د. الشفيع خضر سعيد
كتب الكثير عن حرب السودان، وإمتلأت الصحائف بالتحليلات والاستنتاجات والتقييمات، والهرطقات أيضا، بينما الحرب تمد لسانها إلى الجميع وتواصل قتل السودانيين وتدمير بنيات البلاد الأساسية، بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث من حيث البشاعة والتمثيل بأجساد المواطنين، وخاصة النساء. وكثيرا ما تمر على المرء خاطرة وكأن الحرب شنت، من أي طرف كان، انتقاما من الشعب السوداني على احتجاجاته وانتصار انتفاضاته ضد الظلم ومن أجل مستقبل الحرية والسلام والعدالة، وأن قادة الحرب وممسكي زمامها لا يملكون أدنى ذرة تعاطف مع الإنسان السوداني.
أما السبب الرئيسي لاستطالة أمد الحرب، فأعتقد هو توهم كل طرف بأنه سيحسمها بالضربة القاضية، في حين هذا غير وارد أصلا، إضافة إلى غياب الرؤية الواضحة حول كيفية إيقافها عبر التفاوض. فمنبر جدة لم يضع على مائدة التفاوض رؤية محددة لكيفية الوقف الدائم لإطلاق النار ووقف الحرب، واقتصر نشاطه على الهدن المؤقتة للسماح بمرور المساعدات الإنسانية، وحتى هذه لم يكتب لها النجاح. أما الاتحاد الأفريقي ومجموعة الإيقاد، فتوقفا عند المسائل الإجرائية والتنظيمية، وآخرها تشكيل الهيئة رفيعة المستوى، إضافة إلى خارطة الطريق التي اقتصرت على عناوين عامة تبدأ بالتشديد والتأكيد والتطلع…الخ، دون أي رؤية حول كيفية وقف الحرب. ومن المهم جدا تكرار القول بأن مبادرة الإيقاد لم تنجح في إيقاف حرب الإنقاذ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل دكتور قرنق، إلا بعد أن انتظمت المفاوضات بين الحكومة والحركة على أساس الرؤية التي وفرها إعلان مبادئ الإيقاد في 20 مايو/أيار 1994. صحيح أن تلك الرؤية صاغتها دول الإيقاد وقدمتها جاهزة إلى الطرفين ليوقعا عليها، لكن لابد من التشديد على أنها أبدا لم تكن من وحي بنات أفكار علماء السياسة الدوليين والإقليميين أو خبراء الإيقاد بقدر ما كانت إعادة صياغة وترتيب، وضبط وتدقيق، للأطروحات المتناثرة في أدبيات الحركة السياسية السودانية، وخاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان.
السبب الرئيسي لاستطالة أمد الحرب هو توهم كل طرف بأنه سيحسمها بالضربة القاضية، في حين هذا غير وارد أصلا، إضافة إلى غياب الرؤية الواضحة حول كيفية إيقافها عبر التفاوض
عام على اندلاع القتل والدمار، دون أن تبرز أي رؤية لوقفهما، وكل المتناثر عبارة عن خطوط عامة وكأن المقصود بها مجرد إبراء الذمة فقط. في حين، مع كل صباح جديد من صباحات عام الحرب، يتطلع الشعب السوداني إلى قواه المدنية من أحزاب ومنظمات وصناع الرأي وقيادات المجتمع والزعامات الشعبية والأهلية والروحية، علّهم يستجيبون وينفعلون عمليا مع هذا التطلع، فيضاعفون سعيهم لتحقيق أمل إسكات البنادق وبسط السلام. وتظل قناعتي الراسخة، بأن الرؤية لوقف الحرب لن تأتي من منبر جدة أو منابر الإيقاد أو مؤتمر باريس، وأن القوى المدنية والسياسية السودانية هي وحدها المؤهلة لاجتراح عناصر هذه الرؤية، وأن التوافق حولها هو الأساس لانتظام هذه القوى في منبر يوحدها أو ينسق فيما بينها. ولعل من الضروري الإشارة إلى أن تسهيل التوافق حول هذه الرؤية يقتضي التوافق قبلا على مجموعة من الحقائق، منها أن هذه الحرب لا يمكن حسمها عسكريا، ولن ينتصر فيها طرف على الآخر، لكن قطعا الوطن وشعبه هما الخاسر الوحيد. وأن الحرب خلقت واقعا جديدا يجب أن يغير في طريقة تعاطينا مع تفاصيل الأحداث وتداعياتها، وهذا الواقع الجديد له مستحقاته العملية التي يجب أن تبحث وتتمعن في الأسباب الجذرية للحرب، بدءا من أن الدولة السودانية فشلت منذ استقلالها في التعبير عن كافة مكوناتها الوطنية الأمر الذي أدى إلى تمكن الأزمة العامة في البلاد بتجلياتها العديدة، والتي من بينها استدامة الحلقة الشريرة والنزاعات واشتعال الحروب التي كانت حتى وقت قريب تستوطن الأطراف قبل أن تأخذ منحىً جديدا وصادما باندلاعها في عاصمة البلاد في 15 أبريل/نيسان الماضي، ثم إنتقالها إلى الجزيرة. وأن من نتائج ذلك المباشرة إضعاف الدولة السودانية وعدم قدرتها على توظيف كل مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية للتوافق على مشروع وطني نهضوي ينتشل البلاد من وهدتها التي ظلت فيها منذ فجر إستقلالها.
