15 أبريل 2023 وما بعده: في سرد بعض ما حدث

بقلم: الوليد محمد الأمين

التاسعة من صباح السبت 15 أبريل 2023، الرابع والعشرون من رمضان.
اندلعت الحرب في الخرطوم. استيقظت قبل قليل. لم أنهض من السرير بعد كنت حين سمعت أصواتا متقطعة لما ظننته في البدء إطلاق رصاص. ولكن الصوت كان أقوى من أصوات الرصاص. قلت ربما هي أصوات رصاص متفرقة من مكان بعيد لأي سبب كان، محاولا استبعاد فرضية نشوب الحرب المتوقعة في الخرطوم منذ فترة ليست بالقصيرة.

الاحتمالات التي زادت قبل يومين بعد توارد الأخبار بأن قوات الدعم السريع قد حركت آليات عسكرية كبيرة باتجاه قاعدة مروي الجوية في شمال السودان.
ولكن هذا الظن - أو الأمل، مع الأسف، قد تلاشى بارتفاع أصوات الذخيرة وبعد دخولي لصفحات الفيسبوك، حيث وجدت الأخبار قد بدأت بالتوارد بأن هناك اشتباكات بين قوات الدعم السريع وقوات الجيش في محيط المدينة الرياضية. كنت في بيت الأسرة في حي المعمورة. صعدت إلى سطح المنزل فإذا الدخان يتصاعد ناحية الجنوب الغربي من جهة المدينة الرياضية وأصوات الذخيرة تتواتر متصلة تتصاعد ثم تهدأ قليلا لتعود مرة أخرى.
يتبادر للذهن بالطبع حين يطرق السمع اسم المدينة الرياضية أنها مدينة بحق وحقيقة. في الحقيقة لا تعدو هذه المدينة غير كونها ملعبا لكرة القدم ومضمارا للجري حولها لم يكتملا لأكثر من عشرين عاما بسبب الفساد المرافق لها. تقع هذه "المدينة " في منطقة جنوب الخرطوم، شرق السوق المركزي للخضار والفواكه بالخرطوم، ويحدها من الشمال مساحة خالية تستغل كموقف للحافلات والباصات. على الشرق منها تقع بعض مباني جامعة افريقيا العالمية، أما على الجنوب منها فهناك مبان سكنية كانت في الأصل جزء من أرض المدينة ولكن تم التصرف فيها بالبيع بطرق ملتوية، فمنذ منتصف التسعينات تاريخ بدء الفكرة والتنفيذ، فقدت المدينة نحو 73% من مساحتها البالغة نحو 1.5 مليون متر مربع وقتها لتتقلص إلى نحو 400 ألف متر مربع! وعلى ذكر اسم المدينة الرياضية فثمة مصادفة غريبة هنا بل وربما مخيفة، فالمدينة الرياضية في بيروت كانت هي أول الأماكن التي استهدفها الطيران الاسرائيلي في 4 يونيو من العام 1982، أي قبل يومين من بدء الغزو الاسرائيلي للعاصمة اللبنانية بيروت. من المعلوم بالطبع أن فترة حصار بيروت من قبل الاسرائيليين كانت من أصعب فترات لبنان، وقبل ذلك كانت الحرب الأهلية في لبنان قد اندلعت في العام 1975. وبعد الغزو الاسرائيلي عين الاسرائيليون حكومة موالية لهم برئاسة أمين الجميل، والقصة بعد ذلك معروفة.
9:23 اتصل البروفسور معاوية عبر الواتس أب. لم يقطعوا الانترنت حتى الآن. أخبرني أنهم من منزلهم في حي الجريف غرب قرب شارع الستين يسمعون أصوات الاشتباكات في القيادة العامة للجيش. كان البروفيسور معاوية وإلى وقت قريب لا يتجاوز الأشهر الثلاثة يسكن في حي المطار في بيت من بيوت جامعة الخرطوم هناك. أخطرته إدارة الجامعة الجديدة التي عينها الفريق البرهان بعد انقلابه بعدة أشهر، بإخلاء المنزل باعتباره قد وصل سن التقاعد. أذكر أنه طلب منهم وقتها منحه اسبوعين فقط لتوفيق أوضاعه إذ كان قد وجد سكنا مناسبا ولكن لا يمكنه الانتقال إليه قبل الأسبوعين. رفضت إدارة الجامعة طلبه وقتها ولكنهم رغم ذلك لم يحضروا لاستلام المنزل إلا بعد نحو الشهر من خروجه منه. على كل حال انتقل البروفيسور معاوية إلى المنزل الجديد بحي الجريف غرب قريبا من شارع الستين. وكان وقت سكنه بحي المطار يسكن شمال المنزل الذي خصص لقائد قوات الدعم السريع الجنرال حميدتي، لا يفصله عنه غير شارع ضيق. وجنرال هذه أو رتبته الرسمية كفريق في الجيش السوداني التي تلحق باسم حميدتي، هي ذاتها قصة عجيبة سنتحدث عنها فيما بعد. ذات المنزل كان قد سكن به لفترة الجنرال سلفاكير ميار ديت رئيس دولة جنوب السودان في الوقت الراهن، ونائب