ضياء الدين بلال: الرصاصة الأولى ونظريّة (الطرف الثالث)..!
تاريخ النشر: 16th, April 2024 GMT
-١- في سبتمبر ٢٠١١ بمنطقة أبيي، اشتعل القتال بين الجيش السوداني وجيش الحركة الشعبية عقب انفصال الجنوب.
كان الطرفان قبل ذلك يستعدان لما هو أسوأ، برفع درجة الاستعداد العسكري، كل طرف يريد ألّا يتفاجأ بالرصاصة الأولى.
وحينما انطلقت تلك الرصاصة، بدأت المعركة على أشدّها بين الطرفين وبرز وقتها سؤال:
مَـن الذي بدأ الحرب قبل الآخر؟!
وخرج الجيش الشعبي لأجهزة الإعلام ليقول إنّ جندياً مُنفلتاً تسبّب في اندلاع المعركة في منطقة أبيي، حينما قرّر بمفرده – في لحظات فقدان وعي – أن يطلق الرصاصة الأولى التي خرج على إثرها الجيش الشعبي من المنطقة التي دخلها فرحاً عبر بنود بروتوكولات نيفاشا، ليخرج منها مدحوراً بتصرُّفٍ طَائشٍ من أحد جنوده.
-٢-
وفي ذات العام، اندلعت الحرب في ولاية النيل الأزرق، وتساءل الناس هل ما حَدثَ كان فعلاً مُخطّطاً له، باختيار توقيت ولحظة صفر محددة، اختارها أحد الطرفين أم أنه جاء على سبيل الصُّدفة؟!
حينها أوردت الزميلة (الأخبار) أنّ جندياً – مجهول الاسم – أطلق الرصاص على عربة رفضت الامتثال لطلب الإيقاف في إحدى نقاط التفتيش؟!
فبرصاصات الجندي الاعتراضية، انتقلت ولاية النيل الأزرق لمربع الحرب المفتوحة.
-٣-
وقبل ٤٨ ساعة من اندلاع الحرب الأخيرة بين الجيش ومليشيا الدعم السريع المتمردة، كتبت على صفحتي بـ”الفيسبوك”:
كل الأشياء هناك قابلةٌ للاشتعال وفي انتظار شرارة ما أو رصاصة طائشة الآذان تسترق دبيب النمل، والأعين المُتوتِّرة تبحث عن خيط المُؤامرة الأسود في عتماء الظلام، والأنف المتوجسة تتفحّص الروائح.
وعند هذه الحالة فقط تخرج الحرب من غرف الكبار لتجلس على فوهة كلاشنكوف جندي صغير!!
-٤-
ما حدث قبل عام يختلف عن الذي حدث عام ٢٠١١ في منطقتي أبيي والنيل الأزرق، فلم يكن الأمر مُتعلِّقاً فقط برصاصة ذلك الجندي المجهول.
كانت المليشيا قد فعلت كل ما يؤدي لاشتعال الحريق:
-ذهبت بمدرعاتها وقواتها نحو مطار مروي خارجة عن إمرة الجيش ودون إذنه!!
-ولم تَكتفِ بذلك، بل فرضت حصاراً مُحكماً على المطارات في الأبيض والفاشر ونيالا.
-أدخلت المليشيا، مئات سيارات اللاند كروزر بيك أب المُعزّزة بالراجمات ومضادات الطيران والدروع إلى العاصمة الخرطوم، ونشرت قواتها في الأماكن الحيوية والاستراتيجية.
-وقبل الرصاصة الأولى وفي ليلة ١٤ أبريل، ألقت المليشيا القبض على قائد لواء الباقير مأمون محمد أحمد، حيث ذكر ذلك في تسجيل بثّـته المليشيا بعد أيام من اندلاع الحرب.
-وعلى مقربة من مسكن البرهان حشدت المليشيا نحو ستمائة سيارة عسكرية تقريبًا وحفارات بوكلين، لهدم الحائط الفاصل بين مسكن قائدها وقائد الجيش في انتظار لحظة الصفر.
