قراءة انطباعية في «قنديل من الغار»
تاريخ النشر: 16th, April 2024 GMT
القصيدة الشعرية أشبه بالصورة الفوتوغرافية، فهي عالم حافل بالأسرار والكنوز والدلالات، من يجيد الإبحار فيها هو من يظفر بتلك الكنوز، الإبحار هنا يتطلب الكثير من الإلمام والدراية .. وفي النهاية يتم استخلاص عصارة الرحلات، والخبرات، وارتشاف الدروس، والعبرات.
«قنديل من الغار» هي القصيدة التي لمعت في سماء مسرح كتارا لشاعر الرسول في دورتها الخامسة للشاعرة الأولى الحائزة على هذا اللقب في تاريخ المسابقة الشاعرة بدرية بنت محمد البدري .
هي القصيدة الشعرية الأولى التي وضعت بصمة انطباعية مدهشة عليّ كمتذوقة للشعر؛ جعلتني أدمنها من عنوانها، فحين استمعت لها وجدتني أبحر عائدة لأيام الطفولة .. تراءت إلي لحظة لم أعشها، لكني خيالا نسجتها، هي لحظة استقبال أهل المدينة للنبي القدوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام استحضرت المشهد ونزل على مسامعي صوت هتافهم بـ : «طلع البدر علينا» كرذاذ الماء البارد في نهار صيفي لافح/ ملتهب إنها حروف الأنشودة التي لقنت بها مسامع كل طفل وظل صداها يصدح في ذاكرته إلى أن يصبح كهلا، سيرة عطرة زرعت فينا حب نبي آدمي لم نره، لكنا لمسنا طيب أثره. وكم ارتشفنا الشفاء من شهد الإرث الذي خلده لنا.
إني لأقف وقفة إجلال أمام هذه الأبيات الشعرية الضليعة، التي استطاعت أن تختزل المشاعر المتدفقة في قصيدة واحدة حيث أضفت الشاعرة روحا لأبياتها، والذي منحني استشعار حضور النبي الأعظم وكأنه أمامي وهو حاضر بالفعل كلما حرصنا على الاحتذاء به والاقتداء بخلقة، فبالسير على نهجه، واتباع سنته؛ فإننا نحيي سيرته العطرة. وكان لهذا الحضور الفخم وقع على لجنة التحكيم فقد أطلق الشاعر السعودي فواز اللعبون على القصيدة لقب «القصيدة المجنحة»، ولن أخفي عليكم بأن القراءة في «قنديل من الغار» سلبتني وألهمتني في الآن ذاته... سلبتني خفة انطلاق ريشتي المعهودة بالتحليق على الورق فهي أشبه بريشة على جناح طائر القطرس، الذي اعتاد على التحليق المتواصل لسنة كاملة بلا كلل ولا ملل. وحينها اِنْهمر عليّ وابل من الأسئلة، اِنْبَثَقَت في ذهني وأَوْجَسَت في نفسي حيرة! ماذا أصابها؟ هل شلت حركتها؟ أم أن قدرتها خانتها؟ وما لبثت إلا قليلا قبل أن أعي، بأنه التروي والتأني، للتمعن في عظمة الذات المحمدية وأنه كان السبب الحرِيّ بسلبها انطلاقتها الحرة العفوية. فقد توقفت كثيرا، وتأخرت، وتحيرت، وترددت، وتساءلت، وانقطعت، وامتنعت، وأمسكت، وصامت عن التحليق على الورق طويلا، وتقوقعت داخل صدفتها مرارا وتكرارا. فكان ذاك هو السلب المُباح. وعن الإلهام أتحدث فإنه حدث ذات فجر ليس ببعيد، وقبيل انبلاج صبحه السعيد. تراءى لي البيت الشعري:
وتستكينُ إلى الأقلامِ قافيةٌ
لولا «مُحمَّدُ» ما أهدت لها الجُمَلا
لهج لساني مرددا إياه كتباشير الوليد، فتردد في ذهني صدى لولا «مُحمَّدُ» ما أهدت لها الجُمَلا.
