محمد بن حمد البادي
mohd.albadi1@moe.om
هذا المُصاب الجلل ليس مصاب سمد الشأن وحدها ولا مُحافظة شمال الشرقية فقط؛ بل هو مصاب كل عُمان من أقصى شمالها إلى آخر نقطة في جنوبها، فخالص التعازي والمواساة لأهالي وأسر شهداء العلم بشكل خاص، ولأهالي السلطنة بشكل عام.
كارثة الأحد 14 أبريل 2024 التي حلّت بنا فجأة، أفقدتنا أرواح عشرة كواكب من أسرة واحدة، بل من بيت واحد، أبناء في عمر الزهور؛ خرجوا صباحًا مع زخات المطر حاملين آمالًا كبيرة يُسابقون الريح التي تسوق السحاب لتحقيق طموحاتهم بما يخدمون به مجتمعهم ووطنهم وأمتهم، خرجوا وما زالت فرحة العيد ترتسم على مُحياهم، مُستبشرين بلقاء صحبهم وإخوانهم ومعلميهم ليحكوا لهم مغامرات العيد، ويسمعوا حكاويهم عن الفعاليات التي شاركوا فيها، ولكنهم لم يعودوا- كعادتهم- لأمهاتهم وأحبابهم وأشيائهم التي ما زالت تمتزج برائحة العيد.
مضى ركب شهداء العلم إلى خالقهم؛ تاركين الدنيا وما عليها خلفهم، فهذا ترك حقيبته ملطخة بوحل الوادي؛ فيها كتبه وأقلامه ودفاتره، وأخ له ترك عمامته وعصاه وملابسه، وابن خاله ترك أمه وأباه وأقاربه، وابن عمٍ له ترك خنجره التي كان يتراقص بها زهوًا، وتوأمه ترك سيفه الذي يجول به في الميدان فخرًا، فاللهم صبرًا وسلوانًا وجبرًا.
وإن تحدثنا بشيء من المنطق؛ بعيدًا عن التحيُّز والتعصب والعاطفة؛ لوجدنا أن الجميع يقع في دائرة المسؤولية بما فيهم سائق الحافلة وإدارة المدرسة وولي الأمر ومديرية المحافظة والوزارة، واللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة، نحن كرأي عام لنا الحق في عدم تبرئة أيًا كان ممن يقع ضمن نطاق المسؤولية سواءً كان بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن العتب واللوم لن يُرجعهم أحياء، ولن يجبر فؤاد الأمهات الثكالى، ولن يعوض الآباء فقد أبنائهم.
يجب أن نتعلم من هذه الكارثة، وأن نستخلص منها الدروس والعبر، لتكون هذه الكارثة- بعون الله- آخر الكوارث التي تحل بهذا الوطن، وأن تكون عُمان بلد الأمن والسلام ومن يعيش عليها منعمًا بالخير والرخاء.
ولعل أول هذه الدروس تكثيف الوعي المجتمعي في حالات الأنواء المناخية، وإن لزم الأمر نتخذ الإجراءات الرادعة التي تحد من هذه السلوكيات التي تؤدي إلى إزهاق أرواح الأبرياء عبثًا، فعبور الأودية في هذه الأثناء خط أحمر؛ سواءً كان في مركبة أو بدون مركبة، فيبدو أن البعض لم يستوعب الدروس من الكوارث السابقة، فمهما كانت المبررات ومهما كانت المسوغات لا أجد تفسيرًا أو عذرًا لسائق المركبة وبها 13 طفلًا ثم يقطع بهم المياه الجارفة والجميع مدرك تمامًا أنهم لا يجيدون التعامل مع مثل هذه المواقف الخطرة.
ثانيًا: إدارات المدارس التي تقع عليها المسؤولية المباشرة في الحفاظ على سلامة الطلبة، يجب أن لا تسمح بخروج الطلبة من الحرم المدرسي مهما كانت الأسباب، ومهما كانت الأوضاع تبدو مثالية، ومهما كانت الأجواء صافية؛ حتى نتأكد من الهدوء التام للأوضاع، وأن جميع الطرق إلى القرى سالكة، حتى وإن جلس الطلبة في المدرسة اليوم بأكمله، فكل شيء نستطيع تعويضه، وتأخرهم عن العودة إلى المنازل خير من أن نفقد أرواحهم بهذه الطريقة الكارثية.
ثالثًا: ولي الأمر- مع وجود التحذيرات المتكررة من سوء الأحوال الجويةـ له القرار الأول والأخير في إرسال الطالب إلى المدرسة من عدمه، فهو الأقرب للطالب من أي أحد آخر، وهو أدرى بالوضع، وهو المسؤول بالمقام الأول عن ابنه، وإن تعرض ابنه لأي سوء لا سمح الله لن يعوضه أحد آخر.
