عبد الله علي إبراهيم

ذاعت فينا عبارة إننا فشلنا في ثوراتنا الواحدة تلو الأخرى حتى أدمناه. ولم نراجع هذا القول بفشل ثوراتنا وحيثياته نقدياً وأخذناه عمياناً أمسكوه عكازاً. وزكت الدوائر الأكاديمية أخيراً كتاباً مبتكراً في تحليل فشل الثورات للمؤرخ البريطاني كرستوفر كلارك عنوانه "الربيع الثوري... أوروبا المشتعلة والنضال لعالم جديد 1848-1849" (نيويورك: كراون 2023) قال فيه "إن نجاح الثورات الأوروبية وفشلها سؤال طارد الكتابة التاريخية عنها لأجيال"، ومن رأيه إن القول بفشل الثورة هو من صنع المؤرخين للثورات.

فهم وغيرهم يحملون في رؤوسهم مثالاً أسطورياً عن الثورة كلحظة طلق ينهض بها طلاب التغيير يحطمون العالم القديم ويبنون من فوقه دولة تطابق صورتهم لما ينبغي أن يكون عليه العالم"، وسأل إن "كانت من ثورة في الدنيا تطابقت مع هذا المعيار الضيق؟
وعملاً بقول كلارك فربما كان هذا النعي للثورة السودانية بالفشل من صنع من كتبوا عنها، وفشل الثورة دون تحقيق مقاصدها موضع اتفاق بين كتّاب سودانيين قيموا أثرها في حياة أهلهم، وسنركز على كتاباتهم عن ثورة أكتوبر 1964 لأنها أول الثورات والكتابة عنها أكثر من غيرها، فقال عميد الصحافة السودانية محجوب محمد صالح الذي رحل منا منذ أسابيع إنه ينطبق على ثورة أكتوبر القول إنها "ثورة لم تكتمل"، وهكذا تم حسابها على عودتنا من النتيجة المنتظرة منها في صناعة سودان جديد بخفي حنين، وكل شيخ وله طريقة في بيان كيف قصرت الثورة من دون الغاية وفشلت. وعرضنا لنظرا حسن عابدين وسلمان محمد سلمان وعبد الوهاب الأفندي ممن قالوا بفشل ثورة أكتوبر أو بسوء فهمها. ووقفنا عند ما في الحلقة الماضية عند تفشيل النور حمد لثورة أكتوبر.
اتفق الأكاديمي النور حمد مع غيره في أن "ثورة أكتوبر" لم تحقق من شعاراتها التي رفعتها شيئاً يذكر، وجاء النور لمعنى الثورة الخديج بقوله إنها "سرعان ما أجهضت بعد أربعة أشهر من قيامها وأجهزت عليها الانتخابات العاقبة بعودة الأحزاب التقليدية للحكم على غير توقعات القوى الحديثة التي قامت الثورة على أكتافها". وجاء النور في تقييمه بمحاكمة تلك القوى المتطرفة التي أشعلت العداء للأحزاب التقليدية وطوائفها، في حين لا تملك هي التأثير القوي الذي تملكه الطائفة ولا البديل الحقيقي للطائفية، والثورة عند النور لم تفشل وحسب بل كان فشلها متعدياً على التاريخ من بعدها أيضاً، فقال إنه متى نظرنا إليها في سياق صورة السياسة السودانية المجملة سنرى تلك الثورة أعادت عقارب الساعة إلى الوراء، فهي قد أعادت النظام الديمقراطي الأعرج الذي ظلت تسيطر عليه القوى الطائفية منذ لحظة الاستقلال، فأدخلت المسيرة السياسية في سلسلة من الممارسات المعوجة والأخطاء القاتلة، كان حصادها النهائي وصول الإسلاميين إلى السلطة في البلاد.
