???? حسبو محمد عبدالرحمن؛ قصة الصعود للقمة والهبوط للقاع
تاريخ النشر: 15th, April 2024 GMT
□ تخرج في الجامعات المصرية درس الجغرافيا وعين ضابطا إداريا في عام 1990 فيما عرف وقتها بالضباط الرساليين نظرا لانتمائه للحركة الإسلامية منذ دراسته الثانوية بنيالا.
□ وفي مصر كان من بين قادة رابطة الطلاب السودانيين بالجامعات والمعاهد المصرية، من أبناء جيله الراحل د. ابراهيم هباني والصحفي عثمان ميرغني ومولانا أحمد محمد هارون.
□ لم يعمل طويلا في سلك الضباط الإداريين، حيث صعد برافعة الحزب والتنظيم إلى منصب مفوض العون الإنساني بجنوب دارفور، وانتظم مبكرا في أمانة المعلومات بالحركة الإسلامية التي أصبحت فيما بعد بالأمن الشعبي.
□ وحينما بدأ الصراع صامتا بين أهل النظر وأهل الفعل، وهو صراع له جذور عميقة في تربة الدولة الإسلامية منذ ماقبل سقوط الخلافة الإسلامية وبروز الدولة الأموية بوجهها العربي، ويعتبر في ذلك الزمان سيدنا معاوية ابن أبي سفيان أبرز تجليات هذا الصراع بانتصار أهل الفعل على أهل النظر.
□ وفي الحركة الاسلامية صعد التيار العملي الواقعي على تيار أهل الفكر والنظر، فانتحي أمثال حسن مكي، والتجاني عبدالقادر، والمحبوب، وأحمد عثمان مكي، جانبا وصعد على كرتي وأسامة عبدالله وحسبو محمد عبدالرحمن الذي صار مفوضا للعون الإنساني، ثم انتخب عن دائرة بحر العرب نائبا في المجلس الوطني، وهي الدائرة التي كان في قديم الزمان بمثابة منطقة مغلقة لأول نقيب للمحامين السودانيين من الرزيقات عقيل أحمد عقيل.
□ وكان يتوقع حسبو مجرد دخوله البرلمان أن تسند إليه رئاسة لجنة، شيئا منذ لم يتحدث وظل مجرد نائبا برلمانيا، أقرب في روحه ومواقفه الناقدة للأداء التنفيذي للمعارضة.
□ وفي ذلك الوقت كانت قضية دارفور قد تفاعلت آثارها داخل حكومة البشير، الذي استبدل موسى هلال زعيم قبيلة الرزيقات المحاميد برزيقات من الماهرية، هم محمد حمدان دقلو وشقيقه عبدالرحيم.
□ وغير بعيد منهم عمهم وابن خالتهم حسبو محمد عبدالرحمن، الذي صعد بصورة مفاجئة لاعتبارات قبيلة محضة لمنصب نائب رئيس الدولة خلفا للدكتور الحاج آدم يوسف.
□ وتخطي حسبو من أبناء دار السابقين له في الكسب داخل الحركة الإسلامية على الحاج، والشيخ التجاني سراج، والمهندس صالح عبدالله، ويوسف لبس، وعلى محمود، وداخل الرزيقات صافي النور، والعديد من نجوم دارفور.
□ ولكن الرافعة القبلية فعلت فعلتها ورعاية حسبو لقوات الدعم السريع وضعته في مركز قوة داخل النظام الحاكم.
□ ومع التمدد التنفيذي والصعود السياسي في المؤتمر الوطني قفز حسبو إلى منصب أحد نواب الحركة الإسلامية التي انتقلت من الشيخ علي عثمان إلى الزبير أحمد الحسن وكان نوابه على كرتي وحسبو محمد عبدالرحمن الذي أضفى بحركته الدؤوبة وحماسه على القصر الرئاسي ألقاً.
□ وشكل حسبو حضورا دائم في مسارح الولايات، وخاصة دارفور.
