عبد الله علي إبراهيم

ذاعت فينا عبارة إننا فشلنا في ثوراتنا الواحدة تلو الأخرى حتى أدمناه. ولم نراجع هذا القول بفشل ثوراتنا وحيثياته نقدياً وأخذناه عمياناً أمسكوه عكازاً. وزكت الدوائر الأكاديمية أخيراً كتاباً مبتكراً في تحليل فشل الثورات للمؤرخ البريطاني كرستوفر كلارك عنوانه "الربيع الثوري... أوروبا المشتعلة والنضال لعالم جديد 1848-1849" (نيويورك: كراون 2023) قال فيه "إن نجاح الثورات الأوروبية وفشلها سؤال طارد الكتابة التاريخية عنها لأجيال"، ومن رأيه إن القول بفشل الثورة هو من صنع المؤرخين للثورات.

فهم وغيرهم يحملون في رؤوسهم مثالاً أسطورياً عن الثورة كلحظة طلق ينهض بها طلاب التغيير يحطمون العالم القديم ويبنون من فوقه دولة تطابق صورتهم لما ينبغي أن يكون عليه العالم"، وسأل إن "كانت من ثورة في الدنيا تطابقت مع هذا المعيار الضيق؟
وعملاً بقول كلارك فربما كان هذا النعي للثورة السودانية بالفشل من صنع من كتبوا عنها، وفشل الثورة دون تحقيق مقاصدها موضع اتفاق بين كتّاب سودانيين قيموا أثرها في حياة أهلهم، وسنركز على كتاباتهم عن ثورة أكتوبر 1964 لأنها أول الثورات والكتابة عنها أكثر من غيرها، فقال عميد الصحافة السودانية محجوب محمد صالح الذي رحل منا منذ أسابيع إنه ينطبق على ثورة أكتوبر القول إنها "ثورة لم تكتمل"، وهكذا تم حسابها على عودتنا من النتيجة المنتظرة منها في صناعة سودان جديد بخفي حنين، وكل شيخ وله طريقة في بيان كيف قصرت الثورة من دون الغاية وفشلت. وعرضنا لنظرا حسن عابدين وسلمان محمد سلمان وعبد الوهاب الأفندي ممن قالوا بفشل ثورة أكتوبر أو بسوء فهمها. ووقفنا عند ما في الحلقة الماضية عند تفشيل النور حمد لثورة أكتوبر.
اتفق الأكاديمي النور حمد مع غيره في أن "ثورة أكتوبر" لم تحقق من شعاراتها التي رفعتها شيئاً يذكر، وجاء النور لمعنى الثورة الخديج بقوله إنها "سرعان ما أجهضت بعد أربعة أشهر من قيامها وأجهزت عليها الانتخابات العاقبة بعودة الأحزاب التقليدية للحكم على غير توقعات القوى الحديثة التي قامت الثورة على أكتافها". وجاء النور في تقييمه بمحاكمة تلك القوى المتطرفة التي أشعلت العداء للأحزاب التقليدية وطوائفها، في حين لا تملك هي التأثير القوي الذي تملكه الطائفة ولا البديل الحقيقي للطائفية، والثورة عند النور لم تفشل وحسب بل كان فشلها متعدياً على التاريخ من بعدها أيضاً، فقال إنه متى نظرنا إليها في سياق صورة السياسة السودانية المجملة سنرى تلك الثورة أعادت عقارب الساعة إلى الوراء، فهي قد أعادت النظام الديمقراطي الأعرج الذي ظلت تسيطر عليه القوى الطائفية منذ لحظة الاستقلال، فأدخلت المسيرة السياسية في سلسلة من الممارسات المعوجة والأخطاء القاتلة، كان حصادها النهائي وصول الإسلاميين إلى السلطة في البلاد.
أما تشوش المؤرخين حيال "ثورة أكتوبر" فأظهر ما يكون عند كاتب مصقع مثل منصور خالد، الأكاديمي والسياسي ذو الصولات، لا في ما بين كُتبه بل وللغرابة في كتاب واحد من كتبه الكثيرة، فقال في كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل، الجزء الأول" (صفحة 42) إنه يطلق على أكتوبر صفة "الثورة" للتبسيط لا غير، فالثورة عنده صناعة للتاريخ ولها مقومات لم تتوافر فيها، إلا أنه ذهب في صفحة 75 من الكتاب نفسه مذهباً اختلف 180 درجة عنه في صفحة 42، فسماها ثورة صريحاً بتحفظ عابر على محدودية ميثاقها وصفويته، ولكنه قال إنه لا يعادلها في الخطر التاريخي سوى مؤتمر الخريجين (1938) الذي لعب دوراً مميزاً في الحركة الوطنية ضد الاستعمار الإنجليزي، فقوامها شارع تقوده قوى حديثة مصممة على الانعتاق من ربقة القديم إلى رحاب الجديد، وهو انتقال إلى لب السياسة، فكانت الثورة عليه صيحة لنبذ الرث القديم ومقدمة لأجندة عريضة لإعادة بناء السياسة السودانية بواسطة قوى حديثة مدعوة لشحذ فكرها ومنهجها.
