زادت الحرب، التي دخلت عامها الثاني في السودان، من الشقة بين الفرقاء وبرزت كتل جديدة اصطف بعضها خلف المؤسسة العسكرية بقيادة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، بينما تماهت أخرى مع قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي".

ويرى مراقبون أن هذا الانقسام سيجعل العامل الخارجي هو الأكثر تأثيرا على المشهد السوداني وتراجع فرص حل الأزمة بأيدي السودانيين، أو قد يقود إلى "عسكرة الدولة".

ويعتقدون أن حالة الاستقطاب السياسي التي تصاعدت قبل أسابيع من الحرب سممت الأجواء وأسهمت في تأجيج الأوضاع والتحول من انقسام سياسي بين كتل متنافسة إلى صراع عسكري بين البرهان و"حميدتي" فجّر القتال في منتصف أبريل/نيسان 2023.

وتوافق قائدا الجيش والدعم السريع على فض شراكتهما مع المدنيين في تحالف قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، عبر "انقلاب" أكتوبر/تشرين الأول 2021، ثم وقّعا اتفاقا مع رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك الذي استقال من منصبه في يناير/كانون الثاني 2021 إثر رفض حاضنته السياسية لتفاهماته مع العسكر.

غليان

وبعد عام من المماحكات السياسية، وقّع البرهان و"حميدتي" اتفاق إطار مع هذا التحالف واقتربا من توقيع اتفاق نهائي لاستكمال المرحلة الانتقالية، لكن عزل بقية القوى أدى إلى "غليان" الأوضاع السياسية، ثم رفض قائد الجيش التوقيع على الاتفاق في حال لم يتم تحديد موعد لدمج قوات الدعم السريع في الجيش.

كرّس تعثر "اتفاق الإطار" الانقسام السياسي بوقوف قوى الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية مع البرهان وقوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي مع "حميدتي"، وقاد تأزم الأوضاع إلى توسع الاستقطاب في المشهد السياسي.

ولم تزحزح الحرب مواقف القوى والكتل السياسية الفاعلة، بل نهضت كتل جديدة أبرزها "تنسيقية القوى الوطنية" برئاسة مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة ورئيس "الحركة الشعبية- الشمال"، وتحالف الخط الوطني "تخطي"، الذي يضم قوى شبابية ومنظمات مجتمع مدني، والمبادرة الوطنية السودانية.

وشهدت القاهرة الأسبوع الماضي لقاءات منفصلة شملت قوى الحرية والتغيير-الكتلة الديمقراطية برئاسة جعفر الميرغني نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، وتحالف قوى الحراك الوطني برئاسة التجاني سيسي حاكم إقليم دارفور السابق، وتحالف قوى التراضي الوطني بزعامة مبارك الفاضل المهدي رئيس حزب الأمة.

وكان القاسم المشترك لهذه الكتل هو دعمها مؤسسات الدولة المدنية الشرعية والقوات المسلحة للحفاظ على قوام الدولة السودانية موحدة، وعدّت المجموعات السياسية أن الوقوف مع المؤسسة العسكرية هو العاصم من انهيار الدولة وتفتيت البلاد.

تحول جديد

دخلت قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، التي كانت تمثل الائتلاف الحاكم، في تحالف جديد مع قوى مدنية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وضمن تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم"، واختارت رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك رئيسا للتحالف، وأعلنت أنها في موقف الحياد من الحرب، وستقود مساعي بين طرفيها لإنهائها.

بيد أن توقيع حمدوك و"حميدتي" على إعلان في أديس أبابا في 2 يناير/كانون الثاني الماضي، أثار عاصفة من الانتقادات للتحالف الوليد، واتهمه مساعد القائد العام للجيش ياسر العطا بأنه الجناح السياسي لقوات الدعم السريع.

في المقابل، تمسّك حمدوك بأنهم على الحياد وقال في خطاب، أمس الأحد، بمناسبة مرور عام على الحرب، إنهم "غير منحازين لأي طرف، ولكنهم ليسوا محايدين أو وسطاء تجاه ضحايا الحرب ممن سُلبت أموالهم وممتلكاتهم وتعرضوا لجرائم وانتهاكات خطيرة".