أما تشوش المؤرخين حيال "ثورة أكتوبر" فأظهر ما يكون عند كاتب مصقع مثل منصور خالد، الأكاديمي والسياسي ذو الصولات، لا في ما بين كُتبه بل وللغرابة في كتاب واحد من كتبه الكثيرة، فقال في كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل، الجزء الأول" (صفحة 42) إنه يطلق على أكتوبر صفة "الثورة" للتبسيط لا غير، فالثورة عنده صناعة للتاريخ ولها مقومات لم تتوافر فيها، إلا أنه ذهب في صفحة 75 من الكتاب نفسه مذهباً اختلف 180 درجة عنه في صفحة 42، فسماها ثورة صريحاً بتحفظ عابر على محدودية ميثاقها وصفويته، ولكنه قال إنه لا يعادلها في الخطر التاريخي سوى مؤتمر الخريجين (1938) الذي لعب دوراً مميزاً في الحركة الوطنية ضد الاستعمار الإنجليزي، فقوامها شارع تقوده قوى حديثة مصممة على الانعتاق من ربقة القديم إلى رحاب الجديد، وهو انتقال إلى لب السياسة، فكانت الثورة عليه صيحة لنبذ الرث القديم ومقدمة لأجندة عريضة لإعادة بناء السياسة السودانية بواسطة قوى حديثة مدعوة لشحذ فكرها ومنهجها.
وعدد الجديد الذي جاءت به "ثورة أكتوبر"، فهي عنده أبرزت قضية الجنوب كأولى قضايا الحكم والسياسة بانعقاد مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، وحولت بشكل عام الخلاف من اقتتال حول الكراسي إلى خلاف حول جوهر الحكم، وفرضت ما سماه "عدوى التغيير" على القوى التقليدية فصارت تلهج بالاشتراكية مثلاً ولو لغطاً.
قال الشاعر الدبلوماسي محمد المكي إبراهيم في أغنية ذاعت على لسان الموسيقار محمد وردي منذ الثورة إلى يومنا كالنار في الهشيم، "كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل"، وهي لمن نظر إلى أبعد من أرنبة عاجل أمره معنا منذها إلى يومنا، وهو ما عناه كلارك بقوله إن الثورات ليست مثل الجلوس لورقة امتحان تنجح فتكرم أو تفشل فتهان وتفرغ من الأمر، فالثورة لم تكن وحسب، بل هي كائنة في ما بعدها من تاريخ إلى الأبد أيضاً، فميز منصور خالد "ثورة أكتوبر" بأنها أبرزت قضية جنوب السودان في مؤتمر مائدة مستديرة بحضور أفريقي وعربي مهيب في فبراير (شباط) عام 1956، فلم تعد بعده القضية شغب صفوة جنوبية يوسوس لها المبشرون المسيحيون كيداً للإسلام.
ولم ترع دولة الإنقاذ (1989) حرمة هذا الوعي فجاهدت الحركة القومية الجنوبية لتسلم لها عن يد صاغرة، حتى اضطرت إلى التفاوض معها في اتفاق السلام الشامل (2005) الذي منحها حق تقرير المصير وعبرت به للانفصال، وتلك قصة أخرى.
وبتأثير "ثورة أكتوبر" وسعتها للديمقراطية نشأت حركات الهامش مثل نهضة أبناء دارفور واتحاد جبال النوبة ومؤتمر البجا، وخاض الأخيران الانتخابات العامة عام 1965 وما بعدها بكسب مرموق منها، ولم تثبت هذه المنظمات عند النضال المدني طويلاً واختارت حرب التحرير في ظروف جفت فيها الديمقراطية.
أما أمر منح "ثورة أكتوبر" حق المرأة في التصويت فعجيب، لأن فيه مصداقاً لقول كلارك إن "القوى المتصارعة لا تخرج من الثورة على حالها وكأن الثورة فاصل ونواصل"، وخلافاً لذلك تخرج هذه القوى وقد علق بها من الثورة عالق، وهذا ما حدث للحركة الإسلامية، فكانت رائدات فيها استقلن من الاتحاد النسائي السوداني عام 1954 لأنه طالب قبل انتخابات الحكم الذاتي بمنح المرأة حق التصويت، وقلن إنه مما لا يجيزه الإسلام.
