يحجب الفرح مأساة وجودنا ويُضعف حساسيتنا تجاه معاناة العالم، لذلك جعل منه الفلاسفة شغفًا حكيمًا وفضيلة، لكنّ سؤالا يُطرح: هل أن المفكرين أنفسهم هم من الكائنات البهيجة؟ وفق الكاتب والفيلسوف الفرنسي فريديرك شيفتر، لا علاقة للفلاسفة الحزانى... بالحزن؛ بل أنهم يتأملون حالتنا من خلال عدسات دموعهم المُكَبِرة.
قلت مشروع شيفتر لأشير إلى التالي: ثمة العديد ممّن «يشتغلون» اليوم بالفلسفة، يجدون أن دراسة الفلاسفة العظماء لا تسمح لنا بأن نعيش حياتنا بشكل أفضل، أو أن نواجه محدوديتنا، وأن نجد العزاء مقابل هذه التقلبات والمخاطر التي تواجهنا بدءًا من الولادة وحتى اليوم الأخير، (وربما ما بعده). بمعنى، أن فلسفة الموجة الجديدة الراهنة، تحاول الخروج من إطارها الأكاديمي البحت الذي أسرها وزاد في غموضها، على قولهم، للوصول أكثر إلى الحياة اليومية، فالفلسفة في النهاية، برأيهم ليست سوى محاولة لتفسير الحياة، وليس في زيادتها انغلاقا. تماما كما يقول شيفتر في كتابه «الخدعة الأخلاقية»: (هدف الفلسفة هو توضيح الأفكار. [...] الفلسفة ليست تعليمًا، بل هي نشاط [...] يتكون أساسًا من «التوضيحات». وبالتالي فإن نتيجة الفلسفة ليست «طروحات فلسفية»، بل توضيح الأطروحات التي لولا ذلك لكانت مضطربة ومربكة).
صحيح أن شيفتر، اعتاد على التفكير انطلاقا من الكتب، على الأقل لأنه درّس الفلسفة لثلاثين عامًا، وبالتالي قرأ المفكرين ودرسهم، لكنه يعترف بأن الفلسفة بالنسبة إليه تتشكل أساسا من «تفحص أهمية المفاهيم التي تعتبر واضحة، وإزالة الغموض عن الهراء الصاخب الرنان ووضع أنف أحمر للأصنام» (والمقصود بالأصنام، الفلاسفة المشهورين ونظرياتهم التي أضافت على العالم تعقيدات جمّة فوق تعقيداته). لذا قرر أن يصوغ أفكاره هذه في «مقدمات محفزة»، فجاءت كتبه العديدة لتحفر في هذا المفهوم من مثل «حول ثرثرة الفلاسفة وضجيجهم» و«ليست الموجة نفسها أبدا» و«لا نموت أبدا من الكآبة» و«الفيلسوف بلا صفات»، وبخاصة كتابيه «فلسفة عاطفية» (حاز «جائزة ديسمبر» لعام 2010) وكتابه هذا، الذي نحن بصدده، وهو على حدّ علمي، أول كتاب ينقل له إلى العربية، وغيرها.
أتاحت لنا كتب شيفتر بأن نكتشف شخصًا ممارسًا للفلسفة أكثر من كونه أكاديميا، مثلما هو «معلم حياة» أكثر من كونه باحثًا. فإذا كانت مناقشة التجريدات والانخراط في المبارزة الأيديولوجية فنًا جديرًا بالتقدير، فإن التأمل الفلسفي المستوحى من المشاعر اليومية وخاصة الأحداث المؤلمة يبدو له الأكثر تبريرًا. لا يوافق شيفتر على عمل المفكر إلا إذا سمح لنا، ضمنيًا، بإدراك قصة حزننا الشخصي. «تحت قناع الدماغ، أحب أن أخمن اليتيم، المحب، المهجور، المتدني، الملتوي - «الحيوان المريض» (مثلما يكتب في «فلسفة عاطفية»)؛ لكن كلامه هذا لا يلغي أبدا فكرة الثقافة، بل أن المجتمع بحاجة إليها. يقول: «المثقف ليس إنسانا. إنه أحد أبعاد المجتمع. إنه جزء مبارك من الأشياء. المثقف هو السلطة التي من دونها سيكون العالم أسوأ حالا. [...] أخلاق الكهنة (رجل الدين)» («الخدعة الأخلاقية»).
في مقدمته «التعليمية» التي يفتتح بها كتاب «ألق...»، يقدم شيفتر - الفيلسوف «الهاوي» أو «العدمي المستجم على شاطئ» مثلما يُعرّف نفسه - عرضه للمفكرين الحزانى من خلال إشارة عامة إلى أن السحر ينبع من أسلوبهم القادر على نحت تأملات مخصبة بالكآبة. ففرحة الفيلسوف، مفتوحة على التساؤل. وبما أنه متجذر في الواقع، لا يمكن للفرِح أن ينأى بالواقع، على العكس من الشخص الكئيب المفارق للشخص البهيج الذي يحفظه القدر، لأن «الكئيب» يعلم، بعد أن قام باختباره، أن الواقع يمكن أن يفلت فجأة تحت خطوات الإنسان، وأن سقوطه سيكون مؤلمًا، وبمجرد تعافيه، إذا نجا، فسوف يحتفظ بهذه المشيّة العرجاء.