وعدد الجديد الذي جاءت به "ثورة أكتوبر"، فهي عنده أبرزت قضية الجنوب كأولى قضايا الحكم والسياسة بانعقاد مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، وحولت بشكل عام الخلاف من اقتتال حول الكراسي إلى خلاف حول جوهر الحكم، وفرضت ما سماه "عدوى التغيير" على القوى التقليدية فصارت تلهج بالاشتراكية مثلاً ولو لغطاً.
قال الشاعر الدبلوماسي محمد المكي إبراهيم في أغنية ذاعت على لسان الموسيقار محمد وردي منذ الثورة إلى يومنا كالنار في الهشيم، "كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل"، وهي لمن نظر إلى أبعد من أرنبة عاجل أمره معنا منذها إلى يومنا، وهو ما عناه كلارك بقوله إن الثورات ليست مثل الجلوس لورقة امتحان تنجح فتكرم أو تفشل فتهان وتفرغ من الأمر، فالثورة لم تكن وحسب، بل هي كائنة في ما بعدها من تاريخ إلى الأبد أيضاً، فميز منصور خالد "ثورة أكتوبر" بأنها أبرزت قضية جنوب السودان في مؤتمر مائدة مستديرة بحضور أفريقي وعربي مهيب في فبراير (شباط) عام 1956، فلم تعد بعده القضية شغب صفوة جنوبية يوسوس لها المبشرون المسيحيون كيداً للإسلام.
ولم ترع دولة الإنقاذ (1989) حرمة هذا الوعي فجاهدت الحركة القومية الجنوبية لتسلم لها عن يد صاغرة، حتى اضطرت إلى التفاوض معها في اتفاق السلام الشامل (2005) الذي منحها حق تقرير المصير وعبرت به للانفصال، وتلك قصة أخرى.
وبتأثير "ثورة أكتوبر" وسعتها للديمقراطية نشأت حركات الهامش مثل نهضة أبناء دارفور واتحاد جبال النوبة ومؤتمر البجا، وخاض الأخيران الانتخابات العامة عام 1965 وما بعدها بكسب مرموق منها، ولم تثبت هذه المنظمات عند النضال المدني طويلاً واختارت حرب التحرير في ظروف جفت فيها الديمقراطية.
أما أمر منح "ثورة أكتوبر" حق المرأة في التصويت فعجيب، لأن فيه مصداقاً لقول كلارك إن "القوى المتصارعة لا تخرج من الثورة على حالها وكأن الثورة فاصل ونواصل"، وخلافاً لذلك تخرج هذه القوى وقد علق بها من الثورة عالق، وهذا ما حدث للحركة الإسلامية، فكانت رائدات فيها استقلن من الاتحاد النسائي السوداني عام 1954 لأنه طالب قبل انتخابات الحكم الذاتي بمنح المرأة حق التصويت، وقلن إنه مما لا يجيزه الإسلام.
ومن غرائب الصدف أن سعاد الفاتح، الوجه البارز في الانشقاق على الاتحاد النسائي المار ذكره، فازت بعد مرور ثلث قرن من موقفها ضد منح المرأة حق الاقتراع والترشيح بمقعد برلماني في انتخابات عام 1986، وكان وراء ذلك التغير تجديد الدكتور حسن الترابي للحركة الإسلامية بعد صعوده لقيادتها بعد "ثورة أكتوبر"، فقال إنه نظر لتوافد النساء على أروقة الحزب الشيوعي في الانتخابات وغيرها يطلبن التحرر من ربقة التقاليد، وقال في نفسه لماذا لا يكون تحررهن بواسطة الإسلام، فكتب في هدأة السجن كتابه "المرأة بين الإسلام وتقاليد المجتمع" (1973)، وتدارسه مع إخوانه في السجن وخارج السجن وبعض رفاقه خارج السودان في تكتم خشية أن يخرج للعلن فيفسد قبل أن يتوطن في أفئدة الجماعة، فكان جاء فيه باجتهادات جريئة في فقه الإسلام وطنت المرأة في ميدان السياسة كما لم يطرأ للإسلاميين من قبل، وصارت الحركة الإسلامية بعد نشر الكتاب قبلة للنساء، وسمّى الترابي ذلك "كسباً" في كتابه "الحركة الإسلامية: المنهج والكسب (1989). ويروى عن رئيسة الاتحاد النسائي وأول نائبة برلمانية عام 1965 عن اليسار، فاطمة أحمد إبراهيم، قولها بسعادتها لفوز سعاد الفاتح وزميلاتها في برلمان عام 1986، فهن عندها نساء قبل أن يصرن إسلاميات.
ومع ذلك فأكبر أبواب النعي للثورية السودانية واليأس من التغيير في أثرها، وهي الحال التي سمتها كاتبة نبيهة بـ "التغييرفوبيا"، هو المثال الأسطوري الذي حدثنا كلارك عنه والذي نحمله في رؤوسنا عن الثورة كلحظة طلق، ينهض بها طلاب التغيير ويحطمون العالم القديم ويبنون من فوقه دولة تطابق صورتهم لما ينبغي أن يكون عليه العالم، ونسأل سؤال كلارك: "هل من ثورة في الدنيا تطابقت مع هذا المعيار الضيق".