القصيدة تعكس فكرة الشاعرة هنا؛ أنا الإنسان التائه في طريق الحياة الوعر القاسي المليء بالأشواك التي جرحتني وسببت لي الآلام. وروحي محملة بالذنوب التي تثقل كاهلي، وتعيق تقدمي، وتعرقل مسيري... رغم كل ما كان وكل ما سيكون استمرت روح ذاك الإنسان بالبحث عن خلاص ونور يهديها إلى الرشد. مُتأملة بعسى أن يهديني ربي. أما القنديل هنا فهي الذات النبوية، التي تمدها بالنور. النبي المصطفى كان لها ذلك «القنديل» الذي أنار لها ظلمة الحياة الشائكة، كذلك كانت كلمة «اقرأ» هي نور لبيان طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
الشاعرة هُنا كأنما تصف صراع معركة بين ذاتها والآلام.. الأشواك.. الظلام.. العقبات والمنغصات التي تحاول جاهدة خلعها؛ لغرس وإيراق الهداية.. النرجس.. النور.. النعيم عوضا عنها. فسمحت «الشاعرة» للقارئ للدخول لمعركتها، وجعلته يعيش سيناريو الأحداث بأدق تفاصيلها. فالمعركة تحدث لإحلال السلام بعدها، ولإعادة المياه لمجاريها. هدفها الأسمى والأعلى هو اجتثاث الداء وإيراق الدواء. افتتحت الشاعرة قصيدتها بهطول شعري غفير، تميز بأسلوب بلاغي واعٍ، متأرجحا بين الحزم واللين.
هنا الشاعرة تناجي نفسها بأن تخلع جراحها وآلامها، مخبرة بأن الإنسان يذنب أحيانا، ولكن عليه ألا يصده الذنب عن التوبة، وعليه اتباع دافق عشقه بالصعود للبحث عن النور؛ وعسى ربه أنه يهديه سواء السبيل.
اخلعْ جراحَكَ بالسطرِ المُقدَّسِ، لا
يصدَّك الذنبُ عن وحيٍ بكَ ارتحلا
مصطلح «السدرة العُليا» هنا يحتمل معنيين اثنين: فأما الأول فيشير لـ «سدرة المنتهى»، وهي المنتهى لكل رحلة، وأما الآخر فالشاعرة تعني بها القصيدة الشعرية في المديح النبوي؛ فالشعر بشتى ألوانه لا يصل إلى سمو وأوج وعتو (شعر المديح النبوي). كذلك هي «قنديل من الغار» وقريناتها صعدت، واعتلت، وتربعت عرش الشعر.
واصعد إلى السدرةِ العُليا بلا حَذَرٍ
من دافِقِ العشقِ، إنْ ناداكَ وانهملا
يشرق الأمل جليا، فمن بين تلك الأشواك، والآلام، والصعاب هناك تنمو نرجسه لطيفة تفوح عطرا وتعج بالحياة، ضربت بجذورها الأرض وأورقت بين تلك الأشواك الجارحة. إنه مشهد تصوير بليغ يرمز للتوازن الذي يبعثه الأمل في البيئات القاسية، والطرق الوعرة.
هناكَ تنمو على الأشواكِ نرجِسَةٌ
تؤرجِحُ العطرَ في أوراقِها أَمَلا
القصيدة تعج بتصوير المشاهد، وتسجل حضورا كبيرا بذلك، فللقارئ أن يتخيل المشهد، وكأنما يرى الأحداث تعرض على شاشة سينمائية أمامه، فالشاعرة تجسد بأن الحب الحقيقي الصادق يقود صاحبه للنجاة، والحب هنا لنبي الله المبعوث الأمين الذي أرسل رحمة ونجاة للعالمين.