ومن غرائب الصدف أن سعاد الفاتح، الوجه البارز في الانشقاق على الاتحاد النسائي المار ذكره، فازت بعد مرور ثلث قرن من موقفها ضد منح المرأة حق الاقتراع والترشيح بمقعد برلماني في انتخابات عام 1986، وكان وراء ذلك التغير تجديد الدكتور حسن الترابي للحركة الإسلامية بعد صعوده لقيادتها بعد "ثورة أكتوبر"، فقال إنه نظر لتوافد النساء على أروقة الحزب الشيوعي في الانتخابات وغيرها يطلبن التحرر من ربقة التقاليد، وقال في نفسه لماذا لا يكون تحررهن بواسطة الإسلام، فكتب في هدأة السجن كتابه "المرأة بين الإسلام وتقاليد المجتمع" (1973)، وتدارسه مع إخوانه في السجن وخارج السجن وبعض رفاقه خارج السودان في تكتم خشية أن يخرج للعلن فيفسد قبل أن يتوطن في أفئدة الجماعة، فكان جاء فيه باجتهادات جريئة في فقه الإسلام وطنت المرأة في ميدان السياسة كما لم يطرأ للإسلاميين من قبل، وصارت الحركة الإسلامية بعد نشر الكتاب قبلة للنساء، وسمّى الترابي ذلك "كسباً" في كتابه "الحركة الإسلامية: المنهج والكسب (1989). ويروى عن رئيسة الاتحاد النسائي وأول نائبة برلمانية عام 1965 عن اليسار، فاطمة أحمد إبراهيم، قولها بسعادتها لفوز سعاد الفاتح وزميلاتها في برلمان عام 1986، فهن عندها نساء قبل أن يصرن إسلاميات.
ومع ذلك فأكبر أبواب النعي للثورية السودانية واليأس من التغيير في أثرها، وهي الحال التي سمتها كاتبة نبيهة بـ "التغييرفوبيا"، هو المثال الأسطوري الذي حدثنا كلارك عنه والذي نحمله في رؤوسنا عن الثورة كلحظة طلق، ينهض بها طلاب التغيير ويحطمون العالم القديم ويبنون من فوقه دولة تطابق صورتهم لما ينبغي أن يكون عليه العالم، ونسأل سؤال كلارك: "هل من ثورة في الدنيا تطابقت مع هذا المعيار الضيق".

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: ثورة أکتوبر

إقرأ أيضاً:

الشهادة السودانية كرقصة التانغو

الشهادة السودانية كرقصة التانغو (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
تفجر حول انعقاد هذه الامتحانات الجزئية نقاش شخصه خصوم الحكومة حتى بين التربويين باستخدام الحكومة لها كـ”سلاح التعليم” لتعزيز سلطانها في البلاد. فقالت قمرية عمر، من نقابة المعلمين، إن هذا قرار حكومة الأمر الواقع، حكومة بورتسودان، وهو سياسي ومرتجل وهدفه الادعاء في مواجهة الطرف الآخر بأن السودان آمن، وأن الحياة تسير بصورة طبيعية.
شغلت منصات التواصل رحلة الـ2000 كيلومتر للطالبة شمس الحافظ عبدالله من بلدة أبشي في تشاد إلى عطبرة بولاية النيل بالسودان، للجلوس لاختبار الشهادة السودانية في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، وهو الامتحان الذي تأجل بسبب الحرب وكان مقرراً له يونيو (حزيران) 2023.
وبدا أن قصة عبور شمس فوق الهول لمجرد الجلوس لاختبار، الملحمة في حد ذاتها، ليست نسيج وحدها. ففي بلد القطينة في ولاية النيل الأبيض، التي تحتلها قوات “الدعم السريع”، كان هناك من تحدى الطبيعة والحرب للامتحان. فركبت جماعة من الطلاب القوارب ليعبروا لمدينة الدويم ليجلسوا للامتحان.