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: ثورة أکتوبر

إقرأ أيضاً:

العلاج بالضوء الأحمر.. ثورة حقيقية في عالم العناية بالبشرة أم مجرد خدعة تجارية؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في الفترة الأخيرة، أصبح من الشائع رؤية مؤثري التجميل يرتدون أقنعة مضيئة باللون الأحمر، مما يثير تساؤلات عديدة: هل لهذا الضوء تأثير حقيقي على البشرة؟ هل هو فعلاً يستحق ما يُدفع لأجله من أموال؟ أم أننا فقط ننجرف خلف صيحة مؤقتة تجعلنا نبدو كأننا في فيلم رعب؟.

ما هو العلاج بالضوء الأحمر؟

ووفقا لـ iflscience هو تقنية تُستخدم فيها موجات ضوئية بطول معين، غالبًا ما تكون ناتجة عن أجهزة بسيطة تُعرف بالـLED، ويتم توجيه هذا الضوء مباشرة على البشرة. يقال إن هذا النوع من الضوء يؤثر في مكونات دقيقة داخل الخلايا، خصوصًا في الميتوكوندريا، وهي الجزء المسؤول عن إنتاج الطاقة. الفكرة العامة هي أن هذا التحفيز يساعد على تجديد الخلايا وتحسين وظائفها، لكن الحقيقة أن هناك الكثير مما لا نعرفه بعد عن تأثيره العميق على البشرة.

