نشرت مجلة نزوى في عددها (112) قصائد مترجمة من الشعر الهندي المعاصر، ترجمها الشاعر والمترجم اليمني شوقي شفيق، وقد جاءت هذه القصائد متنوعة في اختياراتها ضمن موضوعات ومضامين مختلفة انتقاها المترجم بعناية لتقدّم لنا صورة عن الأدب الهندي.

افتتح المترجم تقديمه للقصائد بعبارة: «ما أقدّمه هنا هو ترجمة لنصوص من الشعر المعاصر في الهند، تمنحنا إمكانية التعرف إلى الشعر في هذه المنطقة الرحبة والكبيرة.

في هذه النصوص تمتزج الشعرية بفلسفة الشرق كما تمتزج بالتفاصيل اليومية المعاشة. ثمة في الهند لغات شتى منها البنجابية والبنجالية والتليجو والماراثي والمالايالم والأوردو، وهي اللغات التي كُتِبت بها هذه النصوص، وقد ترجمت هذه عن الإنجليزية التي نقل الشاعر آرون كمال هذه النصوص إليها».

ويمكن القول إن انتقاءات المترجم قد قدّمت لنا ملمحا عن الكتابة الشعرية في إقليم مهم ربما لم يطلع كثيرون على تجاربه الشعرية، فجاءت النصوص المختارة ترسم لوحات مضيئة عن واقع الحياة للإنسان في الهند، وواقع التفكير الممتزج بتجربة التداخل بين الشعري والواقعي، كونها محملة بتأثيرات البيئة التي يعيشها الإنسان في مجتمعه. لذا نقرأ في نصوص الشعراء هنا نماذج مختلفة مما اصطادته مخيلة كل شاعر منهم؛ فترسم قصيدة (ثلاث حالات) لشهناز عمراني صورة للطبيعة الممتزجة بالريح والمطر والظلام حاملة أدوات التخيل مع القارئ، محلقة في سماوات الرؤية في الماوراء والتأمل في المجهول:

1

المطر يتلمّس طريقه في الظلام

الريح تمشط الأشجار؛

الضوضاء المحيطة بالمكان تجعل الليل يبدو سميكا

وكثيفا

والنوم ينقر الباب

ألن تقضي الليلة معي؟

2

تنبثق الرغبات خلال النوافذ

وأنا أسمع طرقات على الباب..

هل أفتح الباب

ثمة من يقرع الباب. لا بد من أنه تعب من الوقوف في الخارج

كل هذا الوقت.

3

هل تسميها رغبة

«رغبة طائر محلق »

يحلم بالأزهار والنحل؟

يظهر في النص السابق الصراع الحركي بين الأشياء، يظهر ذلك في تصارع المطر مع الريح مع الظلام مولّدا ضوضاء في المكان لذا تتشكّل الرغبات من لحظات الصراع الدائر بين الأشياء.

ويركز برافولا كومار تريباثي على موضوع الظلام منطلقا في توليد دلالات القصيدة من فكرة عود الثقاب. تبدأ قصيدة (مجرد شيء صغير) بإحداث حالة من الصراع الحركي بين البلل وعود الثقاب ثم يتوسع في بناء دائرة التفاصيل التي يُنشئها، وتظهر الدلالات ذاتها في النص السابق: (الريح والظلام، والعتمة) مقدّمة رؤية عميقة معرفية في التعامل مع الحياة بتفاصيلها اليومية بعيدا عن التعقيد، ومحدثة الصراع الحركي ذاته بين الأشياء:

المسحوق القليل على رأس عود

الثقاب

أصابه البلل

لا فرصة الآن لإشعاله

ومن غير الممكن المضي من دون ضوء

الريح تعوي

والظلام الحالك يطوق الأرجاء

الناس يختبرون مئات الطرائق

لتبديد العتمة

لكن؛ ألا تعلم أنك إذا ضربت حجرا بحجر فستصنع نارا!

النار الكافية لتحويل جبال من القطن إلى رماد

هل حقا لا تعلم شيئا صغيرا كهذا!؟

وتظهر صورة التفاصيل الصغيرة من بين الزحام الكبير، فالحياة مزدحمة ومليئة بالحركة والأصوات والصراعات كما تصفها قصيدة (قصيدة) لأمارجيت شاندان، الفكرة بسيطة جدا، وقد عبّر عنها الشاعر تعبيرا واضحا يقدّم من خلاله صورةً للحياة اليومية بكل تفاصيلها، فالمكان دال على الرحيل والفراق وهو الأمر غير المحبب لدى الشاعر بخلاف الالتقاء الدال عليه المكان نفسه وهو محطات القطار التي تركت أثرا مهما في حياته اليومية:

أنا لا أحب القطارات

ومحطات القطار

ومواقف الباصات والمطارات

حيث يغادر الأصدقاء ولا يعودون

إنني أكرهها

لكنني أحب القطارات

ومحطات القطار

ومواقف الباصات والمطارات

حيث يأتي الأصدقاء معا

وتتشابك أذرعهم

كيلا يفترقوا أبدا.

وإذا كانت القصيدة السابقة رسمت صورة نفسية لمحطات القطار فإن الشاعرة مليكة عمار شيخ رسمت صورة متخيلة للمدينة، فالمدينة كما تصفها:

بضع بنايات شاهقة،

بضع نساء نصف عاريات

بضعة رجال في خرق

بضع جزر من الجوع

بضع آلات تأكل البشر

بضعة رجال يأكلون البشر

ما المدينة أيضا؟

تفتح الشاعر قصيدتها الشعرية وتجعل من سؤالها: ما المدينة أيضا؟ قفلة للقصيدة منفتحة على رؤية العالم الكلي لواقع المدينة، إنها مدينة المتناقضات تجمع: البنايات الشاهقة بالنساء نصف العاريات، الرجال والجزر والآلات بل إنها تستمد مدنيتها من السيطرة على الآخر والتهام البشر. إنه تعبير فلسفي تقدّمه الشاعرة في رصدها لمظاهر التغير الفلسفي والحداثي للمدن الحديثة.

وإذا كان التفكير الفلسفي لوصف المدينة هو ما يقدّم القصيدة السابقة فإن قصيدة (ميلاد فرُّوج) للشاعر عبدُل بسم الله تنطلق من الجانب ذاته من خلال رصد فكرة التفاصيل الصغيرة في رؤية مشهد بسيط لبيضة تضم فرّوجا بداخلها، لكن الشاعر يحاول الوصول إلى أبعد نقطة في الحرية والتمرد على الواقع، مستغلا إحاطة القشرة بالفرّوج، ثم يُحدث الموازنة بين الأشياء: الفرّوج يحاول الخروج والتنفس-آدم حرّر نفسه- نحن علينا أن نهشم قشرتنا وأن نثور ونتمرد على الواقع:

فكر بالفرُّوج وهو داخل

البيضة

حاول أن تفكر فقط

ما الذي يمكن أن يفكر فيه الفرُّوج داخل البيضة

أنصت.

إنه ينقر القشرة بمنقاره الوليد

ويصنع حفرة في وقت قصير

انظر كيف بدأ هذا الشيء

الصغير يتنفس

وكيف، ببراعة، يسحب الهواء إلى الداخل

وبأي تحد يقطع جزءا من العالم لنفسه

لاحظ

إنه الآن ينفخ جسمه داخل القشرة. فيما البيضة تتصدع مثل الرمانة

ويخرج

الفرُّوج يخرج

بهذه الكيفية حرر آدم نفسه

بهذه الكيفية علينا أيضا

أن نهشم

قشرتنا.

وفي الموضوع ذاته تنطلق قصيدة (القصيدة الملصق) لشيرا باندا ارجو، متناولة العمق السياسي وعلاقة الأفراد بالجهات السياسية المختلفة: فالصوت، والبصر والغناء والرقص كلها شبهات تثير السلطة تجاه الفرد الثائر الراجي لخلاصه، وهنا تتدافع الأصوات معلنة بناء نصيا قائما على الخوف والقلق بين طرفين مختلفين فكرا وأسلوبا:

صوتي جريمة.. أفكاري جريمة

ببساطة، لأنني رفضت الرقص على إيقاعهم.

عندما «بالصدفة تماما»

رفعت عيني إلى السماء.

ببراءة

حاولوا أن يقيسوا مقدار نظري

وأرسلوا أنموذجا يحمل بصمة قدمي

إلى المختبرات

ليتحققوا من سر الأغاني التي أغني

الشرطة تلاحقني دائما

وعبثا يحاولون إطفاء النار التي

في جسدي.

كما إنّ الوطن كان حاضرا في تفاصيل الحياة وتفاصيل الشعر، فأردت أن أختم الوقوف على قصيدتين تناولتا الوطن فيها: تميل القصيدة الأولى (إلى بلدي) للآل سينج ديل إلى إظهار مشاعر الحب والعاطفة التي تربط الشاعر ببلده، وهنا يقترن حب الوطن بصورة الأم، فتظهر الصورتان محملتان بعواطف شعورية عميقة، وانتماء كبير، يجسده الحب في أعلى مراتبه:

هل يجب أن يكون ثمة سبب

وراء أن تحب

هل ثمة جذور للشذى

لربما كانت الحقيقة غير مرغوب فيها

لكن الأكاذيب تجد لها قبولا

أحبك ليس لأن جبالك

زرقاء. أو أنهارك

أحببتك، حتى لو كانت جبالك بيضاء مثل شعرات أمي

أعرف أن كنوزك ليست لي

بيد أن ذلك لا يهمني

أحبك بالرغم من ذلك

والحب لا يطلب مقابلا

تلتف الأفاعي حول كنوزك. تطلق الترانيم في مديحك. تسميك

الطائر الذهبي

آه! يا أمي!

إن الأكاذيب تلقى لها

قبولا.

أما القصيدة الثانية فتحمل عنوان (راهن) لنروسينج براساد تريباثي، وهنا يتقمص الشاعر دور المصلح الذي لا يعجبه الواقع الذي تعيشه البلاد، فيُعلن رفضه لما يحصل من جوع وسرقة وجهل وصمت ويظل السؤال الذي تطرحه القصيدة: لماذا؟

واحد يبذر، ويحصد ثمار عمله.. آخرون يبذرون ويجنون ثمار جهدهم.

لكن، هنا.. في هذا البلد

كل شيء مقلوب رأسا على عقب هنا ملايين من الناس يبذرون ويعرقون

لكن حفنة من الناس تتصل حصادهم.

ثمة ملايين من الناس يستعبدهم الجوع

ويعانون من الجهل الموحش

في صمت..

لكن.

لماذا؟

لعل في هذه النماذج صورة عن مقاييس الكتابة التي ينهض بها الشعر في بلاد الهند، لا سيما وأن لكل شاعر تياراته وأفكاره وأساليبه الشعرية التي تقوم عليها القصيدة، وكذا فإنّ ترجمة نصوص وآداب الشعوب قد قدّمت لنا لمحة عن هذه التجارب وعن التفاصيل اليومية والأحداث والحياة التي لا يمكن أن تلتقطها إلا مخيلة شاعر آمن بالكلمة وأصالتاه في التعبير الشعري.

خالد المعمري كاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بین الأشیاء

إقرأ أيضاً:

«الشيخ محمد المراغي في مرآة صحيفة الأهرام» ندوة بمعرض الكتاب

شهدت قاعة العرض بجناح وزارة الثقافة المصرية ضمن فعاليات البرنامج الثقافي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ56، ندوة ضمن محور «التراث الحضاري» لمناقشة كتاب «الشيخ محمد المراغي في مرآة صحيفة الأهرام»، من إشراف وتقديم الدكتورة إلهام ذهني، أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، وتأليف الباحثة نهلة خلف الميري، بمركز تاريخ مصر المعاصر بدار الكتب والوثائق القومية، والصادر عن مركز تاريخ مصر المعاصر بدار الكتب والوثائق القومية.

أدار الندوة الباحث صالح عمر، بمركز تاريخ مصر المعاصر بدار الكتب والوثائق القومية، الذي أكد أن الإمام محمد المراغي حظي باحترام الملوك والرؤساء وكبار الشخصيات والعلماء، كما حصل على التقدير الأعظم من الشعب المصري الأصيل الذي أدرك قيمته العلمية وحسه الوطني.

من جانبها أكدت الدكتورة إلهام ذهني، أن كتاب «الشيخ محمد المراغي في مرآة صحيفة الأهرام» يعتبر مهمًا جدًا، وخاصة أن الباحثة نهلة خلف الميري بذلت جهدًا كبيرًا في التأليف، مشيرة إلى أن الشيخ الإمام محمد مصطفى المراغي يعد واحدًا من كبار علماء الأزهر، لم يكتف بدوره الديني فقط، بل كان مصلحًا اجتماعيًا بارزًا ووطنيًا مخلصًا.

وأضافت أن المراغي سار على خطى الإمام محمد عبده وتأثر بمنهجه، وكان يطمح إلى النهوض بالأزهر إيمانًا منه بمكانته الدينية في العالم العربي والإسلامي.