رئيس السودان وقت سكنه، قبل انفصال جنوب السودان عن السودان الكبير وإعلان دولته المستقلة في يوليو من العام 2011. قبلها ولفترة أقل كثيرا سكن به العقيد جون قرنق ديمابيور، فقد السودان الكبير، بعد أن وقع اتفاقية السلام التاريخية وصار نائبا للرئيس. على كل كانت تلك الاتفاقية هي ما انتهت بالسودان إلى بلدين منفصلين. بعد سلفاكير سكن بالمنزل الدكتور الحاج آدم الذي عين نائبا للرئيس عمر البشير لفترة من الزمن. كان من الواضح أن المنزل كان مخصصا على الدوام لسكنى من يتم تعيينهم كنواب للرئيس المعزول عمر البشير. بالطبع كنت أزور البروفيسور معاوية هناك في فترات مختلفة. يمكنني القول إن أكثر الفترات هدوء واحتراما للجيران في الحي بمشاهدتي وبملاحظاتهم وأقوالهم، أي الجيران، كانت هي فترة الجنرال سلفاكير. الحاج آدم من بعده صار المنزل في عهده مكتظا على الدوام بالزوار وأصحاب الحاجات من أهله أو عشيرته من دارفور كما كان واضحا من سحناتهم. سلفاكير في وقته لم يكن هناك ازدحام أو فوضى في الشارع وكان حراسه من الجنوبيين أو السودانيين الشماليين في غاية التهذيب وفي حالهم. الفوضى الكبيرة حصلت بعد سكن قائد المليشيا القبلية التي تطورت من الجنجويد إلى قوات الدعم السريع. صار المنزل محاطا بعربات التويوتا الدفع الرباعي وعلى متنها سلاح الدوشكا وراجمات الصواريخ. وقد كان واضحا حرص الجنرال الخلوي على أن يكون حرسه الخاص من أبناء قبيلته. كان هناك على الدوام حول المنزل وأمامه ما لا يقل عن العشرين عربة مذخرة بالأسلحة وقد يصل عددها لأكثر من ذلك في الكثير من الأحيان.
كان من حسن طالع البروفيسور معاوية أنه ترك السكن بحي المطار منذ فترة. ولكن ذلك لم يكن حال العديد من أساتذة جامعة الخرطوم الذين كانوا يسكنون هناك وحبستهم الحرب في منازلهم. من ضمنهم كانت الدكتورة سلوى (اسم مستعار)، التي حضّرت الدكتوراة في معملنا في معهد الأمراض المتوطنة بإشراف البروفيسور معاوية. أخبرني البروفيسور معاوية أنه اتصل بها فوجدها محبوسة في البيت مع طفلتيها وحدهم، إذ أن زوجها كان خارج السودان وقتها. انقطعت عنهم الكهرباء والمياه كذلك. اليوم التالي دخل عليهم عساكر الدعم السريع وطلبوا منهم الخروج من المنازل لأنهم يحتاجونها. أخرجوهم فقط بأنفسهم ولم يسمحوا لهم بحمل أي مقتنيات شخصية. صديقنا البروفيسور عمران فضل طلبوا منه الخروج ولم يسمحوا له باستقلال سيارته، وعندما رفض ابنه الصغير تسليمهم جهاز الموبايل الخاص به نزعوا عنه نظارته الطبية واستولوا عليها. البروفيسور منتصر الطيب كان قد خرج صباح يوم الأحداث بعيد اندلاعها – أخبرني البروفيسور معاوية - خرج بسيارته دون أخذ متعلقاته الشخصية. واحد من الذين رووا قصتهم وتناقلها بعض الناس على الفيسبوك بعد ذلك كان الدكتور صلاح بشير عميد كلية العلوم بجامعة الخرطوم. قال إنه في الخامسة مساء يوم الأحد اليوم الثاني للحرب، كُسر الباب الخارجي لمنزلهم ومن بعده الباب الداخلي ليفاجؤوا بعدها بأصوات عالية تأمرهم بالخروج من مخبئهم. خرجتُ، قال، أنا وبناتي الثلاثة وولدي والعاملة بالمنزل لأجد تسعة من الأفراد بالزي العسكري والمدني يحملون أسلحتهم، أمرونا بتسليم هواتفنا لهم وذهبوا بنا إلى مسجد الحي الذي كان مغلقا. واصل الدكتور قيادة سيارته التي سمحوا له بالخروج بها على أن يتبعهم، طاردوه بعربة بوكس قال، وفي شارع منعزل أوقفوه ليفتحوا الحقيبة التي كانوا قد فتشوها مسبقا ويأخذوا منها هذه المرة وتحت التهديد مبلغ الثلاثين ألف دولار التي كانوا قد رأوها في المرة الأولى ولم يأخذوها وقتها بحجة بحثهم عن الأسلحة. بعد نهبهم للمبلغ قال له واحد منهم أن كنت تريد مالك فعليك اللحاق بنا: عشان تشوف الطفا النور منو! نهبوا المبلغ إذن وذهبوا به أما الدكتور صلاح فقد أصيب بجلطة نقل على إثرها للمستشفى وأسعف هناك.