أين يُستخدم؟

بالرغم من أن هذه التقنية تُستخدم أساسًا في تسكين الآلام وتحسين أداء العضلات، إلا أن شهرتها الواسعة جاءت من عالم التجميل. يُروج لها كحل لمشكلات عديدة مثل التجاعيد، آثار التمدد، تساقط الشعر، الندوب، بل وحتى حب الشباب.

هل النتائج مضمونة؟

بعض الأجهزة المنزلية حصلت على ترخيص من جهات صحية أمريكية، لكن هذا التصريح لا يعني أن النتائج مضمونة أو مثبتة بالكامل، بل يعني فقط أن استخدام هذه الأجهزة لا يُشكل خطرًا كبيرًا. ويُشترط على الشركات المصنعة إثبات أن أجهزتها تشبه في تصميمها أجهزة سابقة تم ترخيصها.

بالنسبة لحب الشباب:

مراجعة بحثية نُشرت عام 2024 أشارت إلى أن التجارب التي أجريت على هذه التقنية لعلاج حب الشباب قليلة وغير كافية. أظهرت النتائج تحسنًا متوسطًا في الحالات الالتهابية، لكنها ليست علاجًا سحريًا أو بديلًا تامًا للعلاجات الطبية المعروفة.

أما تحليل آخر من عام 2021 شمل أكثر من 400 شخص، فوجد أن التحسن لم يكن كبيرًا بالمقارنة مع العلاجات التقليدية. ويعود ذلك إلى اختلاف كبير في طرق إجراء التجارب، من حيث عدد الجلسات، وحجم العينة، وطبيعة الاستخدام.

فيما يخص التجاعيد والشيخوخة:

دراسات عدة تناولت أثر الضوء الأحمر على علامات تقدم العمر، وتبين أن هناك بعض التحسن في مرونة الجلد وتجاعيد العين، خاصة عند استخدام أجهزة معينة مثل قناع “ديور” الشهير. لكن حتى هذه الدراسات واجهت انتقادات، لأن العينات كانت صغيرة، وغالبًا ما اقتصرت على نساء ذوات بشرة فاتحة، بالإضافة إلى تضارب محتمل في المصالح، نظرًا لعلاقة الباحثين بالشركات المنتجة.

وماذا عن الأمان؟

بشكل عام، لا تُظهر البيانات الحالية وجود مخاطر كبيرة عند استخدام هذه الأجهزة لفترات قصيرة. إلا أن بعض الأشخاص قد يواجهون تهيجًا خفيفًا أو احمرارًا، خاصة أصحاب البشرة الداكنة، وفقًا لدراسات سابقة. لذلك، يُنصح دائمًا باستشارة طبيب متخصص قبل البدء باستخدام هذا النوع من العلاجات، سواء في المنزل أو في العيادة، لتجنب أي مضاعفات أو نتائج غير مرغوبة.

مقالات مشابهة

  • ثورة في أبحاث ألزهايمر.. اكتشاف أدوية بواسطة الذكاء الاصطناعي
  • ثورة في أبحاث ألزهايمر.. تسريع اكتشاف أدوية بواسطة الذكاء الاصطناعي
  • ثورة في أبحاث الزهايمر.. تسريع اكتشاف أدوية بواسطة الذكاء الاصطناعي
  • السوكني: البلاد “تبي” ثورة ثانية
  • فلسطين الشهيدة.. أقدم كتاب مصوَّر لبعض فظائع اليهود والإنجليز في حق الفلسطينيين
  • العلاج بالضوء الأحمر.. ثورة حقيقية في عالم العناية بالبشرة أم مجرد خدعة تجارية؟
  • الخشب يدخل عالم الطب: غرسات خشبية قد تُحدث ثورة في علاج كسور العظام
  • سوريا تقبل القسمة على أربعة
  • أين حراك الجامعات العربية؟
  • الجيم يجتاح بغداد.. ثورة نسائية على طريق الرشاقة (صور)