رابعًا: مديريات المحافظات يجب أن تكثف التنسيق مع المدارس، وخصوصًا تلك التي تقع قريبًا من مناطق الخطورة، لتتأكد من السلامة التامة للجميع، حتى وإن اضطر الوضع لمباشرة بعض المشرفين الإداريين العمل في ذلك اليوم في تلك المدارس حتى تستقر الأوضاع، وإن حدث ووقع مكروه لا قدر الله يجب أن يكون مسؤولو المديريات أكثر جرأة في تحمل المسؤولية، وأن يعترفوا بتقصيرهم في التعامل مع الوضع.
خامسًا: نُثمِّن الجهود الكبيرة التي تبذلها اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة، ولكن يجب أن يتخطى دورها التصريحات والتوصيات بتعليق الدراسة واتخاذ الإجراءات الاستباقية إلى ما هو أبعد من ذلك، كأن تعمل بالتنسيق مع الجهات المختصة في تقوية البنية التحتية المحيطة بمجاري الأودية، كالشوارع والمباني والمرافق أو المناطق والمخططات السكنية التي ترى أنها أكثر عرضة للتأثر بالأنواء المناخية، وأن يكون التنسيق على أعلى مستوى مع وزارة الإسكان والتخطيط العمراني؛ لكي تراعي مسافة الأمان بين مخططات المدارس أو المخططات السكنية والأودية، كما يجب في حالة الأنواء المناخية مراعاة عدم عزل أي منطقة عن المناطق التي تتوافر فيها الخدمات الأساسية، وإنما يستحدث طريق طوارئ لكل مناطق السلطنة مهما كانت التكلفة، فأرواح الأبرياء ليست بلا قيمة، والأعاصير التي مرت بها السلطنة في السنوات الماضية كفيلة بأن نتعلم منها الدروس وأن نتعامل مع الأوضاع باحترافية (جونو 2007، فيت 2010، مكونو 2018، شاهين 2021).
وأخيرًا.. وزارة التربية والتعليم التي بها أكثر من ربع سكان السلطنة تقريبًا (782818 طالبًا وطالبة خلال العام الدراسي الحالي 2023/2024) والتي يجب أن تكون أكثر استعدادًا من هذا الذي رأيناه، وأن تكون أكثر مهنية في التعامل مع الأوضاع المشابهة، وأن تتخذ اجراءً استباقيًا بتعليق الدراسة في المحافظات التي قد تكون عرضة لأحوال مناخية سيئة، وأن تكون أكثر حزمًا وجرأة في إظهار ردة الفعل بعد وقوع هذا الحدث الكارثي.
يجب أن تتبنى الوزارة منهجية تفعيل التعليم الالكتروني بأسرع وقت ممكن، بحيث- بداية من العام الدراسي المقبل- تتضمن الخطة الدراسية تخصيص يوم واحد من كل أسبوع للتعليم الإلكتروني، والعمل من الآن على إعداد دروس محوسبة نموذجية تنفذ بأساليب ابداعية مبتكرة كون التعليم الإلكتروني يختلف عن التعليم التقليدي (الحضور في المدرسة) اختلافًا جذريًا وجوهريًا، لنضمن استفادة الطالب من هذا التعليم، ومن أجل تهيئة الطالب والهيئة التعليمية والمجتمع ككل للتحول للتعليم عن بعد في أوقات الطوارئ والأزمات، وأيضًا للتقليل من الفاقد التعليمي الذي مررنا به كثيرًا خلال العام الدراسي الحالي بسبب الوضع المناخي الاستثنائي للسلطنة خلال هذا العام، والذي تشير كل التنبؤات والمؤشرات إلى استمراريته على منطقة دول الخليج العربي وما جاورها عدة أعوام مقبلة.
نسأل الله أن يحفظ عُمان وأهلها ومن عليها من كل سوءٍ ومكروهٍ، وأن يجنبنا شر الكوارث والأزمات والمخاطر والمحن، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب الدعاء.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
قصة تصميم أول علم لسلطنة عُمان
علي بن عبدالله اللواتي
العلم هو رمز الصدارة لأي دولة اعتبارية في العُرف العالمي والأممي، ويُعد عام 1970 فترة فاصلة في حياة الخليجيين، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، فقد تحررت مُعظم هذه البلدان والتي كانت محميات بريطانية غير رسمية بعد زوال النفوذ البريطاني، ورُسِمَتْ الحدود الجغرافية على هوى صاحبة المستعمرات بالإضافة إلى تغيير لون العلم الأحمر الذي كان موحدا، وتم تصميم أعلام جديدة لكل دولة، ولكن ظل اللون الأحمر عنصرًا بارزًا في تشكيل الأعلام ما عدا دولة قطر ومملكة البحرين اللذين انحازا إلى ألوان مختلفة.
وسلطنة عُمان تعدّ من أقدم البلدان المأهولة بشرًا؛ حيث يرجع تاريخها إلى 1000 عام، ولقد كانت تستخدم الراية الحمراء.