□ حتى ضاق البشير به وبصورة مفاجئة أصدر قرار إعفائه وتعيين احد قيادات دارفور المحسوبة على القبائل غير العربية عثمان محمد يوسف كبر.
□ وجلس حسبو في الظل حتى سقطت الإنقاذ، ومن المفارقات أن اعتقال حسبو وايداعه السجن تم بيد أبناء اخته عبدالرحيم دقلو وكان من أواخر القيادات التي رحلت لسجن كوبر.
□ ولكنه ظل في كوبر مجرد نزيل، لم تفتح له أية ملفات بما فيها ملف الشئون الإنسانية الذي ثار حوله لغط كثيف قبل سقوط الإنقاذ.
□ داخل السجن عاش حياته مثل غيره من سجناء الضمير، ولسان حاله وحال رفاقه يردد:
إن طال في السجن ايداعي
فلا عجبا قد يودع حد الصارم الجفن
□ مكث بضع شهور وأطلق سراحه، وبقي رفاقه يعانون وحشة السجن وقسوة السجان. □ وفي بيته بضاحية اركويت عادت للرجل حراسة مشددة وكاونتينه من أمام بيته يقيم فيها خمسة من الجنود الغلاظ الشداد لا من الشرطة ولا جهاز الأمن، ولكنهم من قوات الدعم السريع التي أضحت ذات نفوذ وقوة وبطش داخل الدولة.
□ ذهبنا إليه مع الصديق عبدالماجد عبدالحميد بعد أن اتفقنا على الموعد بعد صلاة الظهر في ذلك اليوم الشتوي البارد.
□ وعندما أوقفت السيارة أمام البيت الذي أعرفه وتعرفني حوائطه، ولنا في ذكريات مع صديق آخر، قذفت الأقدار من قطر إلى قطر آخر حاله ليس كحال الناصر قريب الله الذي قذفت الايام الي من بيد إلى بيد.
□ انتهرني العسكري الذي يحرس بيت حسبو بفظاظة عهدناها منهم طوال خدماتنا في بلاط الصحافة.
□ طلب العسكري إيقاف العربة بعيدا عن باب المنزل، وأمرنا بالوقوف إلى حين مراجعة أسمائنا مع الضابط.
□ ثم سمح لنا بالدخول؛ يقابلنا حسبو ببشاشة وهو يرتدي جلباب ناصع البياض وعمه ومركوب من جلد النمر وعلى يده عصاة، كأنه خارجا لاجتماع للمكتب القيادي للحزب الذي صار محلولا على الأقل من الناحية العملية.
□ لمدة ثلاثة ساعات ظل حسبو يتحدث إلينا وعبدالماجد ينظر حينا إلى أناقة الرجل، يمد يده لعلبة حلاوة الماكنتوش التي حرمت منها بداء السكري اللعين.
□ قدم الرجل مرافعة طويلة عن قوات الدعم السريع وموقفها من قيادات الإسلاميين، والدور الذي لعبه عبدالرحيم دقلو تحديدا في حماية رموز الموتمر الشعبي من أن تفتك بهم الجماهير فيما عرف بحادث قرطبة.
□ ودافع حسبو عن حميدتي الذي جرى ترتيب من طرفه لجمعه في لقاء خاص بعلي كرتي، والذي انتهى إلي لا شيء.
□ واجتماع آخر بغندور.
□ ولكن في كل لقاء واتفاق ينكص قادة المؤتمر الوطني بعهدهم مع الدعم السريع.
□ ونحن لانملك الدفاع عنهم لأن كثير من المعلومات التي تحدث بها حسبو طوال الساعات الثلاثة كانت من المعلومات السرية، بعضها لايحق لنا نشرها الان ولا نفيها ولا الجزم بصدقها.
□ وكلما سأل عبدالماجد حسبو عن موقف للحركة الإسلامية قطب الرجل وجهه، وبعد أن تذوقنا وجبة غداء أعدتها الأخت الفاضلة زينب أحمد الطيب، ودعنا الرجل وكأنه الوداع الأخير.