أما أسئلة الرؤية لوقف الحرب، وكما كررنا ذلك كثيرا، فتتضمن طبيعة الحرب وآليات إيقافها، وماهو دور المجتمع الدولي والإقليمي في إيقاف الإقتتال، وأين هو موقع العدالة والمساءلة بالنسبة لجريمة اندلاع الحرب وما صاحبها من انتهاكات، وما هو جوهر العملية السياسية المفترضة، وهل لقيادات طرفي القوى العسكرية أي دور فيها، وما هو مستقبل قوات الدعم السريع وكل الحركات والميليشيات المسلحة الأخرى…وغير ذلك من الأسئلة الرئيسية.
نقلا عن القدس العربي
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: إضافة إلى
إقرأ أيضاً:
ماقا والتكفير والسودان: الإقتصاد السياسي للرأسمالية المعاصرة
ماقا والتكفير والسودان:
الإقتصاد السياسي للرأسمالية المعاصرة:
يانيس فاروفاكيس إقتصادي ماركسي، ومثقف وفيلسوف من الطراز الأول، ومن أهم المفكرين المعاصرين علي مستوي العالم. كتب يانس اليوناني كتاب سماه “الإقطاع التكنولوجي – القضاء على الرأسمالية: عصر “إقطاعيات السحابة””
يقول يانس في كتابه أن الرأسمالية قد تم دفنها وحلت محلها منظومة جديدة قائمة على التكنولوجيا، لا يقوم منطقها على الربح كما في السوق الراسمالي، بل على الريع كما في عصر الإقطاع.
ولتوضيح النقطة، خذ مثلا شركة أمازون، وهي شركة لا تنتج سلعة كما في عصر الراسمالية الصناعية ولكنها تملك الغوريثم ومنصة ياتيها المنتجون من كل فج عميق ويعرض كل منهم بضاعته ثم يدفع لأمازون حوالي ٣٠% من قيمة ما باع. كما كان السيد الإقطاعي في الماضي يستولي علي جزء من المحصول مقابل السماح للأقنان بفلا حة الأرض التي يملكها، كذلك يفعل جيف بيزو ويستولي علي نسبة عالية مما ينتجه غيره ويبيعه في أرضه الأسفيرية المسماة أمازون. وهنا تبرز علاقة إنتاج وتوزيع جديدة تختلف جذريا عما يحدث في نمط الإنتاج الراسمالي التقليدي حيث يبني البرجوازي مصنعا، يستغل فيه طبقة عاملة، وينتج سلعة في مصنعه ويبيعها بينما أمازون المهيمنة لا تنتج شيئا بل تبيع ما ينتجه غيرها وتتحكم فيهم تماما وتمتص عرقهم. وبهذا تصبح شركات التكنولوجيا المهيمنة علي العالم إقطاعيات وليس شركات في نمط إنتاج راسمالي يقوده الربح ويحكمه منطق السوق. وهكذا ننتقل من منطق الربح الراسمالي إلي منطق الريع الإقطاعي وهكذا يودع العالم مرحلة راسمالية السوق ويدخل في مرحلة أكثر ظلاما تعيد ذكريات عصر الإقطاع.
وعلي مستوي هذا الفيسبوك، فنحن كمستعملين ننتج يوميا كميات مهولة من المحتوي بلا مقابل. ويوفر تفاعلنا قاعدة بيانات عريضة لشركة ميتا، مالكة الفيسبوك، لتحول الشركة هذه البيانات إلي أرباح ميليارية بلا مقابل لنا، وهكذا نصبح أقنانا نعمل مجانا كالعبيد لمالكي فسيبوك. كما يوفر وجودنا للشركة فرصة تسويق مدفوع الثمن تحصل مقابله علي ميليارات لا يصيبنا منها فلس.
من داخل البيت الماركسي، يجادل المفكر الكبير، ديفيد هارفي، بان ملاحظات يانس مهمة وعميقة ولكنه يرفض مقولة الإنتقال لنمط إنتاج جديد. يقول ديفيد أن التحور المستمر من صفات راس المال وفي حمضه النووي وكل ما يحدث الآن لا يعدو أن يكون تحورا من تحورات الراسمالية التي لا تكفي للقول بموتها لصالح نمط إنتاج جديد.
وحسب علمي، لم يشتم ديفيد يانس، ولم يكفره ولم يتهمه بالزندقة والخروج عن ملة ماركس الثورية. كما لم يشتم يانس ديفيد ولم يشكك في نزاهته الفكرية والسياسية ولم يدع احدهما إمتلاك الحقيقة النهائية التي كل ما عداها ضلال وخيانة.
ستيف بانون، المؤسس الذي ولدت من رحمه الآسن حركة ماقا التي أتت بترمب، متهم بانه يميني متطرف، عنصري، فاشي. دخل ستيف في صراع مع جناح ماقا الثروي، الأوليغاركي الذي يمثله ايلون مسك. في خضم هذا الصراع كثيرا ما يستشهد ستيف بيانس فاروفاكس ويردد مصطلح “الإقطاع التكنولوجي”.
لو جرت هذه السلسلة من الاحداث في السودان ربما أتهم يانس من قبل واحدة أم قرون أو أشوس يدعي استنارة بانه ترمبى أو مغفل نافع لليمين الفاشي بسبب أن ستيف بانون يكثر الإستشهاد بكتابه. ولكن ما هو أسوأ، لو حدث هذا في السودان ربما أتهم “ماركسيون” حملة اختام الرسالة يانس بانه انحرف وصار خادما في بلاط ترمب ويمينه الفاشي.
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتساب