مذكرات المفكر الفرنسي جان جينيه عن المقاومة الفلسطينية
تاريخ النشر: 15th, April 2024 GMT
«أحسست أنني لأول مرة في حياتي أصير فلسطينيا وأكره إسرائيل» كَتَبَ المفكر والشاعر الفرنسي جان جينيه في مقاله: «أربع ساعات في شاتيلا» الذي نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية باللغة الفرنسية ثم ترجمه الكاتب المغربي محمد برادة إلى اللغة العربية ونُشِرَ في مجلة الكرمل سنة 1983م، ثم أُعِيدَ نشره مرة أخرى بواسطة منشورات مكتبة الأعمدة سنة 2016م، ولعل عبارة جان جينيه هذه التي تعبر عن شعوره بالانتماء للهوية الفلسطينية وبغضه الرافض جملة وتفصيلا لكيان الاحتلال تمثل هاجس الكثيرين من الكتاب والمؤثرين والمتابعين اليوم في مختلف دول العالم الذين صُعِقُوا من جرائم الإبادة والتطهير العرقي والفصل العنصري التي يرتكبها كيان الاحتلال في غزة وأصابتهم الدهشة والذهول من صبر الفلسطينيين وثباتهم.
لم يكتب جان جينيه من محض خياله بل من شهادة واقعية تمثل وثيقة تاريخية نادرة وشاهدة على جرائم الاحتلال الإسرائيلي، لقد وقف هناك على الأرض كشاهد على مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا مباشرة بعد حدوثها بتاريخ 16 سبتمبر 1982م، التي امتدت لثلاثة أيام متواصلة، اختلط جينيه مع حركات المقاومة الفلسطينية وعايش يومياتهم وهمومهم وتغنى بالمقاومة الفلسطينية وأخلاقياتها وأدبياتها وشاهد جيش الاحتلال الإسرائيلي يدخل بيروت ويغدر بالاتفاق المبرم مع المقاومين وهي العادة الصهيونية التي كانت ولا تزال وستستمر ما بقي الاحتلال يفرض سطوته ووحشيته ويمارس توسعه الاستيطاني وانتهاكاته الإنسانية.
«أربع ساعات في شاتيلا» أمضاها جان جينيه بصحبة المفكرة الفلسطينية ليلى شهيد في سبتمبر 1982م، تفقد من خلالها جثث الموتى المتناثرة على الممرات والأرصفة أو العالقة في البيوت العتيقة بوحشية بالغة، حدثت هذه المجزرة برعاية وتحريض إسرائيلي صهيوني كما وثقت شهادة جان جينيه بصحبة المفكرة الفلسطينية ليلى شهيد ملابسات تلك الأحداث المأساوية، في حوار أجراه الصحفي الفرنسي جيروم هانكنس ونشرته مجلة الدراسات الفلسطينية سنة 2017م تقول ليلى شهيد: «اكتشفنا حجم المجزرة ومداها وأدركنا أنها دامت ثلاثة أيام تحت مراقبة الجيش الإسرائيلي الذي كان يطلق قنابل مضيئة طوال الليل، كانت الأسلحة المستعملة في أغلب الأوقات تتشكل من الخناجر والسواطير ولهذا لم يلحظ أحد أي شيء»، ولعلنا نتساءل إن كان أحد سيلحظ أي شيء من هذه المجزرة في المخيم الفلسطيني لو لم يكتب جان جينيه مقاله «أربع ساعات في شاتيلا» فالسياق الزمني لهذه المأساة كان بعيدا عن وسائل الإعلام وحضور العدسات ولربما كانت السرديات الصهيونية ستنجح في إخفاء الكثير من الحقائق التي رافقت أحداث هذه المجزرة أو ستغلفها بأكاذيب إعلامية واهية.
