الاتحاد الأوروبي وحرب السودان: تبني السرديات البديلة تشجيع للإرهاب والفوضى
تاريخ النشر: 15th, April 2024 GMT
اطلعت على مقال مشترك للسيدين جوسيب بوريل فونتليس المفوض السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية، ويانيز لينارتستيش، المفوض الأوروبي للأزمات، يوم الإثنين 8 أبريل/ نيسان الجاري عن الأزمة في السودان.
أقدر للمسؤولَين الأوروبيَين الرفيعَين اهتمامهما بما يجري في بلادي وانشغالهما بالأزمة الإنسانية الراهنة فيها.
غير أنَّ أولى خطوات المعالجة الناجعة لأي مشكلة، هي الفهم الصحيح والتوصيف الدقيق لها، ومن ثم السعي لإيجاد الحل المناسب. وما وضح لي من المقال أنه انطلق من فهم خاطئ للأزمة وافتراضات تجانب الموضوعية والإنصاف. وإذا ساد مثل هذا الفهم فإنه سيؤدي لتعميق الأزمة، وزيادة المعاناة الإنسانية في السودان.
السرديات البديلةيقال إنّ الحقيقة دائمًا هي أولى ضحايا الحروب؛ وذلك بسبب السرديات البديلة للواقع التي يشيعها من يقف وراء الحرب. وقد وقع كاتبا المقال في هذا الفخّ بقصد أو بدونه.
عزا الكاتبان اندلاع الحرب قبل عام من الآن إلى ما أسمياه الانقلاب العسكري المشترك في أكتوبر/تشرين الأول 2021. لا شيء أبعد عن الحقيقة من هذا الزعم.
جاءت إجراءات 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 في ذروة أزمة سياسية عصفت بتحالف "قوى الحرية والتغيير" (قحت) التي كانت تمثل الجانب المدني في الشراكة العسكرية المدنية التي تأسست على الوثيقة الدستورية 17 أغسطس/آب 2019، وتولت تشكيل حكومتي الفترة الانتقالية في سبتمبر/أيلول 2019 وفبراير/شباط 2021.
تعرضت "قحت" لانشقاقات وانقسامات متتالية، وبرزت منها ثلاث كتل متصارعة، وسط اتهامات متبادلة بخرق الوثيقة الدستورية، والتخلي عن أهداف الثورة، والتنصل من اتفاقية جوبا للسلام، أكتوبر/تشرين الأول 2020. وأدّت هذه الأزمة لتعطيل الحكومة الانتقالية، بل وتعطيل النشاط الاقتصادي، ومعظم مظاهر الحياة العادية في البلاد؛ بسبب الاعتصامات وإغلاق الطرق العامة بما فيها الطريق البري بين السودان ومصر، والطريق لميناء بورتسودان، والميناء نفسه.
وهذه هي شرايين الحياة الاقتصادية في البلاد. وبالتالي كانت إجراءات أكتوبر/تشرين الأول 2021 محاولة للخروج من تلك الأزمة المستحكمة، خاصة بعد فشل 3 محاولات لرئيس الوزراء الانتقالي لحلها. وقد حظيت هذه الإجراءات بالدعم الكامل من إحدى الكتلتين الرئيستين لقحت، خاصة حركات الكفاح المسلح، أطراف اتفاقية جوبا.
وعلى أي حال فقد مثّل الاتفاق الذي وُقّع بين المكوّن العسكري ورئيس الوزراء الانتقالي في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، نهاية لإجراءات 2021، إذ عاد الأخير لمباشرة مهامه. لكنه استقال بعد شهر من ذلك؛ لعدم استطاعته توحيد رؤية الأطراف المتصارعة داخل قحت. كيف إذن يمكن أن تُعزى حرب 15 أبريل/ نيسان 2023 لما حدث في أكتوبر/ تشرين الأول 2021؟
الأسباب الحقيقية للحربالأسباب الحقيقية للحرب تعود لإصرار أطراف خارجية وداخلية على الإبقاء على قوات الدعم السريع المتمردة والمحلولة وتقويتها؛ لتكون جيشًا موازيًا للقوات المسلحة الجيش الوطني المهني، وفي تحالف مع مجموعات سياسية مدنية، تريد أن تنفرد بالحكم خلال فترة انتقالية ممتدة، بدعم من تلك الأطراف الخارجية. وللأسف فقد تماهت بعثة يونيتامس مع هذا المخطط.