-٥-
من هنا بدأت الخطوات الأخيرة للانقضاض على قيادة الجيش، في عملية أرادتها المليشيا خاطفة وسريعة تُسيطر من خلالها على السُّلطة، وتفرض حكم آل دقلو على البلاد.
كانت المليشيا تريد واحداً من أمرين:
أولهما/ إرغام قيادة الجيش التوقيع على الاتفاق الإطاري الذي يمنحها خيار الاستقلال عن الجيش الوطني، لتصبح جيشاً مُوازياً طوال الفترة الانتقالية تحت قيادة رمزية مدنية تمتد لأكثر من عشر سنوات.
والخيار الثاني/ وهو ما أخطر به حميدتي زائريه من ممثلي الدول الأوروبية-حسب مصادر مطلعة- بأنه سيلقي القبض على قيادة الجيش ويزج بها في السجن إذا لم تُوقِّع على الاتفاق الإطاري.
– وفي أول لقاء تلفزيوني مع قائد المليشيا يوم إندلاع الحرب قال: خلال ساعتين إما أن يقتل البرهان أو يلقى القبض عليه وأضاف أن كل المطارات قد تم تحييدها.
-٦-
-لو أراد الجيش أن يبدأ الحرب، لكانت درجة الاستعداد في كل الأجهزة العسكرية والأمنية في مستواها الأقصى ١٠٠٪.
-ولو أراد الجيش الحرب، لما تمكّنت المليشيا من أسر المئات من قادته في الساعة الأولى من اندلاعها.
-ولو أراد الجيش الحرب، لما ترك الضباط أسرهم بحي المطار على مقربة من منزل قائد المليشيا المُدجّج بالأسلحة، والمحتشد بالقوات، لتصبح تلك الأسر رهائن في مُتناول قبضته.
-ولو أراد الجيش الحرب، لما انتظر قائده، المليشيا لتقتحم عليه غرفة نومه لولا بسالة حراسه التي أنجدته من الموت والأسر بأعجوبة.
-٧-
أما نظرية الطرف الثالث، فهي مُحاولة قديمة ومُكرّرة ومُعَادَة، مُستلفة من أرشيف السياسة السودانية، لذا فهي غير قابلة للتسويق.
حينما أُعدم كبار ضباط الجيش في بيت الضيافة عام ١٩٧١ في انقلاب هاشم العطا، قالوا إنّ طرفاً ثالثاً هو مَن فعل ذلك، رغم أنّ كل القرائن والاعترافات والمعلومات كانت تُؤكِّد أنّ التصفية تمّت بتوجيهٍ مُباشرٍ من أبو شيبة قائد الحرس..!
وعندما قُتل شباب الاعتصام في ليلة العيد أمام قيادة الجيش عام ٢٠١٩م، قالوا إنّ طرفاً ثالثاً مَن فعل ذلك، رغم أنّ كل الفيديوهات والمعلومات أكّدت أنّ فَضّ الاعتصام تَمّ بتخطيط وتنفيذ قوات الدعم السريع وإشراف عبد الرحيم دقلو شخصيّاً..!
-٨-
-لو أراد الإسلاميون إشعال الحرب، لما كان خيارهم فقط إطلاق رصاصة واحدة في المدينة الرياضية، لسعوا لمُحاصرة المليشيا في كل الأماكن التي يتواجدون فيها.
-لو أراد الإسلاميون الحرب، لقاموا بتأمين قياداتهم في كل مكان، ولما تَمّ القبض على اثنين من أهم القيادات أنس عمر والحاج آدم بسهولة ويسر في منزلهما، والأخير تم إطلاق سراحه بعد وساطة قبلية.
-لو أراد الإسلاميون الحرب، لقاموا بتهريب قيادتهم من السجون والمستشفيات بالتزامن مع إطلاق الرصاصة الأولى، ولما مكثوا أكثر من ١٠ أيام في أماكنهم.