□ ولأن أسرار مثل هذه اللقاءات تظل طي الكتمان، لم نشأ هنا تقديم شيئا عن ماقاله الرجل عن مواقف الدعم السريع.
□ غادرنا البيت العامر بالحركة الدؤوبة، وأغلب من وجدنا هناك من عشيرته الرزيقات.
□ وكانت ظلال الحرب لم تخيم بعد على البلاد.
□ ومع تصاعد العمليات العسكرية، وخروج معظم المواطنين من حي اركويت بقى حسبو محاطا ( بحاميتي) من قوات الدعم السريع، وتناسلت الكلمات عن الرجل ومواقفه وشانه كمعظم قادة القبائل العطوية الثلاثة، أي الرزيقات والمسيرية والحوازمة، لم يصدر منه ولا منهم إدانة للحرب والقتل والسحل والنهب، الذي لم يمتد بطبيعة الحال لدار حسبو.
□ حتى أطل الرجل إطلاله شهيرة، وهو يقوم بمراسم زواج لأحد عناصر الجنجويد في بيت رجل أعمال احتله الجنجويد ( البرجوب) وهو صديق لحسبو ولكن افترقت الدروب.
□ وإذا كان حسبو نائب الأمين العام للحركة الإسلامية، قد اتخذ موقفا منذ خروجه من السجن، ولم يعد مشاركا في اجتماعات الحركة الإسلامية، ولا المؤتمر الوطني، فإن الحركة والحزب حتي اللحظة لم يصدر منهم تعليقا على مواقف حسبو الجديدة بعد خروجه من السجن.
□ بل جاء في الأنباء أن الرجل قصير القامة حاد النظر تم نقله من الخرطوم إلى نيالا تحت حماية الدعم السريع.
□ ليعود لنيالا البحير غرب الجيل ولكن لو امعن النظر في طرقات المدينة التي كانت والأسواق التي نهبت، والأحياء التي حطمت والسكان الذين هجرتهم الحرب ولفظت بهم إلى ماوراء الحدود، لما مضى في ماهو مقبلا عليه.
□ فقد صارت المدينة الثانية من حيث عدد السكان في السودان بعد الخرطوم، حطاما تذره رياح الصيف ( ام كتكري ).
□ والأسبوع الماضي جاء في الاخبار أن حسبو تم نقله من نيالا الا الجنينه، وهو ضيفا مرحبا به من قبل أبناء عمومته من الجنجويد، الذين حرقوا الجنينه وحطموها كما حطم عرب الشتات مدينة القيروان التونسية في التاريخ القديم.
□ بعد كل هذا السرد نلج للأسئلة الصعبة، والإجابات الغائبة عن دور حسبو ومستقبله السياسي.
□ ونبدأ بالسؤال لقادة حزب المؤتمر الوطني وللحركة الإسلامية:
○ هل لايزال حسبو عضوا في المكتب القيادي للحزب ونائبا لأمين الحركة الاسلاميه؟
○ وإذا كانت الإجابة بنعم فإن السؤال الذي يخرج من ثنايا الإجابة هل بعد الدم والتضحيات التي قدمها الشباب دفاعا عن الأرض والتراب ودفعا للأذى عن الجيش هل للحزب والحركة رباط سري ووشائج مع الجنجويد؟
○ ثم السؤال هل الحزب صار بلا أسوار تدخله وقت شئت وتخرج وقت شئت؟
□ وداخل قيادة المليشيا عشرات بل مئات من منسوبي الحركة الإسلامية والحزب لم يسمع الشعب السوداني كلمة واحدة عن هؤلاء القتلة!