وبعد أن «يتحصن» بهذه التحديدات الأنتولوجية (الوجودية)، يبدأ شيفتر بإقامة معرض صوره للبورتريهات التي يريد أن يعلقها أمامنا، بدءا من سقراط وإغراء الانتحار. فبعد أن اتُهم بإفساد عقول الشباب وأُدين نتيجة لذلك، يقبل المفكر الحر من دون تردد حكم الإعدام والجرعة المناسبة: «جرعة من الشوكران مقابل ثلاث جرعات من النبيذ». بعد ذلك يأتي «سِفر الجامعة» (وفق التوراة)، ليعتبره شخصا متأنقا عدميا تم تهريبه إلى الكتب المقدسة.
يكشف فريديريك شيفتر النقاب عن علماء الأخلاق المفضلين لديه بتسلسل زمني، ويرسم صورهم الذاتية. هناك فرانسوا دي لاروشفوكو (1613-1680) الذي يستبدل أقواله بالحساء والحلويات، وماري دي فيشي-شامرون (1697-1780)، كاتبة الرسائل التي أصيبت قبل بودلير بوقت طويل بالملل، وعذاب الجحيم هذا على الأرض، ماري -جان هيرولت دي سكاليس (1759-1794)، أرستقراطي متحرر ومثقف، غير مبال حتى بموته أمام المقصلة، إميل سيوران (1911-1995) الذي لا يمكن الاستغناء عنه، المتشكك المصاب بالأرق، سيد القول المأثور اللاذع، المختصر بقدر ما لا يمكن الجدال فيه. قد يكون رائد هذه المجموعة ألبرت كاراكو الغامض (1919-1971)، التي لا تزال كتاباته المتسقة والمتطرفة والبغيضة مجهولة من قبل الجمهور العريض، الذي قطع إحليله لاحتواء دوافعه الجسدية: من هذه الآلام الحادة... جاءه هذا الكره العميق للجنس البشري، والحاجة إلى تذكير البشر بأنه لا يوجد شيء أكثر إثارة للسخرية من جهودهم لكي ينسوا بالوعة مهدهم وليخفوا عن أنفسهم عفن قبرهم. هناك أيضا نيكولاس غوميز دافيلا (1913-1994)، الأخلاقي الكولومبي من بوغوتا الذي يتقيأ الحداثة، وهنري روردا (1870-1925)، المعلم التحرري، المنزعج من الحياة، المبتهج والهائج، المضطرب والانتحاري.
أخيرًا، العدمي العاشر رولاند جاكار (ولد عام 1941)، قاتل الأوهام الساخر. بعد هذا العرض تأتي خاتمة قصيرة لتختتم مراجعة علامات الروح العزيزة على الفيلسوف الذي اعتاد على مناجاة النفس بسبب عدم وجود أصدقاء ثابتين. ومع ذلك، يتمتع فريديريك شيفتير «بأطايب عاطفية» يقدمها لعدد كبير من الأشخاص المجهولين الخيرين.
الفلاسفة الذين تشملهم هذه المجموعة ليسوا من أولئك الذين يقدمون العزاء أو الدعم المعنوي، ولكن «إن عدم الاستمتاع بسحرهم هو علامة على التعصب». لأن الذين يكتبون بأسلوب «أسود» جميل يتمتعون بقدرة حقيقية على الإغواء، فهم مثل نسمة نفاذة على الضمائر المثقفة التي تخضع أيضًا للضعف والشك. أطلق اللاتينيون على الروح اسم هذا العنصر الخفيف ولكن القوي الذي تتمثل فضيلته في تحدي جميع أشكال الجاذبية. المفكرون الحزانى لا يقومون بشفائنا من انزعاج الولادة، بل أن عقولهم تطلق الهواء في عقولنا لطرد الجديين، بمعنى آخر، كل ما يبحث عنه الكاتب هو هذه العاطفة، لا الفكر، إذ «كفى نظريات».
إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ما الذي تعرفه شركات الإعلانات الكبرى عنك؟
هل شعرت يوما أن هاتفك يقرأ أفكارك؟ تبحث عن حذاء رياضي، فتغزو إعلانات الأحذية صفحاتك على الإنترنت. وتذكر نيتك السفر إلى المكسيك في رسالة خاصة، فتجد فيضانا من عروض الفنادق في كانكون على حسابك في إنستغرام. هذه ليست مصادفات، بل نتيجة مباشرة لثورة في عالم الإعلان الرقمي يقودها الذكاء الاصطناعي.