«الشاعرة» هنا الإنسان الذي يلمس في حُب النبي صلى الله عليه وسلم سراجا ووهجا يأخذه إلى حوض الهداية. يُخرجه من ظلمات الجهل إلى نور الهدي، نور العِلم والوعي. يُريه بأن الحق حقا وعليه اتباعه، وأن الباطل باطلا وعليه اجتنابه.
خلفي تلفّتَ بعضيْ إذ رأيتُ فتىً
ساقيه أطلَقَ والريحُ استوتْ سُبُلا
أتى تسيلُ ذنوبُ الأرضِ من دمِهِ
ما ضَلَّ مسراهُ، لكِنْ بالرؤى شُغِلا
وعن كيف ابتدأت الشاعرة رحلتها في صياغة القصيدة فقد صرحت لي بأنها استشعرت وجود النبي عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم. فكان بمثابة القنديل المُلهم بل هو أشبه بالبوصلة المُرشدة للقِبلة وهو بصيص النور الذي لطالما بحثت عنه في الليالي المُظلمة. فما كان منها إلا أنها ترجمت مشاعرها الجياشة في تلك اللحظة وحبها الصادق الذي تكنه للرسول الأعظم، وصاغته على هيئة حروف نورانية، وكلمات في أبيات شعرية.
تكونُ قِنديلَهُ في ليلِ وحدتِه
يرجوكَ، أو قِبلَةً تهدي النُهى مُقَلا
لطالما كان نشر الطمأنينة، وإغداق الأرواح بالسكينة هو نهج نبوي، فقد قال رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لصاحبه: «لا تحزن، إن الله معنا»
كفٌّ تحطُّ على الأرواحِ حانيةً
لتهدأَ الحربُ والثأرُ الذي اشتعلا
لا نورَ يوقِظُ هذا العصرَ من خَدَرٍ
والكهفُ لمّا أوى، أحصاهُمُ مِلَلا
إنها الأبيات الأقرب والأحب لوجدان الكاتبة، فقد لامست الروح لطفا، وخاطبت العقل وعيا، وملئت القلب حبا ويقينا.
إنما حسن الظن واليقين من النبي الصادق الأمين بالله رب العالمين؛ لهو دليل قاطع على كمال توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه، وأن اعتماده عليه وحده، ومفوض إليه أمره. فجنى ثمار ذاك اليقين بأن أعمى الله عز وجل أعين المشركين، وران على قلوبهم؛ فما استطاعوا رؤيته وصاحبه، وما كانوا منتصرين.
بعضُ اليقينِ الذي في «اللهِ ثالِثُنا»
لو زارنا أورقتْ أرواحُنا رُسُلا
حضور مميز لعاطفة المرأة حيث الرعاية.. الاحتواء.. الحنية.. واللطف. فهذان الشطران يزخران بالحس الأنثوي الأمومي.
من دمعةِ الجوعِ والأطفالُ حِصَّتُها
والأمهاتُ حُداءٌ يوقِدُ الشُّعَلا
حاكت شاعرتنا الخاتمة بأسلوب مشابه للمقدمة والعرض، فكانت القصيدة كالبنيان المرصوص، يملأها الانسيابية والسلاسة العالية، وبدفق شعوري غزير بلا انقطاع من البداية للنهاية.
خلعتُ كُلَّ جِراحيْ وانتبذتُ بها
سطرًا عليًّا، كمن في نقصِهِ اكتملا
وفقت الشاعرة بإيصال رسالتها الأدبية الشعرية، وأضفت الجمالية على القصيدة بحضور الحس الأمومي، كما أن القصيدة مليئة بتصوير المشاهد، مطرزة بالبديع والجماليات جعلت غايتها الأسمى بأن تكون القصيدة شفيعة لها كلما قرأها قارئ وصلى على الحبيب، فكلنا أمام ذكر سيرته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يحيا ويستطيب.