وليست هذه أول مرة تكون فيها الامتحانات في عين عاصفة حروب السودان الأهلية. فسبق لطالبة من دارفور نفسها أن غادرت منطقة احتلتها حركة مسلحة حظرت الامتحان لتركب هولاً أصغر إلى مدينة الضعين لتجلس للامتحان.
جلس طلاب الشهادة الثانوية لعام 2023 لاختباراتها المؤجلة لظرف الحرب في الـ18 من ديسمبر (كانون الأول) 2024. واقتضى ظرف الحرب أن تجرى الامتحانات بصورة أساس في ولايات كسلا والقضارف والبحر الأحمر والشمالية والنيل الأزرق، بينما تقام في ولايات نهر النيل والنيل الأبيض وكردفان بصورة جزئية علاوة على 15 دولة أجنبية نزح إليها الطلاب. واضطرت وزارة التربية والتعليم في هذا العام إلى تعديل توقيت الامتحانات ليبدأ عند الساعة الثانية والنصف ظهراً بدلاً من الثامنة صباحاً تقديراً لظروف الطلاب الذين جلسوا للاختبار في مصر. وعددهم أكثر من 27 ألف طالب وطالبة من جملة 49 ألف طالب وطالبة يجلسون للاختبارات من خارج السودان، لاعتذار وزارة التربية في مصر بأنها لا تستطيع عقد الامتحانات في الفترة الصباحية.
وجلس للاختبار 120724 طالباً وطالبة من الولايات تحت قوات “الدعم السريع” في مراكز الولايات التي تحت سلطة القوات المسلحة. وتكفلت حكومات الولايات باستضافتهم وإعاشتهم. وكان من المفترض، بحسب وزارة التربية والتعليم، أن يجلس للامتحانات المؤجلة أكثر من 343 ألف طالب وطالبة يمثلون 70 في المئة من إجمال الطلاب المسجلين البالغ عددهم نحو 500 ألف، إلا أن العدد تقلص بسبب سقوط آلاف أرقام الجلوس، وتأجيل الامتحانات في ولايتي جنوب وغرب كردفان. وكانت لجنة المعلمين السودانيين، وهي غير التي في داخل السودان، قد قالت إن إجراء الامتحانات في شرط الحرب كما سيحدث سيؤدي إلى حرمان 60 في المئة من إجمال الطلاب الذين استوفوا شروط الجلوس للاختبارات قبل الحرب. وتخلف، وفق تقارير سودانية، عن الجلوس قسراً نحو 157 ألف طالب وطالبة في ولايات تقع تحت سيطرة قوات “الدعم السريع”.
تفجر حول انعقاد هذه الامتحانات الجزئية نقاش شخَّصه خصوم الحكومة حتى بين التربويين باستخدام الحكومة لها كـ”سلاح التعليم” لتعزيز سلطانها في البلاد. فقالت قمرية عمر، من نقابة المعلمين، إن هذا قرار حكومة الأمر الواقع، حكومة بورتسودان، وهو سياسي ومرتجل وهدفه الادعاء في مواجهة الطرف الآخر بأن السودان آمن، وأن الحياة تسير بصورة طبيعية. وساقت جزئية الامتحان معارضة الحكومة وغيرها للقول بأنها مما سيغبن الجماعات التي انحرم طلابها من الامتحان ويمهد “لتفتيت البلاد وتهتك نسيجها الاجتماعي”.
وذهب آخر إلى أن هذا التفكيك للبلاد هو الهدف من إجراء هذا الامتحان الناقص. فالقرار، في قوله، ليس قراراً إدارياً بريئاً، بل يعكس إستراتيجية تتبناها هذه السلطة، التي تسيطر عليها عناصر من النظام المباد، لاستغلال التعليم كأداة لتعزيز نفوذهم السياسي والاجتماعي في مناطقهم المعروفة بـ”دولة النهر والبحر”، وهي تقريباً الولايات التي جرى فيها الامتحان. فتفاوت الفرص فريضة في صفوة هذه الدولة بعواقبه الوخيمة على وحدة السودان.