في تقرير نشرته مجلة نيوزويك الأميركية، يكشف الصحفي خيسوس ميسا كيف باتت شركات الإعلانات الكبرى تعرف عن المستخدمين أكثر مما يتصورون، عبر أدوات تقنية متقدمة تجمع وتحلل سلوكهم بدقة متناهية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف تتحول أسواق المال الهابطة إلى فرص استثمارية؟list 2 of 2ما دور الشخصيات التجارية في العراق خلال رمضان؟end of list من ملفات تعريف الارتباط إلى خرائط الهوية المتصلةفي الماضي، اعتمدت الإعلانات الرقمية على "الكوكيز" أو تتبّع الأجهزة. أما اليوم، فتعتمد شركات مثل "ببليكس غروب" على خرائط هوية رقمية متصلة تعرّف المستخدم كفرد حقيقي، وتربط نشاطه عبر عدة منصات.
في عرض تقديمي نُشر على يوتيوب، قال المدير التنفيذي لأكبر شركات الإعلان في العالم آرثر سادون: "نحن لا نتعامل مع الأجهزة أو الكوكيز، بل مع أشخاص حقيقيين.. الذكاء الاصطناعي لا يساوي شيئا بدون بيانات".
وأشار سادون إلى أن نظام الذكاء الاصطناعي الجديد الذي طورته شركته، والمعروف باسم "كوري" (Cori)، قادر على التتبع والتفاعل مع 91% من البالغين المتصلين بالإنترنت حول العالم.
بحسب "ببليكس"، فإن قاعدة بيانات "إيبسيلون" التي تستخدمها الشركة تحتوي على معلومات عن 2.3 مليار شخص حول العالم، وتتضمن 7 آلاف نقطة بيانات للفرد الواحد داخل الولايات المتحدة فقط. وتشمل هذه البيانات:
إعلان ما يشاهده المستخدم وما يقرأه. من يعيش معه. من يتابعه على وسائل التواصل الاجتماعي. ما يشتريه (عبر الإنترنت وفي المتاجر). متى وأين ولماذا يقوم بالشراء؟تتبع هذه البيانات لا يقتصر على النشاط الرقمي، بل يشمل أيضا 75% من المعاملات التي تتم داخل المتاجر.
كمثال على مدى الدقة، عرضت الشركة "لولا"، وهي شخصية افتراضية مبنية على بيانات حقيقية، تعرف الشركة عنها كل شيء من اهتماماتها إلى عاداتها الشرائية، وحتى احتمال تغييرها ولاءها لعلامة تجارية في حال تغيّرت أسعار منتجاتها أو دخلها.
"إذا ارتفع سعر عصيرها المفضل وبقي دخلها كما هو، يتوقع النظام أنها ستنتقل إلى علامة تجارية أرخص، ويتم تعديل الإعلانات تلقائيا بناء على ذلك"، بحسب سادون.
قطاعات كبرى على خطى ببليكسشركات عملاقة أخرى مثل ميتا (فيسبوك وإنستغرام) وأدوبي تبنّت هذا النموذج. وطورت ميتا أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحسين استهداف الإعلانات بشكل لحظي، بينما أطلقت أدوبي إطارا كاملا لإدارة الحملات التسويقية عبر الذكاء الاصطناعي التوليدي، بهدف تحسين تجربة المستخدم.
وفي تصريح لافت، قال دان ديرن، المدير المالي لأدوبي: "طموحنا أن يتأثر كامل دخل الشركة بالإعلانات المدعومة بالذكاء الاصطناعي".
في المقابل، تزداد المخاوف بشأن الخصوصية. فحتى عند اختيار المستخدمين عدم تتبعهم، تشير تقارير إلى أن البيانات لا تزال تُجمع وتُستخدم. ونشرت دراسة عام 2022 على موقع "أرشيف دون أورغ" كشفت أن العديد من المعلنين لا يزالون يعالجون ويتبادلون بيانات المستخدمين، رغم وجود قوانين مثل اللائحة العامة لحماية البيانات في أوروبا (جي دي بي آر) وقانون خصوصية المستهلك في كاليفورنيا (سي سي بي إيه).
وقالت النائبة روث كادبري في تصريحات لوسائل الإعلام البريطانية: "من الواضح أن هناك أسئلة تُطرح عن مدى اعتمادنا على أنظمة تتعامل مع بيانات المستخدمين بهذا الحجم وبدون رقابة فعالة".
إعلانالإعلانات التي تستهدفك اليوم لم تعد تستند فقط إلى ما تنقر عليه، بل إلى آلاف الإشارات الرقمية التي تُجمع عنك كل يوم.
وبينما ترى الشركات أن الذكاء الاصطناعي جعل التسويق أكثر فعالية وأقل تبذيرا، يرى النقاد أنه فتح الباب لاقتصاد يقوم على مراقبة الفرد وتوجيه سلوكه الاستهلاكي بدقة غير مسبوقة.
قد يكون الذكاء الاصطناعي قد حوّل الإعلانات إلى "محادثات شخصية"، لكنه طرح كذلك سؤالا مقلقا: إلى أي مدى نتحكم فعليا في بياناتنا وهوياتنا الرقمية؟