يلخص جان جينيه في مذكراته - التي حملت عنوان «أسير عاشق» والصادرة سنة 1997م عن دار شرقيات بترجمة كاظم جهاد - مأساة الفلسطيني في أرضه المحتلة وفي شتاته عن وطنه بحكايات كثيرة اندمج فيها مع حياة المقاومين الفلسطينيين فدخل بيوتهم وتنسم رائحة حاراتهم وتعايش مع حياتهم الخاصة، ولعل ما لفتني في هذه المذكرات تصويره للروح الفلسطينية في إصرارها على المقاومة حتى لو كان إدراك الموت أو الشهادة حتميًا ومصيرًا لا مفر منه في أدبيات المقاومة الفلسطينية، يقول «ما كانت النساء في أثناء الكلام عازفات عن كل عمل، كانت كل واحدة تنشغل بواحد أو اثنين من صغارها.. حتى يكبر الطفل يصبح بطلًا ويموت في العشرين لا على الأرض المقدسة وإنما من أجلها، هذا ما قلنه لي».
لقد أصر جينيه على كتابة كلمة الفدائيين «fedayeen» باللغة العربية - الكلمة الشائعة في ذلك الوقت والتي حلت محلها كلمة «المقاومين» في أيامنا هذه - في مقاله المكتوب باللغة الفرنسية، تمامًا كإصراره على زيارة بيروت إبان الحرب الإسرائيلية الوحشية عليها، ولعل ذلك إيمانا منه بجمالية المقاومة وهو الشاعر الذي احتفى في نصوصه بالهالة المضيئة التي تحيط بالمقاوم عن أرضه وحريته أينما حل، يقول في مقاله أربع ساعات في شاتيلا: «الحب والموت، هاتان الكلمتان سرعان ما تُقْرَنُ الواحدة منهما بالأخرى كلما كُتِبَتْ إحداهما، كان عليَّ أن أذهب إلى شاتيلا لأدرك فحش الحب وفحش الموت، في الحالتين ليس لدى الجسد شيء أكثر ليخبئه، الأوضاع، التعرجات، الإيماءات، العلامات، حتى الصمت، يخص هذا العالم وذاك».
في كتاب «جان جينيه والفلسطينيون» الصادر سنة 2020م عن دار ضمة للنشر والتوزيع في القاهرة، نشر الروائي التونسي حسونة المصباحي عدة مقالات ورسائل لجان جينيه وهي تعمق من فهمنا لهذا الكاتب الذي كرس أعماله الكتابية في الحياة مع المناضلين والمظلومين والتأريخ لهم في كتابة شعرية يائسة أحيانًا ونابضة بالحياة في أحيان أخرى، أعجب جينيه بجماليات المقاومة وكأنها لوحة فنية سحرته في حياته وكتاباته ويمكن أن نقتبس من هذا الكتاب قوله: «الفدائيون كانت لهم وسامة نضرة بسيطة مهداة إلى الفطنة، وتحركاتهم بسيطة ونابهة وممهدة للفعل.. أما اللغة فهي مختزلة عاكسة لرغبة في عدم مواصلة تقليد قديم، وطامحة إلى دفن صورة يرغب كثيرون بأن تظل قائمة».
تتكرر التغريبة الفلسطينية ما دام الاحتلال جاثما بآلته الثقيلة والمميتة على أرض فلسطين، فالموت حتمي والنضال مصير أبدي نحو التحرر من الاحتلال، آمَنَ جينيه بالشعب الفلسطيني وأحب مقاوميهم وتنسم هواء الحرية في تلك البقاع المحتلة، وعَلِمَ أن الطريق طويلة للشعوب التي ترغب في الخلاص من الانتهاكات التي يمارسها عليها المستعمر المتوحش، ولذلك اِخْتَتَمَ مقاله «أربع ساعات في شاتيلا» بعبارة لا نملك إلا أن نختتم بها هنا هذا المقال فهي تمثل السردية الفلسطينية التي تفرض حكايتها اليوم على العالم، «في مطار دمشق في طريق عودتي من بيروت التقيت ببعض الفدائيين الشباب الذين فروا من الجحيم الإسرائيلي، كانوا في السادسة عشرة أو السابعة عشرة، كانوا يضحكون، مثل أولئك الذين كانوا في عجلون [بالأردن]، هم أيضا سوف يموتون مثلهم، النضال من أجل الوطن يمكن أن يملأ حياة ثرية ولكنها قصيرة، هذا هو الخيار الذي اختاره أخيل في ملحمة الإلياذة».