جانب من الندوة

كما أكدت «ذهني» أن الباحثة قدمت العديد من النماذج لدور الإمام الفقهي والديني، وفقًا لما رصدته الأهرام، ومنها تعديل المجالس الحسبية، ونقل اختصاصاتها إلى القضاء الأهلي، وحرصه على تطوير قانون الأحوال الشخصية، ومشكلته مع الزواج العرفي، والأوقاف، ودعوته للتمسك بالأخلاق والفضيلة، واهتمامه بالطلاب.

وأشارت إلى أن الصحيفة رصدت العديد من جولات الإمام للجمعيات الخيرية وافتتاحه للعديد من المساجد، موضحة أنه من أهم ما رصدته الأهرام موافقة الإمام على ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية حتى يستطيع العالم أن يقف على فضائل الإسلام وأحكامه، بالإضافة إلى أعظم ما سجله في الرسالة التي كتبها حول الإخاء الإنساني بمناسبة مؤتمر الأديان الدولي، حيث دعا إلى دراسة الأديان دراسة مقارنة ضمن مناهج الأزهر.

وأضافت «ذهني» أن الباحثة اكتشفت أن الأهرام لم تقتصر على رصد دور الإمام الديني فقط، بل أظهرت حسه الوطني واهتمامه بمدينة القاهرة، إذ دعا في عام 1940 إلى اعتبارها مدينة مقدسة.

وأوضحت أن الإمام كان يخشى على المدينة من إلحاق الأذى بتراثها أو تدميره، خاصة خلال فترة الحرب العالمية الثانية التي كانت مصر مسرحاً لها، وعزا دعوته هذه إلى أن المدينة تضم الأزهر الشريف والعلوم الدينية والثقافة الإسلامية بالإضافة إلى آثارها الرائعة وأجساد آل البيت والأولياء الصالحين.

وفي السياق ذاته، أشارت الباحثة نهلة خلف الميري إلى أن كتاب «الشيخ محمد مصطفى المراغي في مرآة الأهرام» يلقي الضوء على محطات مهمة في حياة شيخ الأزهر الإمام المراغي، منذ توليه المشيخة لأول مرة عام 1928، مروراً بحفاوة الإعلان عن ذلك الخبر الذي انتشر في العالم الإسلامي بأسره، ثم استقالته التي أثارت ردود أفعال ومناقشات واسعة على مختلف الأصعدة.

وأضافت أن هذه الدراسة اهتمت بمتابعة ورصد مختلف المواقف، ليس فقط ما يتعلق بالفترة السابقة، ولكن أيضاً فيما بعد، خاصة عند عودته وتوليه المنصب فترة ثانية عام 1935، حتى وفاته عام 1945.

وأشارت «الميري» إلى أن الدراسة سلطت الضوء أيضاً على بعض نماذج من دوره الفقهي والمجتمعي، وأظهرت ما تمتع به العالم الجليل من مكانة وأهمية اتضحت معالمها في رثاء الإمام الذي نشرته جريدة الأهرام.

اقرأ أيضاً«تاريخ مشترك وإبداع متجدد».. ندوة العلاقات الثقافية بين ليبيا والجزائر بمعرض الكتاب

مبادرة «أنتي الأهم» تنظم ندوة عن الروح الرياضية ونبذ التعصب بمعرض الكتاب 2025

غدا.. افتتاح النسخة الثانية من معرض تعميق التصنيع بأرض المعارض

مقالات مشابهة

  • هنود يدفنون أنفسهم مع العلم الهندي في الطين لكسب المال.. فيديو
  • قصائد موشحة بالدلالات في بيت الشعر
  • «الشيخ محمد المراغي في مرآة صحيفة الأهرام» ندوة بمعرض الكتاب
  • الشاعر الماليزي رجا أحمد أمين الله يلقي أربع قصائد في معرض الكتاب
  • تشجيعا لموهبته الفنية.. محافظ المنيا يستقبل الشاعر أدهم الجمال
  • من هو أدهم الجمال؟.. الموهبة التي ألهمت «محافظ المنيا»
  • محمد صلاح: التفاصيل الصغيرة ستحسم مباراة الزمالك وبيراميدز
  • نجم الزمالك السابق: التفاصيل الصغيرة ستحسم مباراتنا مع بيراميدز
  • الشاعر المغربي مراد القادري من معرض الكتاب: نحن مدينون لمصر ثقافيًا
  • شاعر مغربي من معرض الكتاب: نحن مدينون لمصر ثقافيًا