9:31 اتصل ياسر عمارة ابن خالتي محاسن، قال إنهم يسمعون أصوات الذخيرة بوضوح من منزلهم في الصحافة مربع 31. أخبرني أن الناس في الشوارع يشعرون بالحيرة وبالهلع. أحدهم ضرب محمد عمارة بسيارته ولم يتوقف حتى. بعد ذلك بثلاثة أيام ، أي في يوم السبت 18 ابريل وفي محادثة هاتفية مع ياسر قال لي أن عددا من الدعّامة ( وتلك هي التسمية الشعبية لجنود قوات الدعم السريع إضافة إلى مسمى الجنجويد ) ، كانوا قد أقاموا في سوق الحي الصغير شمال الميدان الكبير. قال لي إنهم وصلوا هناك منذ اليوم الأول للأحداث مع عدد من سيارات الدفع الرباعي المزودة بالأسلحة والذخائر. قال لي إن سكان الحي والأحياء المجاورة أكرموهم أيما كرم بالطعام والمعاملة الحسنة بعد أن عرّفوا أنفسهم بأنهم من قوات الشعب المسلحة – الجيش السوداني ، وأنهم كانوا من القوة التي اشتبكت مع قوات الدعم السريع عند المدينة الرياضية في اليوم الأول لاندلاع الحرب. الحصل بعد ذلك أن واحدا من سكان المنطقة اتصل بأحد أقربائه الضباط ليخبره بالأمر، فطلب منه الضابط أن يحدد له مكانهم بالضبط وعددهم وأن يتأكد من وجودهم ليرسل لهم قوة تقوم باجتثاثهم إذ لا توجيهات لقوات الجيش بالتمركز وسط الأحياء، ولكن الذي حدث أن الرجل حين ذهب للتأكد من ذلك وجد أنهم قد غادروا المكان. من حسن الحظ قلت لياسر أنهم لم يتعرضوا لأحد من السكان بشرٍ معهود عنهم.
9:36 اتصل الطيب مختار. كان في طريقه إلى المختبر من منزله في أمدرمان بينما موقع مختبر الحسن هو في وسط الخرطوم غرب شارع القصر وجنوب شارع السيد عبد الرحمن. قلت له أن يرجع من فوره. كان لا يعرف ما الذي يحدث على وجه التحديد، فعند خروجه من منزلهم بالثورة الحارة 33 لم تكن الأحداث قد بدأت بعد. قال لي إنه سيصل إلى حدود السلاح الطبي ثم يرجع. اتصلت به بعدها بنحو نصف الساعة فأخبرني أنه قد عاد أدراجه قبل ذلك بسبب تكدس السيارات في الشوارع، وأن عربات الجيش تقف قرب السلاح الطبي كما رأوها من على البعد. بعد ذلك بيوم سيخبرني الطيب أن فكي، الشاب الذي يسكن في العمارة ويعمل في غسيل العربات قد أخبره أن بعض نوافذ المعمل قد تحطمت وأن سيارة السيدة لبني (اسم مستعار)، التي تسكن في منزلها شمال المعمل قد طالها التدمير. كان فكي قد تحدث مع الطيب بالهاتف بعد أن وصل إلى الميناء البري مغادرا إلى الدمازين مسقط رأسه. الميناء البري هو المحطة الرئيسة في الخرطوم للمسافرين برا إلى خارجها لبقية الولايات عبر الحافلات الكبيرة أو الصغيرة، وهو يقع جنوب منطقة الصحافة في جنوب الخرطوم.
بعد ذلك بيوم، أي في اليوم الثالث للأحداث سيخبرني الطيب أنه اتصل بخضر، الشاب الذي يعمل في واحدة من البقالات قرب مركز النيلين للتشخيص الطبي ليخبرني أن خضر قد أخبره أن المنطقة محتلة من الدعامة وأنهم ينهبون ما تيسر لهم. كان خضر مرعوبا ويبحث عن طريقة للخروج من المنطقة قال لي. بعد ذلك بأسابيع سيخبرني محمد أحمد، ونحن في قريتهم بأمغد، أنه ظل محبوسا مع آخرين بداخل مركز النيلين الطبي يوم اندلاع الحرب ولم يتمكنوا من الخروج إلا بصعوبة شديدة.
9:39 اتصل بي الصديق عبد الكريم أبو بكر يسأل عن الحاصل والأحوال. قال إنهم يسمعون أصوات الذخيرة بوضوح، يسكن عبد الكريم بأركويت مربع 68. قريبا من منزلهم ولكن على الشارع الرئيس قتلت قوات الجنجويد على الأقل أربعة أو خمسة من الناس العزل يوم مجزرة اعتصام القيادة. واحد منهم كان اسمه محمود (اسم مستعار)، كان كل ذنبه أن طلب من العساكر أن يتوقفوا عن ضرب جارتهم في الشارع فقتلوه بدم بارد. لم يكن مثل ذلك ليكون شيئا ذا بال لقوات جاءت من بيئات لا تعني الحياة نفسها بالنسبة إليها شيئا ذي بال. سمي مخبز في الشارع باسمه بعد ذلك " مخبز الشهيد محمود "، ولكنه وقبل فترة حول إلى غرض تجاري آخر وغاب اسم الشهيد. ولكن فظائع مجزرة القيادة ما غابت يوما عن أذهان السودانيين، بل إنها أثرّت حتى على رؤية بعضهم ونظرتهم للجيش خلال هذه الحرب الأخيرة في شوارع الخرطوم.
9:58 اتصل بي الدكتور بشير عثمان ، اختصاصي علم الأمراض الجديد معنا في المعمل. قال لي إنه وجد نفسه عالقا هناك في وسط الخرطوم وأنه قد حضر لتشخيص عينات أول الأمس، نصحته بالاتصال بالطيب مختار لمعرفة وضع الطريق إلى أمدرمان حيث كان ينوي الذهاب حيث تقيم والدته، وقد فعل بعد أن أخبره الطيب أن جسر النيل الأبيض كان لا يزال مفتوحا.
10:23 اتصل الصديق طارق من الإمارات. اتفقنا أن ما يحدث الآن هو خطوة تأخرت كثيرا، اتفقنا كذلك أن الجيش بالتأكيد لم يقم بذلك حرصا على الوطن أو ناس البلاد، ولكنه فعل ذلك حرصا على مصالحه التي صارت تهددها قوات الجنجويد التي صارت تعرف بالدعم السريع. على كل حال رأينا أن الوقوف مع الجيش هو الخيار الصحيح، فكما قال طارق فالجيش مؤسسة عريقة بينما الدعم هي مليشيا مملوكة لأسرة! كان رأيي على الدوام أن الجيش السوداني قد يكون - أو هو كذلك - خطرا على الديمقراطية والحكم المدني في السودان، أما قوات الدعم السريع ومثيلاتها من المليشيات فهي خطر على وجود دولة السودان من الأساس.
تأسست قوات الدعم السريع قبل نحو العشرين عاما. وعلى موقع الويكيبيديا بالعربية تم تعريفها بأنها مليشيا شبه عسكرية مشكلة ومكونة من مليشيات الجنجويد التي كانت تقاتل نيابة عن الحكومة خلال الحرب في دارفور. ويعرف السودانيون أن الفكرة الأساسية من تكوينها في عهد الرئيس المخلوع بالثورة الشعبية الثالثة في تاريخ السودان الحديث، عمر البشير، يعرفون أن عماد هذه القوات كان القبائل العربية في دارفور، أو من يعرفون بالأبّالة – أي رعاة الإبل وهم بالطبع من الرُحّل، في مقابل القبائل الافريقية المستقرة والممتهنة للزراعة أو من يعرفون بالزرقة. يطلق السودانيون لفظ الأزرق على اللون الأسود. للصراعات بين العرب والزرقة في دارفور تاريخ طويل ومرارات قديمة. ولعل البداية الأقدم لقوات الدعم السريع أو الجنجويد، أو بعبارة أخرى حلقة من حلقات التطور الذي حدث لهذه القوات، كانت في عهد حكومة رئيس الوزراء الأسبق الراحل السيد الصادق المهدي. ففي النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي سلّحت حكومة السيد الصادق المهدي عبر الجيش السوداني قوات بدوية قوامها القبائل العربية في دارفور تحت مسمى المراحيل. وكانت الفكرة وقتها كما يشير الاسم بطريقة ما أن تتولى هذه القوات حماية الرعاة العرب وقطعانهم في مسيراتهم الرعوية من هجمات القبائل الافريقية في دارفور وكذلك هجمات قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان وقتها. وترجع جولي فلنت في كتابها " ما بعد الجنجويد "- متفقة في ذلك مع أليكس دي وال، بداية ظاهرة التمليش القبلي في السودان إلى عهد حكومة الجنرال سوار الدهب في العام 1985، والذي استخدمها في حرب الجنوب لتكون بعدها نموذجاً لكل الحروب اللاحقة - في جبال النوبة بوسط السودان، حقول النفط في جنوب السودان، ومؤخرا في دارفور. فبحكم ضخامة التكلفة المالية لتعبئة الجيش لمحاربة المتمردين الجنوبيين في الجيش الشعبي لتحرير السودان وعدم شعبية التجنيد، والشك في ولاء العديدين من ضباط الجيش، تقول فلنت، عملت الاستخبارات العسكرية على تسليح قبيلتين عربيتين في ولايتي جنوب دارفور وجنوب كردفان، هما المسيرية والرزيقات الجنوبية، وشجعتهما على تدمير المجتمعات التي يشتبه في دعمها للجيش الشعبي لتحرير السودان. ولم تكن الحكومة تدفع رواتبا للميليشيا الملقبة بالمراحلين، ولكن سُمح لها بالحفاظ بما تغنمه، بما في ذلك قطعان الماشية والممتلكات المنزلية، بل حتى النساء والأطفال، ولكن صيغة القتال هذه اشتملت على القتل العرقي المستهدف والإفلات من العقاب كاملاً. انتهى الاقتباس من دراسة فلنت.
على كل حال أظهر الجنجويد شراسة كبيرة في الحرب كان بعض أسبابها طبيعتهم البدوية وعدم تقديرهم لقيمة الحياة نفسها أو على الأقل نظرتهم المختلفة للحياة ولحق الآخر في الحياة ومفارقة سلوكياتهم على وجه العموم للمفاهيم الحضرية.
10:29 اتصل بي الصديق علاء الدين مكي. أخبرته أنني في المعمورة ولست في بيتي بحي الأزهري. تحادثنا قليلا ثم عاد كل واحد منا لمتابعة الأخبار. يسكن علاء الدين بحي جبرة. على مسافة ليست بالبعيدة منهم ثمة مقر لقوات الدعم السريع وعلى مسافة أبعد قليلا كان هناك سكن قائد المليشيا نفسه أو أحد بيوته العديدة.
قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي، كان شخصا مغمورا عمل في تجارة الإبل كما تشير بعض الروايات، ثم لمع نجمه في قوات الجنجويد بعد ذلك. كان قائد هذه القوات من قبله السيد موسى هلال، الزعيم القبلي والوجيه لدى قومه، ولكن حميدتي ألقى القبض على هلال تنفيذا لأوامر الرئيس البشير بعد خلافات معه، ومنها صعد نجمه وتولى قيادة القوات. حميدتي نفسه ليس من ضمن اسمه، وفي الرواية أن جدته كانت تلاعبه بذلك اللقب، وربما كانت تلك حكاية لا تسندها أدلة ولكنها رائجة. أما الرئيس البشير فقد حرّف الاسم إلى “حمايتي “! حتى إذا استحكمت ثورة السودانيين قفز دقلو من سفينة البشير الغارقة وانضم للجنة الأمنية التي عزلت البشير ومن يومها تسارعت الأحداث حتى انتهت إلى الحرب الأخيرة. كان لوقوف دقلو ضد البشير والمساهمة في عزله دور مقدر في التخلص من نظام الانقاذ، الخطيئة التي لن يغفرها له اسلاميو السودان وبالطبع عمر البشير نفسه الذي كان صرح ذات يوم بأن تكوين قوات الدعم السريع هو أفضل قرار اتخذه في حياته!
11:35 الآن وفي هذه اللحظات نقلت الصحفية شمائل النور على صفحتها في الفيسبوك بيانا لقوات الدعم السريع تعلن فيه سيطرتها على القصر الجمهوري وبيت الضيافة ومطارات الخرطوم ومروي والأبيض. تسبب الاعلان في مشاعر من الاحباط لدى الناس. قد لا يمثل القصر الجمهوري أهمية استراتيجية في عرف العسكريين، ولكنه بالمقابل يمثل رمزا من الأهمية بمكان لدى السودانيين، فالقصر الجمهوري هو المكان الذي يقيم فيه رئيس الدولة وهو رمز من رموز السيادة ، وعلى عتبات بعض درجه تروج حكاية أن الأنصار قطعوا رأس شارلس غردون ، مع أن ذلك في الحقيقة حصل في المبنى المخصص حاليا لوزارة المالية ، الحقيقة أو الرواية الأخرى هي أن الجنرال شارلس غردون قتل برصاصة، ولكن واحدا من الأنصار قطع رأسه بعدها بعد التعرف عليه، وقام بحمله إلى الإمام المهدي، أي أنه لم يكن معروفا لديهم وقت مقتله رغم أبهة الصورة أو الرسم المنتشر لغردون باشا على درجات السلم متحديا الأنصار بوثوق . بيت الضيافة هو الآخر من الأماكن ذات المكانة الرمزية لدى السودانيين، ففي يوليو من العام 1971 في انقلاب الرائد هاشم العطا على الرئيس نميري حدثت المقتلة التي عرفت في التاريخ الحديث للسودانيين بمجزرة بيت الضيافة. كان باعث الاحباط الأكبر لدى السودانيين هو إعلان قوات الدعم السريع استيلائها على مطاري الخرطوم والأبيض. وبالأخص مطار الخرطوم بالطبع أكبر مطارات البلاد ومطار عاصمتها. في الأيام التالية ستتصاعد سحب الدخان من المطار، وفي واحدة من هذه المرات سيتصاعد الدخان الأسود كثيفا حتى يمكن رؤيته من كل حدود العاصمة.
11:43 على الفيسبوك عرض أحمد أوباما مقطعا مصورا لعدد كبير من المسافرين المحتجزين بداخل مطار الخرطوم وهم يفترشون الأرض ويسمع صوت يأمرهم بالنزول للأسفل أي الرقاد على الأرض، يظهر كذلك صوت واحد من الناس وهو ينطق بالشهادة والحوقلة. أحمد أوباما هو أحد الشباب السودانيين الناشطين أصحاب المبادرات واكتسب شهرة معقولة بكتاباته عن الأسفار والمدن والبلاد التي يزورها وحده أو رفقة مجموعات. كان أحمد واحدا من الناجين من مجزرة فض اعتصام القيادة في يونيو من العام 2019. بعد يومين من ذلك نشر شخص اسمه محمد سيد على صفحته في الفيسبوك بعض تفاصيل ما حدث لركاب طائرة الخطوط الجوية السعودية التي كان من ضمن ركابها تحت عنوان: " رحلة الخطوط السعودية، محتوي +18 “! وكان يشير بذلك للفظاعات التي سترد ضمن كتابته. رغم كل شيء تمنح الأيام واللحظات العصيبة المرء فرصة للتأمل في حيوات الناس وفي معنى الحياة ذاتها. أحيانا بالطبع في جدواها. في قصته يشير محمد سيد إلى أن صالة المغادرة كانت مكتظة بالمسافرين، فجلس على الأرض متكئا على حائط غير بعيد من رجل ثلاثيني محتضنا ابنه ذا السنوات الأربع أو نحو ذلك وهو يلاعبه وبجوار الرجل تجلس زوجته والدة الطفل الصغير، ذلك بينما كان الصغير يبتسم لملاعبات محمد سيد كاتب التدوينة. بعدها ركبنا الطائرة التي كان من المفترض أن تقلع في تمام التاسعة والنصف، قال محمد سيد، ولكنها تأخرت. السيدة كبيرة السن الجالسة