عزان المعولي كاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المقاومة الفلسطینیة
إقرأ أيضاً:
كل مقاتل فلسطيني هو سنوار جديد.. اعتراف إسرائيلي بالفشل
لطالما حاولت “إسرائيل” قمع المقاومة الفلسطينية، إلا أن الواقع يثبت يومًا بعد يوم فشلها الذريع في القضاء على إرادة الشعب الفلسطيني في التحرر.
في اعتراف نادر، قالت قناة تلفزيونية إسرائيلية: “كل مقاتل فلسطيني هو سنوار جديد”، هذه الجملة ليست مجرد تصريح إعلامي، بل تعكس حقيقةً مفادها بأن المقاومة متجذرة في وجدان الفلسطينيين، وأن الاحتلال الإسرائيلي عاجز عن وقف المد الثوري المتواصل عبر الأجيال، وفي هذا السياق، تتجلى أهمية الدور الذي تلعبه المقاومة في تشكيل مستقبل الصراع، وخاصة مع محاولات “إسرائيل” المستمرة للقضاء على قياداتها.
“إسرائيل” في مأزق… اعتراف بالهزيمة أمام المقاومة
لم يكن الاعتراف الإسرائيلي بأن “كل مقاتل فلسطيني هو سنوار جديد” وليد الصدفة، بل جاء كنتيجة حتمية لفشل “إسرائيل” في كسر شوكة المقاومة، فتقارير الإعلام العبري تُظهر حجم القلق الإسرائيلي من الأسرى الفلسطينيين المحررين، حيث تعترف بأن الكثير منهم يعودون إلى العمل المقاوم فور إطلاق سراحهم، وتشير البيانات إلى أن 82% من الأسرى المحررين يستأنفون نشاطهم المقاوم، ما يعكس عمق الانتماء الوطني لديهم وإصرارهم على مواصلة الكفاح حتى تحرير أرضهم.
“إسرائيل”، التي تراهن دائمًا على ضرب البنية التحتية للمقاومة، تجد نفسها اليوم أمام حقيقة لا يمكن إنكارها كل محاولة للقضاء على رموز المقاومة تقابلها ولادة جيل جديد أكثر صلابة وأكثر استعدادًا لمواجهة الاحتلال.
السنوار رمز يتكرر… المقاومة كحالة مستمرة
إذا أصبح كل فلسطيني سنوارًا، فهذا ليس مفاجئًا، بل هو نتيجة طبيعية لواقع الاحتلال والمقاومة، الشعب الفلسطيني الذي حُرم من حقوقه لأكثر من 70 عامًا، استطاع أن يحافظ على جذوة النضال مشتعلة في قلوب أبنائه، جيلًا بعد جيل، وإن استمرارية المقاومة ليست خيارًا بل ضرورة، فرضها الاحتلال نفسه بسياساته القمعية والتمييزية.
المقاومة ليست مجرد أفراد، بل هي حالة متجددة، ينمو معها القادة ويتطورون ليقفوا في وجه الاحتلال، في كل مرة تغتال “إسرائيل” قائدًا، يولد مكانه العشرات ممن يحملون ذات الفكر والعزيمة، هذه الحقيقة تضع “إسرائيل” في مأزق استراتيجي عميق، حيث إن رهانها على القوة العسكرية وحدها لم ينجح في إخماد روح النضال لدى الفلسطينيين.
اغتيالات بلا جدوى.. الاحتلال يفشل في كسر إرادة الشعب الفلسطيني
خلال السنوات الماضية، نفذت “إسرائيل” العديد من عمليات الاغتيال ضد قادة المقاومة، لكن ذلك لم يؤدِ إلى إنهاء المشروع المقاوم، على العكس، زادت هذه العمليات من إصرار الفلسطينيين على النضال، حيث يعتبرون أن دماء القادة هي وقود جديد للحركة الوطنية.
تجربة علي قاضي، القائد العسكري في كتائب القسام، مثال واضح على ذلك، فبعد إطلاق سراحه ضمن صفقة شاليط، عاد ليقود عمليات نوعية ضد الاحتلال، ما دفع “إسرائيل” إلى تصفيته بعد اندلاع الحرب الأخيرة، ومع ذلك، فإن استشهاده لم يوقف مسيرة المقاومة، بل منحها زخمًا جديدًا.