لقد وقعت قيادة القوات المسلحة في 2 ديسمبر/كانون الأول 2022 مع أطراف سياسية على الاتفاق الإطاري لاستعادة الحكم المدني، بأمل أن يفضي لإكمال دمج قوات الدعم السريع، قبل تمردها في الجيش الوطني خلال فترة معقولة؛ لتحقيق احتكار الدولة للعنف المسلح حتى تتمكن من حماية الحكم المدني الديمقراطي. غير أن المخطط المضاد كان يرمي لتكريس المليشيا المتمردة قوة عسكرية باطشة مستقلة عن قيادة القوات المسلحة، تدعمها إمبراطورية اقتصادية هائلة وإسناد إقليمي ضخم. وعندما رفضت قيادة القوات المسلحة هذا المخطط، شنّت قيادة الدعم السريع ورعاتها الإقليميون هذه الحرب، للاستيلاء على الحكم بالقوة. وحين فشلت في ذلك وجهت بندقيتها للمواطنين العاديين.
الرعاة الخارجيوناستعان الرعاة الإقليميون للمليشيا المتمردة بعدة آلاف من المرتزقة الأجانب والمليشيات القبلية، إلى جانب المجرمين الذين أطلقتهم قوات الدعم السريع من السجون. كما وفّر هؤلاء الرعاة إمدادات ضخمة ومتصلة من الأسلحة النوعية شملت حتى المسيرات، استخدمت لارتكاب أسوأ الفظائع بما في ذلك الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غرب دارفور، والعنف الجنسي واسع النطاق، والتهجير القسري لملايين السودانيين في العاصمة وولايات الجزيرة ودارفور والنيل الأبيض وكردفان.
نعم لقد أشارَ المسؤولان لدور الرعاة الخارجيين في الحرب. لكنهما قلبا الحقيقة رأسًا على عقب. فالدعم الذي تقدمه دولة خليجية لمليشيا الدعم السريع الإرهابية، والذي يشمل كل أنواع الأسلحة وجلب المرتزقة والتمويل والإسناد السياسي والدعائي، هو العامل الأساسي لاستمرار الحرب كل هذه الفترة.
ويكفي الاطلاع على التقرير الأخير، لفريق خبراء الأمم المتحدة المستقل لمراقبة تنفيذ القرار 1591، يناير/كانون الثاني الماضي، إذ إنه يورد تفاصيل الإمدادات العسكرية من تلك الدولة إلى المليشيا عبر الحدود مع تشاد، دعك من الرصد الموثق وصور الأقمار الصناعية لرحلات الشحن من مطاراتها إلى مطاري أم جرس وأبشي التشاديين، والتي بلغت حتى يناير/كانون الثاني من هذا العام 122 رحلة.
وقد تناولت الصحافة العالمية ذلك مرارًا، وتحدث عنه مسؤولون ومشرعون في الولايات المتحدة. بينما ظل الاتحاد الأوروبي صامتًا تمامًا، مع أن هذا هو أهم عامل منفرد لاستمرار الحرب. لقد اكتفى الكاتبان بجملة واحدة عن "نفوذ مباشر تتمتع به تلك الدولة -عدا قوات الدعم السريع- يجب أن تستخدمه لإنهاء الحرب". وهذا تبسيط مخل وغير مسؤول يرقى لدرجة تزييف الحقيقة.
أما الحديث عن دور إيراني فهو من باب ذر الرماد في العيون. فليس هناك حاليًا تعاون عسكري بين السودان وإيران. وكل ما تم هو استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين شأن الغالبية العظمى من دول المنطقة. ومع ذلك، وبموجب كل الشرائع والقوانين، فإنه من حق وواجب الجيش الوطني الحصول على السلاح والمعدات التي تمكنه من الدفاع عن البلاد وشعبها من أي مكان.