-ولو أراد الجيش أو الإسلاميون الحرب وبادروا بها، لفرض المنطق أنّ من يُهاجم في منزله وغرفة نومه هو حميدتي وليس البرهان..!
-والأهم من ذلك أنّ اعتماد رواية الطرف الثالث، تعني عملياً بطلان ما ظَلّت تُردِّده المليشيا وأعوانها بأنّ قيادة الجيش تتحرّك بإمرة علي كرتي، وهذا يعني أنّ الرجل ليس في حاجة لطرف آخر ليُنفِّذ له ما يريد طالما أنه يملك زمام أمر القيادة.
ولكن يظل السؤال الذي يحتاج لإجابة واضحة من قيادة الجيش :
رغم كل تلك المؤشرات القوية التي تكشف نوايا المليشيا لماذا ظل الجيش في درجة منخفضة من الاستعداد وما تلك الرهانات الخاسرة التي كان يراهن عليها ؟!
-أخيراً-
لكل ذلك وغيره ، تتراجع أهمية ما حَدَثَ في المدينة الرياضية أمام كل تلك التّطوُّرات الحربية التي اتّخذتها المليشيا والحرب في تعريفها البسيط تتكون من أربعة أركان:
تقدم
هجوم
ودفاع
انسحاب.
إذن مُحاولة اعتبار أنّ الحرب بدأت من المدينة الرياضية ، مُحاولة احتياليّة لصرف الأنظار عن كل ما فعله وما قاله آل دقلو قبل الشروع في تنفيذ مُخَطّطهم الإجرامي صبيحة ١٥ أبريل .
ضياء الدين بلال
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الرصاصة الأولى قیادة الجیش
إقرأ أيضاً:
المليشيا والدولة في السودان
عبد الله علي إبراهيم
(استغرب بعضهم قولي على الجزيرة مباشر أن من حق الجيوش توظيف مليشيات لأغراضها دون أن تتخلى عن احتكارها للسلاح الذي هو خصيصتها في الدولة الحديثة. والترخص في احتكار السلاح هو ما ارتكبه نظام الإنقاذ لا بخروج الدعم السريع من رحمه كما يذاع، بل لأنه جعله جيشاً ثانياً شريكا في حمل السلاح باستقلال. فكانت المليشيات قبله تنشأ بجانب الجيش ثم تنفض متى فرغت من مهمتها ليومها. ولكن الإنقاذ تعاقدت مع الجنجويد لا فكاك. ولو كانت القراءة عادة فينا لما استغرب هذا البعض مني قولي. فكنت نظرت في مادة المليشيا منذ 56 عاماً خلال عرضي لكتاب "مذبحة الضعين" (1987) لسليمان بلدو وعشاري أحمد محمود. وحررت هذه المادة في باب من كتابي "الثقافة والديمقراطية" (1996) في فصل عنوانه "أخرجت البادية أثقالها وقالت الصفوة مالها!" بعنوان جانبي هو "جدل القبيلة والدولة". وأنشر هنا طرفاً من الفصل عن سيرة الدولة المركزية السودانية والمليشيا في التاريخ).
وصفت بلين هاردن استخدام الدولة السودانية لـ "المليشيات القبلية"، في حربها ضد قوات الحركة الشعبية، بأنها الحرب بأدنى تكلفة. وليس هذا صحيحاً وحسب، بل أن هذه الحرب الرخيصة أيضاً ظلت أداة تاريخية تلجأ لها الدولة السودانية مع قوى البادية السودانية الخارجة على سلطانها. فغالباً لم يكن في مقدور هذه الدولة أن تطال تلك القوى في بواديها المستغلقة المستعصية. وكثيرًا ما وجدت تلك الدولة نفسها مضطرة للتحالف مع جماعات أخرى في نفس البادية لها خصومة مؤكدة مع تلك القوى الخارجة على الحكومة. وهذه الخصومة هي التي تجعل حلفاء الحكومة حريصين على ملاحقة الخارجين على الحكومة وترويعهم في بيئة لا قبل للدولة لشقها وفرض أدوات سيطرتها عليها.