○ هل تم فصل وطرد خدام معتمد ام دخن، والباشا طبيق عضو المجلس التشريعي، وقرشي ورئيس الاتحاد الوطني للشباب السوداني ود أحمد، والوزير على محمد موسى، وكثير من قيادات الظل ممن ينشطون الان في صفوف المليشيا؟
○ وهل عدم المساءلة وتجاهل هؤلاء ممارسة رشيدة؟
○ أم الردع التنظيمي غائبا ومن قبل تم فصل مكي بلايل وأمين بناني لمجرد إبداء الرأي حول قضية خلافية.
□ فكيف إذا كان الحال يتصل برجل مثل حسبو محمد عبدالرحمن؟
□ السؤال لقادة الدعم السريع وحليفهم السياسي ( تقدم ):
○ هل وجود حسبو الحالي مبررا لديهم؟
○ واين ذهبت شعارات محاربة الكيزان، إذا كان كبير الكيزان اليوم أصبح هو الأب الروحي وزعيم الظل؟
□ وأخيرا هل وضع حسبو بيضه في سلة الدعم السريع، وينتظر دورا في مقبل الايام ؟
□ خاصة وأن قيادة الدعم السريع تعوزها البصيرة السياسية؟
□ وهل تقديم حسبو خطوة بعد الأخرى هي مقدمة للتخلي عن التيار اليساري العلماني الذي يمثله يوسف عزت؟
□ أم روابط الدم والعشيرة أقوى من أية روابط أخرى!
كتب: يوسف عبد المنان
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الحرکة الإسلامیة المؤتمر الوطنی الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
أسير يروي للجزيرة نت قصة هروبه من أهوال سجون الدعم السريع
الخرطوم- كشفت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الخميس الماضي عن قيام قوات الدعم السريع بسجن أكثر من 10 آلاف شخص في مراكز احتجاز داخل ولاية الخرطوم، توزعوا في نحو 40 مرفقا، و توفي منهم المئات بسبب التعذيب والمرض.
وغطى تقرير المفوضية الفترة ما بين بداية الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023 إلى يونيو/حزيران 2024، كاشفا عن تجاوزات لحقوق الإنسان وانتهاكات للقانون الإنساني الدولي في مرافق الاحتجاز هذه.
وفي ذات السياق كشفت تقارير صحفية نشرتها صحيفة "غارديان" أول أمس عن أدلة على تعرض أكثر من 500 شخص للتعذيب أو الجوع حتى الموت في مركز احتجاز، ثم دفنوا في مقبرة جماعية سرية شمالي الخرطوم بالقرب من قاعدة قري العسكرية، التي كانت تسيطر عليها قوات الدعم السريع حتى تاريخ 25 يناير/كانون الثاني الماضي.
وكشفت زيارة إلى القاعدة الواقعة على بعد حوالي 40 ميلًا (70 كلم)، بعد فترة وجيزة من استعادتها من قبل الجيش السوداني، عن وجود مركز احتجاز غير معروف سابقًا، مع وجود أغلال معلقة على الأبواب، تشير إلى أنها كانت غرف تعذيب من خلال بقع الدم على الأرض.
أكبر الجرائميروي أشخاص معتقلون تعرضوا للتعذيب في مركز الاحتجاز بشكل متكرر من قبل خاطفيهم، أنه يوجد في مكان قريب من المركز موقع دفن كبير فيه العديد من جثث أشخاص ماتوا خلال التعذيب، وبه ما لا يقل عن 550 قبرا غير محدد، وكثير منها محفور حديثًا، ووجد الأطباء الذين فحصوا الناجين علامات لا تعد ولا تحصى على التعذيب، وخلصوا إلى أنهم كانوا يتضورون جوعا.
إعلانويعد الموقع أكبر أرض دفن مؤقت موجودة في السودان خلال الحرب الحالية، حيث قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" التي حققت في انتهاكات في جميع أنحاء السودان خلال الحرب، إن موقع مركز الاحتجاز هذا يمكن أن يشكل "واحدة من أكبر مشاهد الجرائم الوحشية التي تم اكتشافها في السودان منذ بدء الحرب"، ودعت للسماح لمحققي جرائم في الأمم المتحدة بالوصول للموقع.