حياد تجاه الإبادة الجماعية؟!يقول الكاتبان؛ إن الاتحاد الأوروبي يتخذ موقف الحياد من "المتحاربين". لقد ذكر خبراء الأمم المتحدة بخصوص القرار 1591 أن مليشيا الدعم السريع المتمردة والمليشيات القبلية المتحالفة معها قتلت ما بين 10 إلى 15 ألفًا من المدنيين في مدينة الجنينة، غرب دارفور، وحدها، منذ اندلاع الحرب وحتى نهاية العام الماضي على أسس عرقية. وتوصّلت وزارة الخارجية الأميركية في ديسمبر/كانون الأول 2023 إلى أن المليشيا المتمردة ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي تذكر بالإبادة الجماعية. واعتبر مشروع قرار قدمه الحزبان الرئيسان في الكونغرس الأميركي، في فبراير/شباط الماضي، أن أعمال التطهير العرقي التي ترتكبها مليشيا الدعم السريع المتمردة والمليشيات المتحالفة معها ضد المجموعات غير العربية في دارفور، ترقى للإبادة الجماعية.
من ناحية ثانية، نبَّه 25 من مقرري وخبراء الأمم المتحدة في مجالات حقوق الإنسان وحماية المرأة والطفل في 17 أغسطس/آب 2023 لـ "الاستخدام الوحشي وواسع النطاق للاغتصاب والعنف الجنسي ضد النساء من قبل الدعم السريع، واحتجازها مئات النساء، حيث يتعرضن للاستغلال الجنسي والسخرة والاستعباد". وعضدت ذلك تقارير ميدانية لمنظمات حقوقية إقليمية ومحلية مثل: "المبادرة الإستراتيجية للنساء بالقرن الأفريقي (صيحة) والمركز الأفريقي لدراسات العدل والسلام، ومرصد مشاد لحقوق الإنسان. بينما رصد مجلس الكنائس السوداني 153 حالة اعتداء على الكنائس من مليشيا الدعم السريع المتمردة، دمرت خلالها 17 كنيسة كليًا.
هذه الجرائم التي صمت عنها الاتحاد الأوروبي، باسم الحياد، أسوأ مما عرف عن ممارسات بوكو حرام وجيش الرب الأوغندي، وتماثل ما قامت به داعش. فهل معها حياد؟ وهل يملك من يتبنى الحياد تجاه الطرف الذي يرتكبها أي سلطة أخلاقية لوعظ الآخرين عن القيم الإنسانية؟
تشجيع الإرهاب والفوضىوبالمقابل فإن القوات المسلحة السودانية، جيش وطني عريق، عمره مائة عام، ساهم في القضاء على الفاشية والنازية بمشاركته في الحرب العالمية الثانية، وتحرير عدد من دول الجوار من الفاشية، وتأسيس جيوش بعض الدول الأفريقية والعربية عقب استقلالها، فضلًا عن مشاركته في عمليات السلام الدولية.
