لجريدة عمان:
2025-03-18@00:44:03 GMT

هل من جواب عن سؤال القدر؟

تاريخ النشر: 15th, April 2024 GMT

17/ 2/ 2024م.. غرّد الصديق صهيب القصابي على منصة «x» قائلا: (يقول أحد الأطفال: لماذا لا يتدخل الله فيوقف الحرب على غزة؟)، وأحال السؤال إليّ وإلى غيري، وهو سؤال لا يمكن الجواب عليه بعبارة مقتضبة؛ لأنه سؤال وجودي عن القدرة الإلهية، وبالأحرى؛ هو السؤال الأزلي عن القدر. وإن كان القصابي تلقاه من طفل؛ فقد سمعناه مرارا، وطرحه مفكرون وفلاسفة ورجال دين، فهو ليس سؤال الأطفال بقدر ما هو «سؤال العقل الطفولي»، إنه سؤال: الطفل الذي جال في ذهنه، ومَن طرحه على المنصة، ونحن الذين قرأناه، وسؤال الفلاسفة ومُنظرّي الفكر ومؤصلي المعتقدات الدينية.

والسؤال الذي ينبغي طرحه: هل وُجِد جواب لسؤال القدر؟

كثيرة هي الأسئلة التي تواجه الإنسان في مسير حياته ولا يجد لها أجوبة، ورغم ذلك؛ فهو غالبا لا يستنكف عن الإجابة، لاسيما إن كان السؤال متعلقا بمعتقداته، وأحيانا يخجل من الاعتراف بعدم المعرفة فيجيب ليصد وصمة الجهل عنه. إن على الإنسان الاعتراف بعدم امتلاكه الأجوبة، خاصةً إن كان السؤال وجوديا، أو لم يحن الجواب عليه، ولا ضير في ذلك، فالعلم والجهل صفتان طبيعيتان متلازمتان في الإنسان، لا يحملان وصفا بالسلب أو الإيجاب، إلا من حيث سياقهما، فإن كان الجهل بما يلزم الإنسان معرفته والجواب عليه متوفرا فهو منقصة، كمَن يجد الوسيلة لتعلم القراءة والكتابة فيعرض عنها. أو العلم مثلا بخصوصيات الناس من دون مسوّغ أخلاقي؛ فكذلك هذا العلم منقصة.

هناك أسئلة.. يصل الإنسان إلى جوابها بنموه العقلي من الطفولة إلى الرشد، أو بتدرجه المعرفي في سلّم القراءة والبحث والحوار، ولكن يبقى «العقل الطفولي» يلازمنا حتى نودّع الحياة؛ فهي أكبر من أن نجيب على كل أسئلتها، بل هناك أسئلة تنحتها الحياة ولا تمكّن العقل من الجواب عليها. وهنا يأتي دور الدين، عندما يحيل جوابها إلى الله: بأنه على كل شيء قدير، ويفعل ما يريد. والله.. يعلم بأن هذا الجواب لن يسد التساؤل لدى جميع البشر، ولذلك؛ قصَّ القرآن قصص التساؤل العقلي والحوار الوجودي كقصة آدم وإبليس والملائكة، وقصة إبراهيم مع نفسه وقومه، وقصة موسى مع بني إسرائيل، وقرر حقيقة: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) «الكهف:54»، وسيظل الإنسان يتساءل ويجادل حتى بعدما يتبيّن له الحق، فهما سمة عقلية فيه: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ) «الأنفال:6».

ذات يوم.. كنت وأسرتي نشاهد التلفاز عند رفع الأذان، وعندما سمع طفلي الداعيَ يبتهل إلى الله بأسمائه الحسنى قائلا: (الجبّار المتكبّر)، قفز وأغلق التلفاز؛ فسألته: لماذا؟ قال بعقله الطفولي: هذا كافر يقول عن الله بأنه جبّار متكبّر. من الصعوبة أن تجيب على تساؤل عقل طري خلو من المقدمات المعرفية والعقلية، فكان عليّ أن أجيبه من منطقة فهمه باستعمال مصطلح «الكفر»، فقلت له: الله جبّار ومتكبّر على الكفار. بدا لي أنه اقتنع، فهو لم يعد يُغلِق التلفاز عندما يحضر الابتهال.