وقال الدكتور هشام الشيخ، الذي فحص 135 رجلا تم العثور عليهم هناك، بعد أن استعادت القوات المسلحة السودانية الموقع في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، إن الأدلة السريرية على التعذيب وسوء التغذية المزمن كانت كثيرة، وقال الشيخ لصحيفة "الغارديان" إن الرجال -وجميعهم من المدنيين- كانوا مصابين بصدمة كبيرة ولا يستطيع كثيرون منهم الكلام.
وتكشف صورة تم التقاطها عبر الأقمار الاصطناعية لطريق أحادي المسار بجانب القاعدة، بعد أسابيع من بدء الحرب، غياب أي مظهر من مظاهر الدفن، بينما تكشف صورة أخرى لنفس الموقع تم التقاطها بعد عام في 25 مايو/أيار 2024 عن عدد كبير من التلال التي تمتد على مسافة حوالي 200 متر.
وقال الرقيب محمد أمين الذي يتمركز الآن في قري إن "جميع الجثث المدفونة هناك لقى أصحابها حتفهم في القاعدة"، وقال ضابط في الجيش السوداني إن المعتقلين الذين عثروا عليهم "كانت أيديهم وأقدامهم مربوطة معًا، وكانوا في حالة سيئة للغاية مع علامات تعذيب على أجسادهم".
وقال جان بابتيست جالوبين، من "هيومن راتيس ووتش" إن "السلطات السودانية التي تسيطر على القاعدة الآن قد تعاملت معها كموقع محتمل لجريمة حرب، وبذلت جهودًا فورية لتأمين وجمع وحماية الأدلة، التي قد تكون حاسمة في عملية المساءلة"، ووصف ذلك بـ"الأمر الحيوي".
على لسان أسيرالتقت الجزيرة نت بأحد الأسرى الناجين من سجون قوات الدعم السريع، وأفسحت له المجال ليروي قصته وشهادته، مع طلبه عدم الإشارة إلى اسمه كاملا، لأنه لم يأخذ الإذن من وحدته العسكرية.
إعلانيسرد ضابط الصف عثمان ما جرى معه خلال هذه الأيام، ويقول إنه ومنذ اليوم الأول في الحرب، تواصلتُ مع وحدتي العسكرية عبر الهاتف وأخذت كل التكليفات، ثم بدأت تنفيذها من خلال ذات الهاتف في منزلنا الكبير بضاحية الأزهري جنوبي الخرطوم، على مدى نحو شهرين.
كنت قلقا على أسرتي الصغيرة زوجتي وصغيريها، ووالدي المسن وأمي التي تتحمل الأعباء، بدأت أخطط لترحيلهم بعيدا عن مواقع الجنجويد، خصوصا بعد أن زادت حدة الانتهاكات، وبدأت تتواتر الأنباء عن اقتحام البيوت الخالية وسرقة محتوياتها، ونهب السيارات بقوة السلاح، كنت أدرك بحكم خلفيتي العسكرية أن الدور قادم علينا.
لم أكن أتصور أنه في يوم من الأيام سيكون الطارق على الباب هو العدو نفسه، لم يمنحني فرصة المراوغة، قالوا لي: عثمان نحتاجك الآن في مكتب استخبارات الدعم السريع.
وصلت برفقة المجموعة التي أوصلتني إلى محطة الصهريج القريبة من مكان سكني، لم يكن مكتبا، بل بيتا تحت التشييد، الذين أخذوني لم يتحدثوا كثيرا، كأنما كانوا على عجلة من أمرهم، وتركوا للسياط مهمة الاستنطاق، ضرب مبرح في كل مكان، وعندما أجبتهم: نعم أنا عثمان أعمل بالقوات المسلحة، كان ذاك كافيا لكف الأذى لبعض الوقت، لكني بقيت في المكتب نحو 5 أيام.