جيش مهني يعرف ويطبق القانون الدولي الإنساني، وقواعد الاشتباك المعروفة عالميًا. فعندما يوضع هذا الجيش، على قدم المساواة مع مليشيا من المرتزقة متعددي الجنسيات، ومع الأخذ في الاعتبار موقع السودان الجيوسياسي بالغ الأهمية، أليس ذلك تشجيعًا للإرهاب والفوضى مما يحذر منه المقال؟
ختامًا؛ فقد أكدت الحكومة السودانية غير مرّة أن الالتزام بمخرجات منبر "جدة" هي السبيل للتصدي للأزمة الإنسانية، والتمهيد للسلام، مع الوفاء بالتعهدات التي قدّمها المانحون في المؤتمر الدولي للمساعدات الإنسانية للسودان في 18 يونيو/حزيران 2023 بجنيف. كما لا بد أن يترافق ذلك مع إلزام رعاة المليشيا الإقليميين، بالتوقف بتزويدها بأسلحة القتل والدمار التي تستخدمها ضد الشعب السوداني.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الدعم السریع المتمردة ملیشیا الدعم السریع أکتوبر تشرین الأول قوات الدعم السریع الاتحاد الأوروبی القوات المسلحة
إقرأ أيضاً:
السودان.. حرب بلا معنى
تحدثنا سابقا في هذا المكان عن السر الذي يكمن خلف غياب الأخبار التي تتناول أسماء أدبية من السودان رغم وجود أسماء أدبية لامعة مثل الطيب صالح ومحمد الفيتوري وإبراهيم إسحق وغيرهم، وتوقعت أن يكون هذا الغياب الإعلامي محصوراً فقط في الجانب الثقافي، لكن الذي يظهر جليا الآن هو أن هذا الغياب يشمل جانباً آخر لا يمكن تجاهله وخاصة في العصر التقني المجنون الذي نعيشه ونقصد بذلك الحرب المدنية الشرسة التي تدور رحاها في السودان الآن والذي ذهب ضحيتها حتى هذه اللحظة أكثر من 150000 شخص وشرّدت أكثر من 11 مليون شخص والمشكلة أن القادم أسوأ من ذلك بكثير إذا لم يتحرك العالم لإيقاف هذه الحرب المدمرة.
لا يبدو أن السودان يحمل أهمية كبيرة للغرب الأبيض حيث لم تتحرّك الأمم المتحدة لإيقاف هذه الحرب ولم نر منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر والمنظمات الدولية الأخرى تتمركز في الخرطوم لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة التي يحتاجها المكلومين هناك. من الجوانب المظلمة في هذه الحرب جرائم الاعتداء الجنسي التي أصبحت بحسب تقرير بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة “منتشرة” في هذه الحرب رغم عدم وجود إحصاءات دقيقة لهذه الاعتداءات بسبب صعوبة حصرها أثناء الحرب وبسبب الخوف الذي يعتري الضحايا من التصريح بها. التعذيب والتجويع والسرقة جرائم أخرى ترتكب يوميا.
وربما يكون هذا الغياب بسبب صعوبة فهم الطبيعة الديموغرافية للسودان؛ حيث يجد البعض صعوبة في التفريق بين الطرفين بنفس الطريقة التي يميزون بها الصراع في غزة، على سبيل المثال، بين قوات الاحتلال الصهيوني الذين يمثّلون الجانب الشرير والفلسطينيين أصحاب الأرض الذين يدافعون عن أرضهم ويقاومون من احتلّها ويمثّلون الجانب المظلوم في هذه الحرب. ويزداد الأمر تعقيدا عندما يجد المتابع انقساما بين السودانيين أنفسهم إلى الدرجة التي يحملون فيها السلاح ضد بعضهم البعض. هذا بالإضافة إلى إشكالات قبلية لا تنتهي بين طرفي الصراع الذي بدأ في 2023 بين قوات الجيش السوداني النظامية التي يقودها عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي بعد اختلاف على مقاسمة السلطة بينهما. خرجت ميليشيا الدعم السريع من رحم قوات الجانجويد التي ارتكبت جرائم حرب في دارفور إبان حكم عمر البشير.
كل حزب يعتقد أنه سيكسب الحرب التي يبدو أنها ستطول. أصابع الاتهام تتجه إلى قوات الدعم السريع في ارتكاب جرائم الاغتصاب الجنسي والتعذيب والتجويع والسرقة في هذه الحرب الأمر الذي يجعل من هذه القوات الطرف الشرّير الظالم أمام العالم لأن الذي يرتكب هذه الجرائم والحماقات ضد مواطنيه لا يستحق أن يحكم أو يشارك في حكم هذا الوطن. وتتضح الأمور أكثر لدى المتابع البعيد من خارج السودان عندما يعرف حقيقة الدعم الذي يأتي من جهات خارجية تسعى لتحقيق مآربها التجارية الخاصة التي لا علاقة لها بالسودان. أما قادة الجيش النظامي فهم في ورطة لأنهم إن قدّموا التنازلات للميليشيا خسروا الوطن، وإن قاتلوها فستستمر هذه الحرب التي تؤدي إلى ذات النتيجة.
khaledalawadh @