وأستطيع من خبرتي بتاريخ عرب الكبابيش بشمال إقليم كردفان أن أدلل على رسوخ نسق تحالف الدولة القاصرة مع نظم اجتماعية وسياسية أدنى مثل القبيلة والطائفة لتصفية معارضيها في بيئات البادية والهوامش المستعصية. فقد طلبت الإدارة التركية في السودان (1821-1881) من بعض فروع الكبابيش أن لا يهبطوا مع بقية الكبابيش إلى النهر في موسم الصيف ليبقوا بجهات الصافية ونواحيها بشمال كردفان لردع أعراب دارفور، وبني جرار، خاصة الذين كانوا يقطعون طرق القوافل بين كردفان ودارفور. وواضح أنه لم يكن خافٍ على تلك الإدارة قوة إغراء هذا العرض على الكبابيش. فبين الكبابيش وبني جرار عداء مستحكم انتهي بتجريد بني جرار من دارهم بشمال كردفان، واحتلال الكبابيش لها ولياذ بني جرار بدارفور. والأكثر إغراءً في هذ العرض هو إباحة الإدارة التركية لفروع الكبابيش المأمورة بمطاردة بني جرار الغنائم التي تجنيها من قتالها لبني جرار وقبائل دارفور.
ووظفت دولة المهدية (1881-1898) خصومات الكبابيش في حملتها لإخضاع الكبابيش وكسر ثورتهم. فقد استخدم الخليفة عبد الله زعماء وقوى من قبائل حمر ودار حامد والكواهلة وبني جرار، وهي القبائل ذات الثارات على الكبابيش، في طور أو آخر من أطوار حربه وملاحقته للشيخ صالح فضل الله، زعيم الكبابيش المعارض، حتى قضى عليه وعلى ثورته.
وتحالفت الحكومة الإنجليزية مع الكبابيش خلال العقدين الأولين من هذا القرن، حين تطابقت استراتيجية الحكومة في حصر وضبط السلطان علي دينار، سلطان دارفور، مع استراتيجية الكبابيش للتوسع غرباً حتى مطالع حدود دارفور الشرقية. ولأن الكبابيش كثيرًا ما يخاطرون في نواحي دارفور المعادية، أصبحوا في نظر الحكومة حراس الأحراش الغربية، والمصدر الرئيسي للمعلومات الرسمية لما يجري هناك. فحين يغزو الكبابيش قبائل دارفور فمن الممكن تسويغ ذلك على أنه انتقال لما يكون قد وقع عليهم من تلك القبائل. ولم تشجع الحكومة السودانية غزوات الكبابيش في العلن ولكنها متواطئة في تفهم دوافعها ونفعها له على أية حال. ولذا لم تجد الحكومة السودانية نفسها بحاجة إلى اتخاذ خطوات حاسمة لزجر الكبابيش وهو زجر كان سيصعب على الحكومة ومؤكد أنه قليل الأثر.
وحين قررت حكومة السودان إزاحة السلطان علي دينار عن حكم دارفور وضم دارفور للسودان كان للكبابيش موقع في خطة الإبعاد والضم. وقد زودت الحكومة فرسان الكبابيش بالسلاح والعتاد. ومع أن دور الكبابيش لم يكن كبيرًا في الحملة إلا أن فرسانهم فتحوا دارفور منن الشمال بينما دخلت قوات حكومة السودان من الوسط.
ومن المهم التذكير أن استخدام الدولة للمؤسسة القبلية العسكرية في حربها للحركة القومية الجنوبية تكتيك حكومي قديم. فقد عبأت حكومة الفريق عبود (1958-1964) قبائل المورلي في الجزء الجنوبي الشرقي من السودان لقطع الطريق أمام وصول قوات الأنانيا الأولى إلى مناطق القبائل النيلية من مركز قوتها في شرق الاستوائية.
ibrahima@missouri.edu