تبنى تكتل آخر موقفا مغايرا قبل الحرب ولا يزال، حيث أعلنت 10 أجسام سودانية أبرزها الحزب الشيوعي وجناح في تجمع المهنيين في يوليو/تموز 2022 عن تكتل سياسي جديد لإسقاط النظام باسم "تحالف قوى التغيير الجذري". وكان التياران الفاعلان في التحالف جزءا من قوى الحرية والتغيير التي قادت الشارع لإسقاط نظام الرئيس المعزول عمر البشير.

يقول القيادي في الحزب الشيوعي كمال كرار للجزيرة نت، إنه بعد عام على الحرب تتصاعد وتيرة الاستقطاب السياسي وحتى العرقي، واعتبره امتدادا للاستقطاب والتشظي المستمر قبل الحرب، و"الكل يريد نصيبه من كيكة الفترة الانتقالية، أو يبحث عن حصان طروادة للعودة للسلطة أو إعادة إنتاج النظام البائد".

ويرى أن الواقع الحالي نتيجة حتمية لما خلّفته الوثيقة الدستورية التي كرّست الشراكة بين اللجنة الأمنية لنظام البشير وتحالف قوى الحرية والتغيير ومن بعدها قوى سلام جوبا من الحركات المسلحة في دارفور.

تداعيات

ويعتقد كرار أن تلك المعادلة كرّست المحاصصات والمزيد من الصراع على السلطة بين القوى السياسية والمدنية قبل أن يمتد النزاع إلى المكون العسكري مما قاد للحرب.

ويضيف أن هدف الحرب تصفية ثورة الشعب، وأن الحزب الشيوعي منخرط في عمل دؤوب لتأسيس تحالف عريض لقوى الثورة على قاعدة التغيير الجذري لتحقيق أهداف الثورة وقطع الطريق أمام أعدائها.

من جانبه، لا يرى الباحث والمحلل السياسي خالد سعد أن هناك قوى سياسية وطنية حقيقية تقف مع الدعم السريع، بل توجد حواضن اجتماعية تدفعها الحمية القبلية والمغانم.

ويقول للجزيرة نت إن بعض القوى التي انقلب عليها الجيش والدعم السريع، مضطرة للاختباء وراء الحياد وشعار "لا للحرب" خشية فقدانها قواعدها من الرافضين لموالاة العسكر، باعتبار هذه الخطوة إعادة إنتاج للنظام الذي ثار عليه الشباب في ديسمبر/كانون الأول 2018، و"بالتالي التنافس الحزبي، هو المؤشر وليس الموقف من الجيش نفسه".

ويرى سعد أن بعض القادة العسكريين "المسيسين" يستثمرون أحيانا في الانقسام السياسي، لكن رأس الدولة يبدو واعيا لهذا "المطب"، وتوقع أن يتخذ خطوات لتأكيد المصداقية والثقة في وحدة القوى الوطنية من أجل "هزيمة المليشيات"، لأن ديناميكية الحرب تفرز باستمرار جيشا واحدا لا يوالي حزبا أو تيارا سياسيا واحدا.

ويوضح أن القوى المصطفة مع الجيش، غالبيتها ذات توجهات متباينة، وتنتهز الفرصة لاستبدالها بالقوى التي كانت في السلطة قبل انقلاب العسكر على القوى المدنية في عام 2021.

ويضيف المحلل السياسي أن تداعيات الاستقطاب البارزة، هي إتاحة الفرصة للتدخل الأجنبي من دون اكتراث للإرادة الوطنية المستقلة، ويمكن أن يؤدي أيضا إلى عسكرة الدولة إذا تهيأت الظروف لذلك.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات قوى الحریة والتغییر الدعم السریع تحالف قوى

إقرأ أيضاً:

الواقعية السياسية التي قيدت يد إسرائيل

ترجمة - أحمد شافعي -

يرى الصديق والعدو سواء بسواء أن الجيش الإسرائيلي من أقوى الآلات العسكرية في العالم. ولكن قادة إسرائيل درجوا على تصوير بلدهم باعتباره خاضعا لحصار من دول معادية عازمة على تدميره. وتستمر هذه السردية برغم أن بعض أهم الدول في الشرق الأوسط ـ من قبيل مصر والمملكة العربية السعودية والأردن ـ لم تعد تتسق وهذا الوصف إلا لماما، بل إنها فضلا عن ذلك متحالفة مع الولايات المتحدة الحامية الأساسية لإسرائيل. ولكن هذا المفهوم لمأزق إسرائيل هو الذي أفضى بقادتها إلى إيثار صيغة معينة لردع الخصوم وهي أنه عند التعرض للضرب، لا بد من رد الضرب بسرعة وبمزيد من القوة.