على يميني عند شباك الطائرة، والحكاية لمحمد سيد بالطبع، تحدثت بالهاتف وقالت إن الدعم السريع ابتدر ضربا عنيفا في جبرة ودخل وسط الخرطوم. بعدها رأينا بعض المدرعات في القاعدة (الحربية) قرب المطار، وكان هناك تصاعد للدخان والحريق. طاقم الطائرة السعودية طلب من الركاب إغلاق النوافذ، ومع تعالي أصوات الرصاص زاد الهلع والذعر بين الركاب، وطاقم الطائرة يطلبون من الركاب البقاء في أماكنهم. نحو العاشرة والثلث دوى صوت كالمفرقعات إلا أنه أعلى صوتا. ذهبت للوراء مني بثلاثة أو أربعة مقاعد، كتب محمد سيد، فأشار لي بعض الركاب هناك لكسر في الطائرة يبدو كمدخل رصاصة. زاد الهلع والفوضى وبعض الشباب كادوا يشتبكون مع الطاقم. ثوان بعد عودتي لمكاني دوى صوت انفجار قوي للغاية تسبب في رمي مقعدي للأمام. على ذراعي اليسرى كان ثمة دماء، وعلى الهاتف النقال كانت هناك قطع صغيرة لأشلاء بشرية. نظرت للخلف، والكلام لمحمد سيد بالطبع، فوجدت شخصين وقد ماتا من فورهما وتحتهما رجل ممسك بهاتفه ويبدو أنه كان يقرأ بعض القرآن. الناس كانوا في حال صدمة والأطفال لا يمكن وصف حالتهم. بدأنا نأمر الناس بالخروج من الطائرة عبر أبواب الطوارئ. طلبت من الرجل بين المقعدين الخروج فقال إنه لا يستطيع، طلبت من زوجته التحرك فأشارت إلى قدمها، كانت مقطوعة من فوق الركبة ومعلقة بقليل من الجلد وعظامها بائنة. طلبت مني تركها والنجاة بحياتي. صحت للطاقم بالإنجليزية أنني أحتاج مساعدة هنا، حضر أحدهم ولكنه أصيب بالصدمة هو الآخر عند رؤيته لها، لم يكن ثمة نقالة، ولم يكن ثمة عربة اسعاف في المطار وقتها، على كل حال أحضروا حزاما استخدمناه لوقف نزيف الدم من القدم على أمل أن نساعدها على الوقوف لتستند هي على رجلها الشمال، فإذا بالشمال نفسها مهشمة! بطريقة أو بأخرى (فصّلها كاتب التدوينة) نجحنا في إخراجها - والحكاية لمحمد سيد - والرصاص يتطاير في المكان وعلى الطائرة. بعد الوصول للصالة كان هناك بعض الأطباء من الشباب اعتنوا بالسيدة التي اتضح أنها حبلى في شهرها السابع وبآخرين من الركاب المصابين. ما لم أستطع تحمله يقول كاتب الحكاية، محمد سيد، حضور أحد الركاب حاملا طفلا صغيرا لرؤية والديه، لأنتبه وقتها أنه ذات الطفل الذي لاعبته في صالة المغادرة وأن الرجل والمرأة هم والديه. كان الصغير في حال من الصدمة ويردد طيارة طيارة! انهمرت علينا الذخائر في الصالة وأصيب البعض اصابات متفاوتة، خرجنا من الصالة عبر صالة المغادرة بعربة رجل بدا لي أنه يعمل ضمن أمن المطار. وجدنا عساكر الدعم السريع يملؤون المطار وشارع المطار. غادرنا عربة الرجل عند شارع 15 أنا والدكتور محمد يقول كاتب القصة، الذي يذكر أنه فيما بعد علم بوفاة سيدة من الركاب كانت قد أصيبت برصاصة في البطن. انتهت القصة، وهناك تفاصيل أكثر مما ذكرته هنا بالطبع، وشاهد العيان الذي كتبها نفسه يقول إن ما كتبه لا يساوى ربع ما أحس به في الواقع. بعد ذلك بعدة أيام انتشرت صورة لطاقم الطائرة وهم بضيافة السفير السعودي في الخرطوم، في منزله أو في سفارة المملكة لست متأكدا. محمد سيد، كاتب القصة، تواصلت معه بعد ذلك بعد ما يقارب العام من اندلاع الحرب. لم تكن لي به سابق معرفة. أرسلت له عبر المسنجر فرد مشورا ووجدته يعرفني من الأسافير. كان طبيبا تخرج من جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، ووقت اتصالي به كان قد سافر واستقر بإنجلترا.
11:32 عادل كلر Adil Color في الفيسبوك عرض صورة لمنزل من الخارج مرفقا معها خبرا مفاده وفاة المواطن (أ.و) بعد سقوط دانة على باب منزله بحي المزاد جنوب ، "نسأل الله أن يتقبله شهيدا ويلهم آله وذويه الصبر والسلوان". انتهى الخبر. بعدها بساعات مساء اليوم في السابعة والنصف اتصل بي الصديق الدكتور عبد الرحيم مدثر من السعودية حيث يعمل، بعد السؤال عن الأخبار سألني إن كنت أذكر الدكتور هشام وقيع الله. تذكرته، يعمل الآن بالسعودية، وكان يعمل لفترة قبل اغترابه مسئولا عن مختبرات مستشفى أحمد قاسم. أخبرني عبد الرحيم أن الشخص المتوفى بسقوط الدانة هو أخوه وأن أسمه أسامة وقيع الله. بعدها نشر هشام الخبر في الفيسبوك فأرسلنا له التعازي.