ومن نقطة الاحتجاز الأولى، تم نقلي وأحد زملائي إلى سجننا الأول في مقر الدعم السريع في ضاحية الرياض، والذي يعرف أيضا بـ"العمارة الهيكلية"، تم حشرنا في غرفة صغيرة نحو 25 معتقلا، وفي ركن الزاوية تم وضع جردل لقضاء الحاجة، أضفنا ستارة لستر العورة، وحينما يمتلئ الإناء نغرق بالقاذورات، حتى يُسمح لنا في الصباح بتفريغ ما أفرزته البطون الخاوية ليلا.
كنا نُمنح وجبتين على سبيل الاصطلاح، لقيمات من دقيق الذرة يعرف في السودان بـ"العصيدة"، لكن بلا إدام، فقط يضاف للذرة المطبوخة بالماء الساخن سكر في الصباح وملح في الليل، أو وفق ما يتيسر.
إعلانحصة الفرد من الماء 6 أكواب في اليوم، أحيانا يقل الماء فنعلن حالة الطوارئ، نقتصد في ما عندنا ونقلل في حصتنا حتى لا يهلكنا العطش، هزلت أجسادنا، وبات القمل يسرح في الرؤوس ثم يمضي إلى أدني من ذلك.
رفاق الزنزانةيكمل عثمان حديثه للجزيرة نت، متحدثا عن أيامه في السجن ومن رافقه فيه، كالدكتور محمد مرعي وهو طبيب جراحة مدني، لكنه يعمل في أحد المشافي العسكرية، كان ذلك كافيًا ليزج به في السجن، ومات فيه بسبب الجوع وقهر الرجال.
علي جعفر، أميركي من أصول سودانية، تم اعتقاله وهو في طريقه لبورتسودان، لم تشفع له وثائق السفر الأجنبية، حيث اعتبر متعاونا مع الجيش، افترقنا لاحقا وأظنه قد مات، فقد تبادلنا داخل الحبس المعلومات الشخصية حتى يُطمئن الذي يخرج من السجن ذوي الآخر، لكن الاتصال بيني وبينه انقطع.
وائل محمد، شاب، كان أحدثنا عمرا، يحمل الجواز الأميركي والسوداني معا، فقد عقله داخل السجن، كان يتحدث بالإنجليزية فقط، وهو شخصية عسكرية مهمة، اتهم بأنه خطط لتفجير مقر رئاسة قوات الدعم السريع في اليوم الأول من الحرب، أخرجوه من السجن ولم نعرف وجهته.
بعد عدة أشهر من المعاناة، نُقلنا إلى سجن سوبا شرقي الخرطوم، كان الأمر بالنسبة لنا أفضل من سجننا الأول، هنا توجد عنابر ضخمة، أهم ما فيها حمام لقضاء الحاجة، الماء أوفر، ولكن الطعام قليل، حشرنا نحو 180 معتقلا في هذا العنبر.
في نهاية المطاف تبقى منا على قيد الحياة نحو 48 أسيرا، الموت هنا يحصد الناس حصدا، فعند إصابة أحدنا بالإسهال ننقله لمدخل الحمام ليصبح سكنه الدائم حتى يتوفى، ونقوم بهذا الإجراء مخافة العدوى وحتى نسهل للمريض قضاء الحاجة.
تم نقل بعض المرضى للوحدة الطبية بعد أن ساءت حالتهم، لكننا كنا نعتبر من يذهب للمشفى مفقودا وفي عداد الأموات، في كل أسبوع كنا نفقد نحو عشرة من رفاق السجن، من يتوفاه الله نحاول غسله إن توفر ماء، ونصلي عليه داخل العنبر، ثم نضعه في الممر الخارجي، يمكن أن يبقى في هذا الوضع حتى تفوح رائحته وبعدها ينقل إلى مقابر نجهل مكانها.