«وإني جاهدت نفس قلمي كثيرا كي أوجز بكفاية، وأن أشير بوفاية» ويبقى السؤال الذي راود عزّة كثيرا ولا يزال حتى اللحظة ماذا لو أن هذه القصيدة هي رسالة لك.. بوصلة ترشدك.. لاستخراج كنزك.. الدفين داخلك.. فتكون نقطة تحول فارقة في حياتك.. وتحدد منها انطلاقتك.. فتكتشف شغفك ورسالتك؟
عزة الهنائية كاتبة ومترجمة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أفضل الصلاة ما کان
إقرأ أيضاً:
ما التناجي الذي نهى عنه الرسول ومتى يجوز؟.. الإفتاء تجيب
أجابت دار الإفتاء ، على سؤال يقول: ما هو التناجي الذي نهى عنه الرسول؟، حيث حث الشرع على مراعاة مشاعر الآخرين وعدم إلحاق الأذى بالغير، مشيرة إلى أنه مِن المقرَّر أن المحافظة على ترك ما يؤذي الإنسان ويُحزِنه مطلوبة شرعًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، والنسائي في "السنن".
ما التناجي الذي نهى عنه الرسول؟
وبينت أن هذا الحديث أصلٌ عامٌّ في تقرير وجوب ابتعاد الإنسان عن الأمور التي قد تؤذي غيره، ويندرج تحتها " التناجي أو النجوى"، وذلك بالكلام الخفيُّ الذي يناجِي به المرء صاحبه كأنه يرفعُه عن غيرِه، كما في "تاج العروس" لمرتضى الزبِيدي (40/ 29-31، ط. دار الهداية)، ويظهر تأذي الغير خاصة إذا كان الحاضرون ثلاثة من قصر الكلام الخاص على اثنين منهم بأحد معنيين: "أحدهما: أنه ربَّما يتوهم أن نجواهما إنما هو لتبييت رأي فيه أو دسيس غائلة له، والمعنى الآخر: أن ذلك من أجل الاختصاص بالكرامة وهو محزِنٌ صاحبه" كما قاله أبو سليمان الخطابي في "معالم السنن" (4/ 117، ط. المطبعة العلمية).
وتابعت: لذا فقد جاء النهي عن هذا الفعل، فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يُحزِنه» متفقٌ عليه، ووجه الدلالة مِنه: أن هذا النَّهي ظاهِرٌ في التحريم، بدليل ترتُّب التعليل -وهو الإحزان- عليه بالفاء، كما في "دليل الفالحين" لابن علَّان الصدِّيقي (8/ 438، ط. دار المعرفة).
والأصل في التناجي: الكراهة والقُبح، كالمكر والخديعة، إذا لم يُقصد به أمرٌ حسن في الشرع، وقد بيَّن الله عزَّ وجلَّ أن النجوى لا تحسنُ إلا في وجوه مستثناة، فقال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء: 114].
وقال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [المجادلة: 9].
قال ابنُ عطية الأندلسي في "تفسيره" (5/ 277، ط. دار الكتب العلمية): [وصَّى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بأن لا يكون لهم تناجٍ في مكروه، وذلك عام في جميع الناس إلى يوم القيامة، وخصَّ الإثم بالذكر لعمومه، والعدوان لعظمته في نفسه، إذ هي ظلاماتُ العباد، وكذلك معصية الرسول ذكرها؛ طعنًا على المنافقين؛ إذ كان تناجيهم في ذلك] اهـ.
آداب التناجي
وحول ضابط التناجي المنهي عنه شرعا، قالت الإفتاء: يتحصل من هذه المعاني أن ضابط التناجي المنهي عنه شرعًا -وهو المسؤول عنه- يتحقق بجملةٍ من الأمور:
أولًا: أن يترك المتناجِيان واحِدًا منهم، ولو كانوا جماعة، فلو أبقوا أكثرَ مِن واحدٍ فلا مانِع اتفاقًا، فيجوز تناجي اثنين دون اثنين أو جماعة؛ لأن الثالث قد شاركه الباقون فيما يُستر عنه مِن الحديث، فيزول عنه سوء الظن، والحُكم يدور مع عِلَّته وجودًا وعدمًا، كما أفاده الإمام ابنُ بطال في "شرح صحيح البخاري" (9/ 64، ط. مكتبة الرشد).