بعد ذلك اليوم بكم وأربعين يوما، في يوم الثلاثاء 30 مايو سيغادر عادل كلر إلى جوبا عاصمة جنوب السودان وسيكتب عن ذلك في صفحته بالفيسبوك.
11:49 في هذه اللحظات على الفيسبوك صفحة اسمها "اثيوبيا" تنشر خبرا عاجلا : "عااااجل : في البيان الثالث لقوات الدعم السريع يعلن عن سيطرته الكاملة على المواقع التالية : 1. القصر الجمهوري 2. بيت الضيافة 3. القبض على القوة المهاجمة 4. السيطرة على مطار الخرطوم ومروي والأبيض 5. السيطرة على عدد من المواقع بالولايات، مكتب الناطق الرسمي لقوات الدعم السريع 15-4- 2023". انتهي الخبر مرفقين معه صورة لجنود من الدعم السريع على سياراتهم رافعين أسلحتهم وصورة لجنود آخرين على الأرض وصورة ثالثة بها شعار قوات الدعم السريع. دعك من بعض الركاكة في الصياغة، ولكن كان من الواضح أن الأثيوبيين لم يكونوا سعداء لعلاقات حكومة الجيش السوداني بالحكومة المصرية وما رشح في الأيام الفائتة قبل اندلاع الحرب من وجود جنود وضباط مصريين في قاعدة مروي الجوية. عدّ الأثيوبيون ذلك تهديدا لهم وبالأخص لسد الألفية على بحيرة تانا قرب حدود السودان. من الأسباب التي سوّق بها مؤيدو الدعم السريع وآلته الاعلامية لسيطرتهم على مطار مروي وجود المصريين به، ما عدوه تعديا على كرامة السودان والسودانيين! عند اندلاع مواجهات الفشقة قبل عام وزيادة بين الجيش السوداني والمليشيات الأثيوبية المدعومة حكوميا، والتي تبرأت منها الحكومة الأثيوبية فيما بعد، رفض السيد حميدتي توجيه قواته للقتال هناك رفقة الجيش السوداني بحجة أن قواته ليست معدة لذلك، في الحقيقة للسيد حميدتي استثمارات ضخمة في أثيوبيا.
12:00 ينتشر خبر الآن على الفيسبوك ومواقع التواصل عن أن توجيهات صدرت بقطع خدمة الانترنت من اليوم وحتى اشعار آخر! ولكن ذلك للغرابة، إنما لحسن الحظ، لم يتم حتى اليوم السابع من الحرب. كان سلوكا شائعا ومعتادا من السلطات السودانية قطع خدمات الانترنت بل وحتى الاتصالات في مثل هذه الأحوال. في مجزرة القيادة قطعوا النت عنا وفعلوا ذلك أيضا بعيد انقلاب 25 اكتوبر فقطعوه مرة أخرى.
12:05 الآن أسمع اصوات الطائرات تحلق وتطلق القذائف.
صعدت إلى السطح. كانت هناك طائرة حربية تحلق في جهة الشمال، على جهة القيادة العامة للجيش والمطار. الشوارع قلت الحركة فيها من المارة والسيارات وبدت هادئة أكثر من المعتاد في مثل هذه الأوقات. صوت الضرب يتصاعد. في البيت بدأت ياسمين الصغيرة (5 سنوات) ابنة أختي بالبكاء. بكت لأن حنان المربية التي تعمل معهم بالمنزل وحضرت صباحا قبل ابتداء الأحداث توترت وبكت خوفا على أولادها في منزلهم بحي بري. على الفيسبوك انتشرت صورة لعدد من الطلاب والطالبات بزيهم الجامعي وهم محبوسون في مكان ما غالب الظن أنه كليتهم الجامعية وهم متكومون على الأرض يحرسهم واحد أو أكثر من العساكر. فكرت في هذه التفاصيل الصغيرة التي لا ينتبه لها جمهور الناس. العديد من الطلاب خرجوا لجامعاتهم وعلقوا هناك. من حسن الصدف أن اليوم هو يوم سبت فكل الجامعات الحكومية وكذلك بقية المصالح الحكومية لا تعمل اليوم بصورة رسمية. أما المدارس فكانت قد أكملت امتحانات طلابها وبدأت العطلة السنوية عدا قلة قليلة منها. لولا أنه رمضان لكان من المفترض أن لدي محاضرة اليوم لطلاب الماجستير بجامعة النيلين.
في العام 1976 وفيما عرف بهجوم المرتزقة، والذي قادته الجبهة الوطنية المتحدة، والمكونة من تحالف عدد من الأحزاب السياسية، كنا تجمعنا ببيت جدتنا الحاجة زينب بت أبوراس في الخرطوم جنوب. أذكر وقتها أننا دخلنا تحت ذلك النوع من الأسرة البلدية المعروف بالعناقريب. كانت الوصية كذلك وقتها. بعدها وجدنا فوارغ الرصاص في الشوارع. قتل في تلك المعركة العديد من الناس. الآن تنقل صفحات الفيسبوك صور بعض القتلى في شوارع الخرطوم. انتشر كذلك في الفيسبوك وعلى تطبيق الواتس أب مقطع فيديو قصير لواحد من جنود الدعم أو ضباطه من داخل قاعدة مروي الجوية يقول فيه إنهم سيطروا على المطار. انتشر المقطع بصورة كبيرة. بعدها انتشر تسجيل صوتي لمن قيل إنه ضابط في الجيش السوداني يفند مقطع الدعم ويقول انه مصور في ليبيا لأن هذه الطائرات لا توجد في قاعدة مروي واستدل على ذلك بضوء الشمس والغيوم وأن الشمس في مروي اليوم ساطعة وليس كما في مقطع الفيديو المصور. بعدها انتشر تسجيل آخر لمن قيل إنه من أهالي مروي يتحدث بلكنة الشوايقة في مروي عن أن جنود الدعم هربوا ودخلوا في الجناين.