تكوين العلم العُماني:
لقد تفردت عُمان في تصميمها علم البلاد الذي هو رمز الدولة الحديثة؛ حيث شكل العلم العُماني مستطيلا في شكله وهيئته التكوينية مكونا ثلاث وحدات أفقية، لكل وحدة لون، وهذه الألوان هي الأبيض، والأخضر والأحمر، بالإضافة إلى وحدة عمودية بجانب السارية، ويوجد بالزاوية العليا من الثلث العمودي المحاذي للسارية شعار الدولة باللون الأبيض المكون من سيفين متقاطعين يتوسطهما الخنجر العُماني، ويقال إن كلمة الخنجر مشتقة من اللاتينية غير الموثقة deca Dacican Knife من الصفة اللاتينية dacus، والخُنْجَرُ اسم رجل وهو الخنجر بن صخر الأسدي.
تطور العلم العُماني عبر التاريخ:
1- الفترة 1868 – 1871 كان لون العلم أبيض ناصعا.
2- " 1871 – 1970 كان لون العلم الأحمر الفاقع.
3- العصر الجديد (عصر النهضة المباركة بقيادة المغفور له جلالة السلطان قابوس، طيب الله ثراه 1970 – 1995).
4- في عام 1995 تم تغيير أبعاد العلم من 4/3 إلى 2/1.
في الواقع، لقد اقتبست أعلام البلدان الخليجية اللون الأحمر من علم سلطنة عُمان التي كانت تُعرف "بسلطنة مسقط وعُمان". وعبر الأزمان كان لونها الذي رفرف على العديد من البلدان التي كانت الإمبراطورية العُمانية تحكمها، هو الأحمر.
وفي مطلع النهضة المباركة، حمل إعلان صاحب السمو السيد طارق بن تيمور- طيب الله ثراه- رئيس مجلس الوزراء بمكتبه الكائن في محافظة مسقط عند مسجد الخور وعبر الإذاعة العُمانية دعوة جميع المواطنين وأصحاب المواهب للمشاركة في تصميم علم جديد للسلطنة، يتكون من البيئة العُمانية ومن مكوناتها الجغرافية.
وعند سماع الخبر هبت فئات كثيرة من المواطنين من داخل البلاد شبيبة وشبانا، وكذلك أفرادًا آخرون من خارجها، للمشاركة في إعداد وتصميم العلم العُماني الجديد، أذكر منهم كل من الأستاذ حسن سعيد محمد، الذي أصبح فيما بعد وكيلا لوزارة الإعلام، وعلي بن محسن بن علي، والذي أصبح فيما بعد من كبار مهندسي طيران الخليج. وعلي بن محسن باشر التصميم بحسه الفني المرهف على ورقة "وسيلة"- تُطلق هذه الكلمة على اللوحات الورقية التي يستخدمها طلاب المدارس في تصميم المجلات الحائطية المدرسية- وكان رسمه مكوناً من ثلاثة ألوان مستوحاة من الطبيعة والبيئة العُمانية المحلية على شكل أفقي جزؤه العلوي كان باللون الأحمر، وهو اللون الذي يرمز للمعارك التي خاضتها عُمان عبر تاريخها الطويل لا سيما في نضالها ضد الاستعمار البرتغالي. ثم يأتي اللون الأخضر في وسطه، يرمز إلى الخَصْبْ والزراعة والمرتبط تقليديا بالجبل الأخضر، وأتى اللون الأبيض في أسفل التصميم ليرمز للسلم المحبة والوئام.
أدخل علي بن محسن بن علي في تصميمه اللون الأسود أيضا ليرمز للثروة النفطية، ورسم صورة لخنجر عُماني "سعيدي" مستوحاة من رمز عُماني فريد في نوعه ومرتبطا تاريخيا بأسرة آل بو سعيدي مع سيفين تقليديين، وقد حُددت مهله الإنجاز شهر واحد فقط.
وهناك من ينبغي أن أذكره وهو محمد رضا علي مختار، والذي اشتهر بعد ذلك بصاحب "مكتبة المعرفة"، وكان قد صمم العلم من ثلاثة ألوان أيضا، وهي الأبيض والأخضر والأحمر، وأرسل تصميمه عبر بريد عُمان إلى مكتب صاحب السُّمو السيد طارق بن سعيد آل سعيد.
لقد كانت لهؤلاء مبادرات لتقديم تصميم متقن وبروح الشباب والفتوة والوطنية، ولا زلت أذكر أن جائزة أفضل تصميم كانت ألف ريال عُماني.
ولكن للأسف فإنَّ الحظ لم يحالف أيا منهم، فقد فاز بالجائزة ضابط بريطاني كان يعمل في سلاح الجو السلطاني يُدعى "بِل غود فيلّو" (Bill Good Fellow).
وقد تم اعتماد العلم بقرار سلطاني، ورُفع العلم ليخفق في سماء عُمان لأول مرة في 18 شوال سنة 1391 للهجرة، الموافق 17 ديسمبر عام 1970 للميلاد، وتم تحديثه بموجب المرسوم السلطاني في 2024.5.22.