وهكذا، عندما ضربت مائة طائرة مسيرة تقريبا مواقع في إيران ـ وكذلك في العراق وسوريا ـ في السادس والعشرين من أكتوبر، لم يكن هذا مفاجأة حقيقية لأحد. فقد كان السؤال دائما هو متى ستضرب إسرائيل وليس سؤال عما لو كانت ستضرب. غير أن رد إسرائيل لم يأت متسقا مع منطقها المعهود وهو الرد بسرعة وبمزيد من القوة. ابتداء، أخرت إسرائيل ضربتها لقرابة شهر، إذ كانت إيران قد أطلقت وابلا من الصواريخ على إسرائيل في الأول من أكتوبر في أعقاب اغتيال حسن نصر الله زعيم حزب الله. ولعل مجلس إسرائيل الوزاري الحربي انقسم حيال الأهداف الإيرانية الواجب ضربها. ولعل الولايات المتحدة كانت بحاجة إلى وقت أكبر مما توقعت لإقناع إسرائيل بعدم ضرب بنية إيران الأساسية والنووية. في كل الحالات: كان الإبطاء مفاجئا.وكذلك كان نطاق الانتقام الإسرائيلي عندما تحقق. فهي لم تضرب مواقع البنية الأساسية في إيران وقصرت ضربها على مصانع إنتاج الصواريخ، وأنظمة الدفاع الجوي، وأجهزة الرادار ومواقع عسكرية ـ تبلغ إجمالا عشرين موقعا بحسب ما قال الجيش الإسرائيلي ـ تحيط بطهران وإيلام وخوزستان. فكان هذا بعيدا كل البعد عن سيناريوهات نهاية العالم التي خشيها المتخصصون. فقد كان من شأن أي ضربة لمراكز تخصيب اليورانيوم وأجزاء مجمعات الطاقة في إيران لتزيد من احتمالية التراشق في حلقة مفرغة ومتزايدة التصعيد.

مرة أخرى: يحتمل أن تكون الولايات المتحدة قد استعملت قوتها بوصفها مصدر السلاح والدعم الاقتصادي الذي لا غنى عنه لإسرائيل في إقناع بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت للاكتفاء بضربة محدودة، أو إن إسرائيل أرادت أن تجتنب فترة تراشق طويلة. ولكن إسرائيل باللجوء إلى الحكمة لم تتبع كتاب قواعدها. بل إن إسرائيل، بحسب تقرير باراك رافيد في أكسيوس، أنذرت إيران قبل يوم من الضربة ونبهتها إلى عدم الرد. وقد أثار هذا الشكل من ضبط النفس استياء الساسة في اليمين الإسرائيلي المتطرف، ومنهم وزير الأمن الوطني إيتمار بن جيفير وكذلك زعيم المعارضة الوسطي يائير لابيد.ولقد كانت لإسرائيل أسباب اقتصادية لتعديل الضربة. فلو كانت إسرائيل ضربت البنية الأساسية النفطية لإيران لاهتزت سوق النفط، ولتسبب ذلك في ارتفاع صاروخي لأسعار النفط، وما كان ذلك ليروق للحكومة الأمريكية قبيل أيام من الانتخابات الرئاسية، وما كان أيضا ليروق لداعمي إسرائيل في الغرب. صحيح أن إنتاج إيران من النفط لا يعدو محض 4% من إنتاج النفط العالمي، وصحيح أنها تبعثه كله إلى الصين. ولكن المغزى لا يكمن في هذا، وإنما في أن الأسواق تتفاعل على نحو سيء مع الإضرابات وانعدام اليقين، وليس سوق النفط استثناء من هذا.