على كل حال سيتضح في مقبل الأيام أن قوات الدعم السريع سيطرت بالفعل على المطار لفترة أكثر مما أعلنته الحكومة. وبعد استعادة الجيش للمطار سيتم أعفاء قائد الفرقة العسكرية فيه وتعيين قائد جديد.
ولكن عددا مقدرا من الناس فقدوا ثقتهم في الجيش وصاروا ينظرون إليه كجناح مسلح أو مليشيا خاصة بالحركة الاسلامية في السودان. لقد أفسدت سنوات الانقاذ المتطاولة ودكتاتورية الرئيس المخلوع عمر البشير واستماتته لأجل البقاء بأي ثمن، أفسدت الجيش كما أفسدت كل مناحي الحياة في السودان. رغم ذلك فبالنسبة لي فقد كنت أرى أن الجيش هو في النهاية مؤسسة ذات تاريخ وقيم وإن ضعفت فلا يمكن مقارنتها بالمليشيا القبلية يقودها رجل جاهل محدود التعليم وشقيقه الجاهل هو الآخر. لا يعني ذلك بالطبع الاستهانة بذكاء قائد القوات حميدتي وإجادته القفز على حبال السياسة السودانية. لقد اكتشف الرجل بطول المعاشرة ووصوله للمسكين بمفاصل القرار ومعارضيهم أنهم لا يفوقونه كثيرا في امكاناتهم فدخل اللعبة من أوسع أبوابها! بالطبع لم يصدق أحد من الناس ما ظل يردده قائد المليشيا من أنه يقاتل من أجل الديمقراطية في السودان، بل ولسخرية الأقدار صرح مرة لواحدة من القنوات أنه يقاتل البرهان ربيب الاسلاميين ومن معه من الاسلاميين المتطرفين في السودان. إنه ذات حميدتي الذي كان قد صرح في سبتمبر من العام 2020 أن الدين خط أحمر، وانهم لن يفرطوا فيه! على كل حال فقد كان صرح في يناير من العام 2018 قبل سقوط الرئيس البشير بأنهم، أي الدعم السريع، بالمرصاد لمن يعارضون ترشيح البشير، يعني لدورة رئاسية جديدة في 2020 كما كان مقررا.
ستمر الأيام وتتطاول الحرب ويختفي حميدتي من المشهد وبجاحة الظهور العلني إلا مرة مرة، في واحدة من هذه المرات قال إن البرهان "صلاة ما بيصلي"! ورغم ذلك يصفه بالإسلامي المتطرف، وأن حربه ضده هي حرب استعادة الديمقراطية. لا يكف السودان عن الإدهاش!
بعد أقل من أسبوع على بدء الحرب سيتصل بي البروفيسور معاوية ليخبرني أنه سيسافر إلى القاهرة هو وزوجته وابنه محمد. قال لي إن اصدقاء محمد من أسرة اسامة داوود رجل الأعمال الكبير والمعروف في السودان قد وفروا بصا سيغادر إلى القاهرة غدا صباحا وأنهم سيذهبون معهم. بعدها سيسألني البروفيسور معاوية عن الأحوال وعن خطتي للتعامل مع الوضع وذلك بالتواصل عبر تطبيق الواتس أب. لم تكن لي خطة ولم يكن بيدي ما أفعله فكنت أكتفي بالرد بالحمد لله أو بالصمت.
في المساء نحو التاسعة والنصف اتصل بي طارق يعقوب ابن عمي. قال لي إنه الآن في حي الديم رفقة أحد أصدقائه من العاملين معهم في المركز الطبي الحديث بشارع المطار. كانوا هناك وقت اندلعت الاشتباكات وتعذر عليه بالطبع العودة إلى امدرمان فذهب إلى الديم.
على الأرض دخلت المدينة في حال الترقب ودخل ضباط الجيش وجنوده في حال الانتقام لكرامتهم التي مرغتها المليشيا في الوحل بتصريحات قائدها وتصرفات أفرادها، ففي واحدة من المرات قبل سنوات قام عساكر من الدعم بتقييد ضابط من ضباط الجيش السوداني وجلده بالسياط، غير مرة صرح قائد المليشيا بأن على الحكومة أن تصنع لها جيشا لتتحدث، وهكذا وهكذا وغير ذلك مما عده أفراد وضباط الجيش ضربا من قلة الأدب. على صفحته اليوم كتب النقيب حامد: " الجيش السوداني قادر على حسم أي متفلت، ونحن ولادا وقت الناس تدنقر روسا ". اكتسب النقيب حامد عثمان شهرة كبيرة واحتراما مقدرا لموقفه يوم حمى المعتصمين عند قيادة القوات المسلحة يوم هاجمتهم قوات عسكرية، وأصبحت صورته وهو يقف على العربة عند سلاحه مدافعا عن الثوار من الصور الأيقونية في الثورة السودانية.

wmelamin@hotmail.com  

المصدر: سودانايل