إعلان لحظة أملفي بداية شهر فبراير/شباط ظننا أننا سنموت جميعا في سجننا في ضاحية سوبا، فجأة سمعنا دوي الرصاص، خبراء السلاح أكدوا لنا أن هذه المعركة قريبة من سجننا، كانت أصوات الرصاص ترتفع، وبدأ الحراس بخلع ملابسهم العسكرية ثم هربوا.
سرت حالة من الفوضى داخل العنابر المغلقة بإحكام، بدأنا نتداول الحديث حول تقرير مصيرنا، اقترحت مجموعة كسر الأقفال والهروب، لكن الرأي في عنبرنا استقر على أن ننتظر الجيش، فهروبنا في مناخ الفوضى يمكن أن يجعل بعضا وقودا للمعارك.
وبعد أن كان صوت السلاح عاليا، انخفضت وتيرته قليلا، ثم اختفي شعاع الأمل، ليوضح لنا خبراء السجن أن ذلك يبدو انسحابا تكتيكيا للجيش، وغالبا سيعاود الكرة في اليوم الذي يليه، لكن ذلك لم يحدث.
عاد الهاربون أكثر غضبا، وبدؤوا في إعادة فرز المساجين، بعد أن كان التوزيع يتم على أساس قبلي، بتوجيه من بعض زعماء العشائر الذين جاؤوا إلى سجننا وفحصوا الأسرى، فأبناء الدرجة الأولى تم إطلاق سراحهم فورا، ثم خصص للآخرين عنابر كنا نسميها "عنبر أولاد القبائل" من باب الطرفة.
بعد اقتراب المعارك، أدركت بخبرتي المتواضعة أن التصنيف الجديد يعني نقلنا إلى سجن جديد، وربما نقلنا إلى مدينة أخرى، وهو ما حدث بالفعل، فاتفقت مع رفاق الغرفة على تغيير اسمي باسم شخص آخر توفي، كان يعمل بالشرطة وكنت أحتفظ باسمه كاملا ورقم هويته العسكرية.
ولأن المليشيا لا تهتم بتدوين دفاتر الوفيات، تمكنت من خداعهم، وبحكم اعتباري رجل شرطة قضي الأمر بتحويلي إلى سجن الاحتياط المركزي جنوبي الخرطوم مع مئات من السجناء، فيما نقل زملائي العسكريين إلى مدينة نيالا، حيث كانوا نحو 300 ضابط وضابط صف وجندي، وكان نقل الأسرى على عجل مؤشرا على أن قوات الدعم السريع أدركت أنها ستخسر كل المعارك في العاصمة الخرطوم.
محاولةهنا لن تستطيع التفكير في الهروب بصوت مسموع، سيمنعك رفاق الزنزانة من ذلك، فنجاح محاولة الهروب ستلقي بتبعات عالية على المتبقين داخل الحراسات، حيث يعقب أي عملية هروب "حفل تعذيب جماعي" وتضييق في الأكل والشرب والحركة.
إعلانفقبل فترة، تمكن نحو 7 ضباط من الهروب عبر فتحة في سور السجن، صنعَتها قذيفة من الجيش، واكتفى حراس السجن بوضع أغصان الأشجار وبعض الكتل الصلبة، لكن الضباط تجاوزوا الصعاب ونالوا حريتهم بينما تذوقنا نحن طعم التعذيب.
اتفقت مع ثلاثة من زملائي على الهرب، قلت لرفاقي "إنه الموت جوعا وعطشا أو أثناء محاولة الهروب"، ووضعنا خطة لأن نقفز من عربة النقل أثناء مرورها في منطقة سوبا ذات الطبيعة الترابية التي تجعل العربة تبطئ من سرعتها، لكن المفاجأة كانت أن تم تغيير وسيلة النقل إلى باصات محكمة الإغلاق، ففشلت الخطة الأولى لكننا لم نفقد الأمل بانتزاع حريتنا.