فقد جاء في "موطأ الإمام مالك" عن عبد الله بن دينار، قال: كنتُ أنا وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند دار خالد بن عقبة التي بالسوق، فجاء رجلٌ يريد أن يناجيه، وليس مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أحدٌ غيري، وغير الرجل الذي يريد أن يناجيه، فدعا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلًا آخر حتى كنا أربعة، فقال لي وللرجل الذي دعاه: استأخِرَا شيئًا، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يَتَنَاجى اثنان دون واحدٍ».
ثانيًا: أن تقلَّ الجماعة الحاضرة في مكان المحادثة، فإذا كان التناجي بحضرة جماعة كثيرة لم يُمنع؛ لأن ذلك أنفى للتهمة والرِّيبة؛ وذلك لما ورد في حديث جابرٍ رضي الله عنه أنه لما رأى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جوعًا شديدًا في غزوة الخندق ذهب إلى زوجته، ثم قال: فجِئتُه فسارَرْتُه، فقلت: يا رسول الله، إنَّا قد ذبحنا بُهَيْمَةً لنا، وطحنَّا صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر معك. متفقٌ عليه.
ثالثًا: أن يكون التناجي بينهما بغير إذنٍ من بقيَّة الحاضرين سواء كان واحدًا منفردًا أو أكثر، فإن أذِن المنفرد أو الباقي في التناجي دونه أو دونهم: زال المانِع؛ لكون الحقِّ له، فإن أسقطه سقط، ولا يكون بذلك من التناجي المنهي عنه، كما في "الفواكه الدواني" للنفراوي (2/ 328، ط. دار الفكر).
والأصلُ فيه: ما أخرجه أحمد في "المسند" عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا تَنَاجى اثنان فلا تجلِسْ إليهما حتى تستأذِنَهما».
رابعًا: ألَّا يكون الثالثُ هو الداخِل على المتناجَيين في حال حديثهما وكلامهما سِرًّا، فلو تكلم اثنان في السِّر ابتداء، ثم أتى ثالثٌ ليستمع إليهما، فلا يجوز ما لم يُؤذن له، كما لو لم يكن حاضِرًا معهما أصلًا، كما في "فتح الباري" للحافظ ابن حجر العسقلاني (11/ 84، ط. دار المعرفة).
ويدلُّ على هذا: ما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" عن سعيد المقبري، قال: مررت على ابن عمر، ومعه رجل يتحدث، فقمتُ إليهما، فلَطَمَ في صدري فقال: إذا وجدت اثنين يتحدَّثان فلا تقم معهما، ولا تجلس معهما، حتى تستأذنهما، فقلت: أصلحك الله يا أبا عبد الرحمن، إنما رجوتُ أن أسمع منكما خيرًا.
خامسًا: أن يخشى المتناجيان أن يظن ثالثُهما أنهما يتحدثان في أمرٍ يكرهه، أو كان لا يعرِفُهما ولا يثق بهما، فيكون التناجي في هذه الحالة حرامًا، فإن أمِنَا من ظنِّه ذلك كُرِه تناجيهما؛ لأنه يغمُّ المنفرد مِن حيث الجملة، كما في "البيان والتحصيل" للإمام ابن رشد الجد (18/ 227، ط. دار الغرب الإسلامي).
وشددت بناء على ذلك: فلا مانع شرعًا مِن الكلام الخاصِّ مع شخصٍ في حضور ثالث، ولا يُعدُّ هذا من التناجي الممنوع إذا رُوعِيت الضوابط السَّابِقة، بأن يكون هذا الثالث على معرفةٍ وثقة بالمتناجِيَين، وأن يأذن لهما في هذا الحديث الخاص بينهما دونه، وألا يكون هو الداخلَ عليهما حال حديثهما سِرًّا.