واتفق مع هذا التطيُّر من الامتحانات رئيس الحزب الاتحادي الموحد، محمد عصمت يحيى، الذي قال إن انعقاد اختبارات الشهادة السودانية في هذا التوقيت هو بداية لانفصال البلاد وخطوة من “خطوات المشروع الانفصالي لسلطة الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني وواجهاتهما تمضي بإجراء امتحانات الشهادة السودانية قدماً في الشهر الذي شهد اندلاع ثورة ديسمبر (2018)”، كأنه لا تثريب على انعقادها في غير هذا الشهر.
قالت النقابية قمرية في نقد الامتحانات الجزئية إن الشهادة السودانية حدث قومي له وزنه وهيبته. ولا غرو أن جاء هذا القول الفصل من مثل قمرية في علو كعبها في التعليم والنقابية. لكنه مما يصدر من مثلها عن “عادة المعارضة” للحكومة. فلم ير الناس من النقابة مشروعاً مستقلاً لانعقاد اختبارات الشهادة. وكان سامي الباقر من نقابة المعلمين قال إنهم ناشدوا طرفي الحرب إعلاناً بوقف إطلاق النار خلال فترة الامتحانات، وفتح طرق آمنة لتمكين الطلاب والطالبات والمعلمين من الوصول إلى مراكز الامتحانات، وأن ترعى الأمم المتحدة هذه الهدنة التربوية مع قادة الأطراف. ولم يفصل سامي في مساعيهم للغرض، واستجابة الأطراف. وخلافاً لهذا العمل البناء استغرقت النقابة في نقد غير راحم للحكومة لأنها قامت بوظيفة من وظائفها لم نر من النقابة اعتراضاً عليها، بل سعت، في قولها هي ذاتها، بطريقتها إلى تأمين انعقاد الامتحانات بسلامة ولم توفق. ونواصل

الشهادة السودانية كرقصة التانغو (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
“فواحد من أكثر وجوه الحرب إظلاماً هو انطفاء أنوار التعليم فينا” الصحافي عثمان ميرغني، التيار.
ملخص
تفجر حول انعقاد هذه الامتحانات الجزئية نقاش شخصه خصوم الحكومة حتى بين التربويين باستخدام الحكومة لها كـ”سلاح التعليم” لتعزيز سلطانها في البلاد. فقالت قمرية عمر، من نقابة المعلمين، إن هذا قرار حكومة الأمر الواقع، حكومة بورتسودان، وهو سياسي ومرتجل وهدفه الادعاء في مواجهة الطرف الآخر بأن السودان آمن، وأن الحياة تسير بصورة طبيعية.
وجاء على قلم مبارك أردول، السياسي من جبال النوبة والرمز السابق في الحركة الشعبية لتحرير السودان، أن عدالة التعليم قضية أساس يجب ألا تغفل. فالولايات التي لا تستطيع الحكومة الوصول إليها بسبب الحرب والحصار ليس عدلاً أن يحرم طلابها من الجلوس، أو تفوت عليهم الامتحانات. و”عادة المعارضة” ناشبة في أردول أيضاً، فهو لا يرى من محنة التعليم، والاختبار الجزئي مجرد مظهر فادح منها، وخطاب الهامش والمركز الذي اكتنفها ما يستوقف مثله من كان ولا يزال طرفاً ذا باع في ذلك الخطاب الذي نبش هذا الامتحان القاصر أرشيف مظالمه. فهو من إقليم جبال النوبة وناشط مرموق في حركتها الشعبية لتحريرها وغيرها من بقاع الوطن حتى 2017. وهو الإقليم الذي تظاهر بعض طلابه أمام قيادة اللواء 54 للقوات المسلحة بمدينة الدلنج مطالبين بتوضيح ما يكتنف جلوسهم للاختبار من ارتباك. وكانت الحركة الشعبية، التي تحتل قسماً من جبال النوبة، أخبرت الحكومة رفضها ترحيل الأوراق عبر مناطقها إلى المدينة تحت إشراف أي مسؤول منها، بينما قبلت أن ترحل بواسطة منظمة اسمها “سمارتن برس”. والمسموع أن الامتحان لم ينعقد مع ذلك في الدلنج لسبب غير واضح.