ذلك الحوار الطفولي.. أوقفني في عقبة من التساؤل، وما أدراك ما هذه العقبة، إذ لم أجد نفسي قادرا على اقتحامها دون إعادة التفكير في الموضوع، فكان عليّ أن أنزل إلى مبادئ الفهم الأولى، فجوابي الذي أقنع طفلي مقنع لكثير من المسلمين على طول تأريخهم.. بل مقنع للملايين من كل دين، لكنه قدح في ذهني أسئلة لازمتني طويلا، من مثل: مَن «الكافر» الذي يستحق أن يواجهه الله العظيم بجبروته وكبريائه؟ وهل «الكفر» ما نفهمه من الكتب المنزلة، أم ما قرره علم الكلام، أم أحكام أهل الفقه، أم آراء ذوي النزعة الإنسانية، أم تأويلات المفسرين الذين يعيدون إنتاج معاني النصوص تحت ضغط واقعهم؟ ومهما يكن الجواب فإن «سؤال القدر» يواجهنا دائما: هل كَفَر الإنسان بإرادته دون علم الله وإرادته؟ وإن كان بعلم الله وإرادته.. فلماذا ينزل عليه عقابه؟ فضلا عن نزول المحن بالمؤمن!

إن كان المسلمون على حق.. فلماذا لا ينتصرون على عدوهم؟ لماذا لا يؤيدهم الله بنصره؟ يجيب الله قائلا: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) «البقرة:154-157»، إذاً؛ ما نراه يقع في المسلمين من قتل هو الظاهر فقط، أما هم فأحياء عند ربهم يرزقون، وكل ما يقع عليهم هو للابتلاء فحسب. ولأن الله يعلم بأن هناك جانبا سُننيا على الناس القيام به قال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) «الأنفال:60»، وهذا أيضا «حل فلسفي» لمن يريد أن يربط بين العمل والتسليم؛ وقد ركّز القرآن عليه كثيرا.

والإنسان.. بجدله المفطور يواصل قائلا: لماذا لا يكون ما يقوم به العدو دليلا على أنه على الحق، وأن المسلمين على باطل؟ يأتي جواب القرآن.. بأن معادلة النصر والهزيمة لا تصلح لإثبات الحق لهذا أو ذاك، فهي من المداولة بين الناس: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) «آل عمران:140».

ويظل التساؤل قائما: لماذا لا يكف اللهُ الناسَ عن أذى بعضهم بعضا؟ لماذا يتقاتلون؟ لم يسكت القرآن عن الجواب، فبيّن أن هذه هي طبيعة الإنسان، وإنما عليه أن يستند إلى العلم الذي هو أثر من روح الله فينا: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) «البقرة:30-33».

هذه أسئلة.. لم تجرِ في ذهني وحده، بل جرت في أذهان عموم البشر، لا أنكر أن هناك ردا حاضرا -غالبا- للجمِ مَن يتساءل بذلك: أيها الإنسان محدود الفهم.. الزم غرزك، فليس لك أن تتساءل فيما أثبته الله في كتبه، فهو لا معقّب لحكمه. ولكن الإنسان لا يملك الكف عن التساؤل؛ فنحن في الدم أبناء آدم، وفي الدين أبناء إبراهيم.

