن أيضا بثبات.
إعلانواللافت أن كل هذه الإنجازات تحقق على أيدي مدربين وكادرات فنية محلية، من وليد الركراكي ومحمد وهبي وغيرهم من المدربين الوطنيين، أي أن العمل لا يتقصر فقط على اللاعبين والأكاديميات وصقل المواهب بل أيضا على تدريب الكادرات الفنية والاعتماد عليها من أجل الاستدامة والاستمرارية.