تم نقلنا في الأسبوع الثاني من شهر فبراير/شباط إلى سجن شرطة الاحتياط المركزي جنوبي الخرطوم، بالقرب من ضاحية الدخينات، لم يكن المبني في الأصل سجنا بل مقرا للتدريب، لهذا كانت هنالك الكثير من الثغرات.
تخطي الأسواركان لقائد فريقنا أنور -وهو أحد ضباط الصف في الجيش- معرفة جيدة بالسجن، وتم اختياره كـ"حكمدار" وهي وظيفة تنسيقية بين حراس السجن والأسرى، حيث تتيح هذه الوظيفة لشاغلها حرية الحركة.
وبعد أن تفقد سجننا الجديد، وضع أنور خطة جديدة للهروب، ورغم أننا أربعة لم نكن على اتفاق على تفاصيل الخطة، لكن إصرار قائد الفريق على التنفيذ جعلنا نوافق ونتعاهد على الموت.
قامت خطة أنور على عنصر المفاجأة في تمام الساعة الثامنة مساء، حيث يكون الظلام قد حل لكن الحركة مستمرة داخل المعسكر الذي بات سجنا، وكانت الخطوة الأولى أن يكسر أنور نافذة الغرفة الضخمة دون أن ينتبه النزلاء، لم تكن مهمة سهلة، لكنه نفذها بقليل من الضوضاء وكثير من الخبرة، فلم تثر عملية الكسر إلا انتباه من كان يترقب الحدث.
قفز أنور أدنى الشباك بشكل عمودي، وبات في وضع الانتظار، تخلص من ملابسه الخارجية ذات الألوان المناهضة للستر، ووضعها في كيس كان يحمله، وبذات الخطوات نفذ ثلاثتنا المهمة، ثم زحف قائد الفريق إلى السور الأول المغطى بشجر "المسكيت" ثم تجاوزه نحو الضفة الأخرى، وفي ذات الدرب سرنا خلفه.
إعلانكانت في الزاوية البعيدة خيمة حراسة يبدو أن أفرادها مشغولون بشأنهم، وكانت العقبة الكبرى أمامنا تجاوز السور الأعظم، في زاويته يوجد برج مراقبة عليه حارس مسلح، ورغم أن هذه العقبة جعلتنا نتوقف، فإن أنور قرر أن يستكشف ما بداخل البرج في ذلك الليل الدامس.
كلما اقترب من البرج لم يكن يرى أي حركة، وعندما وصله وجده خاليا، ارتقى السلم ثم استكشف الشارع، كان خاليا تماما أيضا، وعاد إلينا يحمل البشرى، فتناوبنا القفز على السور العالي، لقد كانت مهمة شاقة لرجال جياع وعطشى فقدوا نصف وزنهم خلال أيام الأسر.
أخيرا تنفسنا الصعداء، ارتدينا ملابسنا ثم دخلنا الحي الشعبي المجاور لمعسكر الاحتياط، قبل أن نصل إلى المنزل الذي من المفترض أن نقضي ليلتنا فيه، لكننا فوجئنا بمجموعة من عناصر الدعم السريع تقف على ناصية الشارع الذي في وجهنا.
فكرنا في تغيير وجهتنا، لكن ذلك كان سيثير شكوكهم، فاخترنا أن نمضي نحوهم بشكل مباشر، ونلعب دور مدنيين يعيشون في هذا الحي إن تم استجوابنا، أو نخوض غمار مواجهة وننزع بعض أسلحتهم، لكن عندما اقتربنا منهم ردوا على تحيتنا بغير اهتمام، وأحسب أنهم ظنوا أننا قوة من رجالهم الذين ينتشرون في الأمسيات بشكل عشوائي.
أخيرا.. وصلنا إلى بغيتنا، منزل شقيق أحد أفراد الفريق، وفيه نمنا ليلتنا الأولى ونحن أحرار، وفي الصباح تفرق شملنا بإحساس من هزم الموت أكثر من مرة، لكن لن تكتمل فرحتنا إلا بمعرفة مصير رفاقنا في سجون مليشيا الدعم السريع.