المقاومة الفلسطينية… إرادة لا تُقهَر
المقاومة الفلسطينية ليست مجرد رد فعل على الاحتلال، بل هي تعبير عن إرادة شعبية راسخة ترفض الخضوع للظلم والاستبداد، فالشعب الفلسطيني، الذي عانى لعقود من التهجير والقتل والتدمير، أثبت أن روح النضال لا يمكن إخمادها بسهولة، الاعتراف الإسرائيلي بأن “كل مقاتل فلسطيني هو سنوار جديد” ليس مجرد كلمات، بل هو إقرار بحقيقة أن المقاومة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية.
فكل جيل فلسطيني يولد في ظل الاحتلال يجد نفسه مضطرًا لمواصلة المسيرة النضالية، ليس فقط من أجل تحرير الأرض، بل أيضًا من أجل الحفاظ على الكرامة والإنسانية، هذه الإرادة المتجددة تجعل من المقاومة حالة مستمرة، حيث يظهر قادة جدد في كل مرة يتم فيها اغتيال قائد سابق، وهذا ما يجعل “إسرائيل” في مأزق استراتيجي، حيث إن قوتها العسكرية الهائلة لا تستطيع كسر إرادة شعب يؤمن بحقه في الحرية.
إن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد عمليات عسكرية، بل هي أيضًا مقاومة ثقافية واجتماعية، فالشعب الفلسطيني يحافظ على هويته من خلال التعليم والفنون والتراث، ما يجعل من المقاومة نهرًا جاريًا لا يمكن إيقافه، وإن انتصار المقاومة ليس مسألة وقت فحسب، بل هو مسألة إرادة وإيمان بعدالة القضية.
“إسرائيل” والمأزق الأخلاقي.. فشل سياسة القوة
“إسرائيل”، التي تعتمد بشكل أساسي على القوة العسكرية لفرض هيمنتها، تواجه اليوم مأزقًا أخلاقيًا واستراتيجيًا، فعلى الرغم من امتلاكها لقوة عسكرية وتكنولوجية، إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها المتمثلة في كسر إرادة الشعب الفلسطيني، فالاعتراف الإسرائيلي بأن “كل مقاتل فلسطيني هو سنوار جديد” يعكس هذا الفشل الذريع، حيث إن سياسة الاغتيالات والقمع لم تؤدِ إلا إلى تعزيز روح المقاومة.
فبدلًا من أن تضعف المقاومة الفلسطينية بفعل العمليات العسكرية الإسرائيلية، نجد أنها تزداد قوة وصلابة، كل قائد يتم اغتياله يتحول إلى رمز يُلهب حماس المقاتلين الجدد، وكل عملية قمع تزيد من إصرار الشعب الفلسطيني على مواصلة النضال، هذا الواقع يجعل “إسرائيل” في موقف صعب، حيث إن الاعتماد على القوة العسكرية وحدها لم يعد كافيًا لتحقيق الأمن والاستقرار.
“إسرائيل” بحاجة إلى إعادة تقييم سياستها، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل أيضًا من الناحية الأخلاقية، فاستمرار سياسة القمع والتمييز لن يؤدي إلا إلى مزيد من الكراهية والعنف، وفي النهاية، فإن الحل الوحيد يكمن في الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني والعمل على تحقيق سلام عادل وشامل
المقاومة نهر جارٍ في قلب التاريخ
ما يحدث اليوم ليس مجرد صراع مسلح، بل هو امتداد لحركة تحرر وطني تأبى أن تخمد، الشعب الفلسطيني أثبت، رغم كل التحديات، أنه قادر على تجاوز محاولات الإبادة السياسية والثقافية، وأن المقاومة ليست خيارًا فرديًا، بل هوية جمعية متوارثة، وإذا كان الاحتلال يراهن على أن الزمن سيطفئ جذوة المقاومة، فإنه يرتكب خطأً استراتيجيًا، لأن كل محاولة للقمع تقابلها ولادة جديدة للنضال.
إن السنوار ليس فردًا، بل فكرة، والأفكار لا تموت… الاحتلال الإسرائيلي قد ينجح في تصفية القادة، لكنه لن يستطيع إيقاف التاريخ أو وقف نهر المقاومة المتدفق الذي سيظل جاريًا حتى تحقيق الحرية الكاملة.