ويزيد الأمر كآبة أن الحركة الشعبية، التي تحكم بعض إقليم النوبة، استقلت بتعليمها وصرمت أواصرها مع حكومة السودان لتستقي مناهجها من شرق أفريقيا وتعظم دور اللغة الإنجليزية ولتصير لغة التعليم. وقال تربوي من الإقليم المحرر، كما يقال، “لقد اعتبرنا أنفسنا خارج الدولة السودانية”، غير أننا “داخل وطننا ووسط الثقافة والتراث النوبي”، الذي، بتعبيره، كان “مهملاً في المناهج التي تأتينا من بخت الرضا سابقاً (مركز إنتاج المناهج السودانية)، فمناهج السودان لا تهتم بإنسان جبال النوبة”. لو لم تأخذ أردول عزة المعارضة لقرأ من تجربته الخاصة التاريخ الجراح الذي من وراء اختبار حكومة بورتسودان الناقص.
أما الفيل داخل الغرفة في خطاب اختبار حكومة بورتسودان الناقص فهو “الدعم السريع”. فقد أعفاها من أخذتهم عزة معارضة هذه الحكومة من أية مؤاخذة حتى إنه أعاد في موقفه الناقد للامتحان إنتاج اعتراضاتهم على الامتحان حرفياً وبراءة الأطفال في عينيه. فقال مستشار قائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو، الباشا محمد طبيق، إن قرار عقد الامتحان الناقص ظالم، ولم يراع الطلاب النازحين واللاجئين والموجودين في مناطق سيطرة قوات “الدعم السريع”. وأضاف قائلاً إنه “يهدد آلافاً من الطلاب الذين سيفقدون حقهم في الجلوس للاختبارات، وبذلك يضيع مستقبلهم ويعد تمهيداً لتقسيم ‎السودان”.
ولن تجد لـ”الدعم السريع” ذكراً ممن لا يرون من أوضاع معقدة كالتي نحن فيها سوى عيب حكومة الوقت. فطال مدى المعارضة للحكومات العسكرية والمدنية معاً حتى استبد الاحتجاج بصفوة القلم والرأي الليبرالي واليساري وضمر فيهم “الشوف الشامل” الذي ميزت به شاعرة مولانا أبو القاسم هاشم. فكان بوسع “الدعم السريع”، وبجرة قلم، أن يجعل من الشهادة الثانوية حدثاً قومياً مهيباً كما أرادت قمرية، ولكنه أضرب عن ذلك. فكانت قوات “الدعم السريع” قد منعت طلاب الشهادة الثانوية بمناطق سيطرتها من المغادرة إلى مراكز الامتحانات التي تقع داخل مناطق سيطرة الجيش السوداني، فأكد وزير التربية والتعليم في الإدارة المدنية بوسط دارفور، الضواي أحمد، أنه لن يسمح لأي طالب بالجلوس لاختبارات الشهادة السودانية خارج الولاية من دون التنسيق مع وزارة التربية والتعليم.
ولم يكن حمل “الدعم السريع” على النزول عن ذلك الإضراب مستحيلاً على نقابة المعلمين وغيرها لو صحت العزائم لانعقاد هذا الحدث القومي المهيب، لا إعادة إنتاج معارضتهم لحكومة الوقت. فلم يقو “الدعم السريع” على مقاومة إرادة الامتحان عند الطلاب والأسر متى حزمت، أو متى رشد. فكانت قوات “الدعم السريع” قد منعت طلاب مدينة أم روابة من السفر للجلوس للاختبار في مدينة الأبيض، إلا أنها تراجعت وسمحت لبعضهم بالسفر فاستقلوا ثلاث حافلات لعاصمة الإقليم. وسمحت للطالبات من مدينة الرهد دون الطلاب السفر للاختبار في الأبيض، حتى قال أحد أولياء الأمور “لا نفهم السبب وراء هذا التمييز، جميع الطلاب لديهم الحق نفسه في التعليم وأداء اختباراتهم”. أما المسؤول المكلف إدارة التعليم في وحدة النصر الإدارية جنوب الخرطوم فقال إن 928 طالباً وطالبة في منطقة مايو الخاضعة لسيطرة قوات “الدعم السريع” سينتقلون لأم درمان للامتحان في المناطق الآمنة بالجيش، أو مناطق محايدة حسب القرار الذي ينتظر أن يصدر في شأنهم.