الإنسان.. أعمق من أن تُسبَر كينونته بأداة علمية أو فلسفية أو دينية، ولا يوجد جواب واحد على أسئلته ذات الشُّعَب من الفضول والطموح والأمل والألم والخير والشر. والأجوبة.. على الأسئلة الوجودية لا تنبلج دفعة واحدة، وإنما تنمو بنمو مدارك النوع الإنساني على الأرض، ولا يزال الإنسان في بداية علمه، وجهله محيط هادر بالأسئلة، علينا أن نسلّم بأننا «أطفال في أرض الله»، وقبل أن نجيب إجابةً حاسمةً على أسئلة أبنائنا؛ علينا أن نؤهل أنفسنا بالتدرج في فهم الحياة، وأن السؤال بذاته مطلب عقلي ونفسي ولو لم يحصل جوابٌ عليه. ثم علينا أن نعلّم أطفالنا بأن هناك أسئلة لم يستطع الإنسان أن يجيب عنها.

وصفوة القول.. إن عدم حضور الأجوبة باب واسع قد نبصر منه الوجود بأفق لا نراه من خلال نوافذ الأجوبة الضيقة.

خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لماذا لا إن کان

إقرأ أيضاً:

ما معنى الحديث القدسي إلا الصوم فإنه لي.. وبم اصطفى الله رمضان؟

ما معنى الحديث القدسي: «إلا الصوم فإنه لي»؛ حيث جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أخبر عن الله عزَّ وجلَّ قوله: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، فَلِمَ خصَّ اللهُ تعالى الصومَ من دون غيره من الأعمال بأنه لنفسه ويجازي عليه؟

ما معنى الحديث القدسي إلا الصوم فإنه لي؟

وقالت الإفتاء، اختص الله تعالى الصوم بإضافته إلى نفسه دون غيره من سائر العبادات لوجوه كثيرة، منها: أن الصيام لا يدخل فيه الرياء، بل هو سِرٌّ بين العبد وربه، وأنه لم يُعبد به غير الله، وأنه مما لا يقتص به يوم القيامة في مظالم العباد، وأن الله تعالى هو المتفرد بعِلْم ثوابه، ومضاعفة الأجر عليه، وأنه تقرب إلى الله بما يوافق صفته، فناسب إضافته إليه، وكلها محتملة لا منافاة بينها.

دعاء اليوم السادس عشر من رمضان لقضاء الحوائج .. كلمتان أوصى بهما النبيدعاء السجود في قيام الليل .. اعرف ماذا يقال في هذا الوقت

بم اصطفى الله شهر رمضان بين الشهور الهجرية؟

«شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)».

جاء في تفسير الإمام ابن كثير : يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء .

قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة يعني ابن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان . وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " .

وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه : أن الزبور أنزل لثنتي عشرة [ ليلة ] خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم . رواه ابن مردويه .

أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر) [ القدر : 1 ] . وقال : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) [ الدخان : 3 ] ، ثم نزل بعد مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم . هكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس ، كما قال إسرائيل ، عن السدي ، عن محمد بن أبي المجالد عن مقسم ، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال : وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وقد أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام . رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، وهذا لفظه .

مقالات مشابهة

  • كيف تكون السماء في ليلة القدر؟ وما هي علاماتها؟
  • هذه الدعوة لا ترد في العشر الأواخر من رمضان
  • أدعية ليلة القدر 2025
  • ما معنى الحديث القدسي إلا الصوم فإنه لي.. وبم اصطفى الله رمضان؟
  • أصدقاء وأعداء سوريا الجديدة
  • د. نصار عبد الله: للصيام حكمة تتمثل في تحمل الإنسان الشدة والضيق بإرادته قبل أن تُفرض عليه
  • لماذا نصوم؟.. حسام موافي يوضح مفهوم العبودية في الإسلام.. فيديو
  • لماذا نصوم .. حسام موافي يوضح مفهوم العبادة في الإسلام
  • علي جمعة: الموت حقيقة متكررة.. والعاقل يبحث عن أسئلة سبب خلق الله لنا
  • لماذا هناك خطان على المنشفة؟.. سؤال يشعل ضجة وسط تكهنات بمواقع التواصل الاجتماعي