وأهم من ذلك أن خمس تجارة النفط البحرية العالمية يمر عبر مضيق هرمز اللصيق بإيران. وسياسات التأمين في الغالب لا تغطي أضرار الحروب وخسائرها، ولو أن إيران حذرت فقط من أن حاويات النفط سوف تبحر في هذا الممر المائي على مسؤوليتها الخاصة، لمنعت شركات الشحن قباطنها من الإبحار في المضيق. وإسرائيل نفسها شديدة الحساسية تجاه ارتفاع أسعار الطاقة. فهي تستورد فعليا قرابة كل النفط الذي تستهلكه، ويتعرض اقتصادها لتوتر بالغ من تصاعد تكاليف حروبها في غزة ولبنان (فقد تضخمت التكاليف الشهرية من متوسط 1.8 مليار دولار قبل حرب غزة إلى 4.7 مليار دولار بنهاية العام الماضي، ولا شك أنها ازدادت أكثر من ذلك الحين).

لو كانت لدى إسرائيل أسباب وجيهة لاجتناب التصعيد، فقد كانت لإيران مثل ذلك أيضا. فالقيادة الإيرانية تعلم أن نتنياهو أراد منذ أمد بعيد أن يسقط الجمهورية الإسلامية التي يعدها أخطر خصومه، وأن إيران لا تستطيع أن تستبعد احتمال استدراج الولايات المتحدة إلى الحرب بين إيران وإسرائيل. وبرغم خطاب الكراهية المعهود من القيادة الإيرانية، لكنها لا تفتقر إلى العقلانية، وهي تقدر في المقام الأكبر الحفاظ على الدولة. وخلال المشاحنات مع إسرائيل وأمريكا، عمدت إلى ما يعرف بـ«الصبر الاستراتيجي»، ومارسته من جديد بعد ضربات نهاية الأسبوع. إذ قال المرشد الأعلى علي خامنئي قولا محسوبا وهو أنه لا ينبغي «التهويل أو التهوين» من الضربة، بينما تجاهل الجيش الإيراني التأثير تماما، مشيرا إلى «الضرر المحدود» ومشيدا بأداء بطاريات الدفاع الجوي الإيرانية.

يبدو أننا اجتنبنا مواجهة هائلة وطويلة بين إسرائيل وإيران، وذلك لسبب بسيط هو أن كلا الطرفين كانت لديه أسبابه الوجيهة لاجتنابها. ومع ذلك فإن ضربات إسرائيل لإيران زادت عزلتها في الشرق الأوسط. فقد انتقدت دول عربية كبيرة الضربة، ومنها مصر والمملكة العربية السعودية والأردن، وجميعها ذات ارتباط قوي بالولايات المتحدة وليس بينها في الوقت الراهن من يعادي إسرائيل. ومن الممكن تفسير إداناتها باعتبارها مواقف محسوبة. لكنها تشهد مع ذلك بعداء «الشارع» العربي لإسرائيل بعد حرب غزة وحساسية الحكام لهذه المشاعر. وفيما تبدو حرب إسرائيل المزدوجة لحماس وحزب الله مستمرة، فسوف يزداد هذا العداء. وفي حال إعراب دول عربية أخرى عن مزيد من الدعم للقضية الفلسطينية، فإن التوتر بين إسرائيل وإيران في الشهور الماضية قد يبدو لشعوب المنطقة محض عرض جانبي لصراع إقليمي لا تبدو له من نهاية في الأفق.

راجان مينون أستاذ فخري للعلاقات الدولية في كلية مدينة نيويورك، وباحث أول في معهد سالتزمان لدراسات الحرب والسلام

عن نيوستيتسمان

مقالات مشابهة

  • مواقف القوى السياسية اللبنانية من المفاوضات ووقف إطلاق النار
  • السودان: والي الخرطوم يجدد هجومه على الوجود الأجنبي
  • ياسر العطا يتهم أعضاء من «مجلس السيادة» بحماية «قوى التغيير» و«الدعم السريع»
  • المالكي والمشهداني يبحثان التعاون بين القوى السياسية والبرلمان
  • عقار من الشمندورة يدعو السودانيين المحافظة على وحدة السودان وبناء الدولة
  • المشهداني والمالكي يؤكدان أهمية التنسيق والتعاون بين القوى السياسية ورئاسة مجلس النواب
  • هل يتجاوز فرقاء السودان انسداد الأفق السياسي؟
  • الواقعية السياسية التي قيدت يد إسرائيل
  • السودان بين تنسيقية تقدم والحركة الإسلامية!
  • عودة المشهداني للبرلمان: بداية جديدة نحو الاستقرار السياسي في العراق