أكبر خطأ من حملوا على قرار وزارة التربية عقد اختبار الشهادة في ديسمبر الماضي أنهم يفكرون بزمن السلم في وقت الحرب. فهم عند عقيدة أن هذه الحرب، التي لها عاقب ثقيل كل حرب، هي في قرارها عبثية وملعونة، فيحاكمون النقص الذي يقع خلالها بما كانوا عليه في وقت السلم. يريدون للامتحان أن ينعقد في وقت للحرب بأشراط وقت السلم، أو لا ينعقد. وقيل ما لا يعمل كله لا يترك جله.
وإذا صح العزم فسبق لوزارة التربية أن قررت أن تعقد دورة ثانية لاختبار الشهادة الثانوية في أبريل 2025 لمن فاتتهم الدورة الأولى، فليتنافس المتنافسون في استكمال النقص الذي أخذه الناقدون على الدورة الأولى في الدورة المزعومة. ولا يغيب عنهم مع ذ لك بالكلية أن “الدعم السريع” لم تصدق حين طمأنت الطلاب وأسرهم بأنه “ستتخذ التدابير والإجراءات اللازمة لضمان حقوقهم وتمكينهم من العودة إلى مرافق التعليم وأداء الامتحانات المؤجلة بصورة تضمن التوازن والعدالة مع زملائهم”. فالامتحان هو خاتمة عملية تربوية لا أعتقد أن زمامها سينعقد لـ”الدعم السريع” في وقت قريب. إذا كنا نريد لاختبار الشهادة أن يكتمل فستكون “حكومة بورتسودان” هي القائم به أياً كان الرأي فيها. والعمل معها لمنع الغبن من الامتحان الناقص هو في المحل الأول إذا أراد من أثاروا هذه المظلمة انصاف المناطق التي خرجت عن الامتحان حقاً، ولمعارضتها المحل الثاني. فما استحق معارضتها من أجله كثير بحمد الله. وسيغطي اختبار الدورة الثانية كل خالف إذا اتفق لـ”الدعم السريع”، الفيل في الغرفة، الإذن للطلاب في مناطقه الجلوس للاختبار حيث شاءوا، أو ربما حيث كان الدعم.
يحتاج الامتحان إلى طرفين لكي يوفي الكيل كما تحتاج رقصة التانغو إلى راقصين لتكون.
فواحد من أكثر وجوه الحرب إظلاماً هو انطفاء أنوار التعليم فينا، كما قال الصحافي عثمان ميرغني.

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • أبرزها مصر والإمارات.. كيف تستغل القوى الإقليمية الحرب السودانية لتحقيق مكاسبها؟
  • عجائب الثورات.. قطاعو طرقٍ ولصُوصٌ
  • أوضاع معيشية وإنسانية صعبة في ود مدني السودانية
  • تواطوء الضحية السودانية مع الجلاد
  • الشهادة السودانية كرقصة التانغو
  • مفهوم التغيير كأحد مرتكزات المشروع الحضاري القادم .. مشاتل التغيير (2)
  • إسرائيل فشلت.. سمير فرج: نتنياهو لم يكن لديه رغبة بوقف إطلاق النار
  • زعيم المعارضة الإسرائيلية: الحكومة الحالية فشلت ويجب الاستقالة فوراً
  • ما هو أثر العقوبات الأمريكية على الحرب السودانية؟
  • الثورات في مواجهة إرث الديكتاتوريات.. إدماج ومصالحة أم إقصاء ومحاكمات عادلة؟