(١) حَدّد لنا البعض سقف تفسير ومعاني الهُوية السودانية الجامعة، the Pan- Sudanism ، على أنها تمثل الهيكل العام والبوتقة الإثنية المتداخلة عرقياً في منطقة جغرافية معينة، تسمى وطناً قومياً ، اختارت لنفسها منهجاً معيناً في الثقافة والعادات، وتوافقت على أسلوب يميزها عن الشعوب الأخرى فكونت السودان بشكله الحالي على مدى خمسمائة عام ، فقط.

بنوا على تفتيف المناطقية والقبلية على أساس العرق واللون ، لكنهم نسوا أن المعنى الأحق بالدلالة والتفسير للهوية السودانية يتكون أيضاً من الوجدان الجمعي المشترك المرتكز على أساس الدين والقيم والأخلاق التي تربط السودانيين بحبل الله المتين ما يَمِيْزَهم عن بقية الشعوب في طبعهم الفطري وزيهم وعاداتهم وطبائعهم، المتصلة بقيم الدين، والقواسم الفطرية المشتركة ، من حِلم وافر ونَفس طويل وتؤدة وصدر رحيب ودود ، ونسوا أن مؤثرات ذلك الوجدان الطيب يميل للسلام دون الحرب وإلى البداوة المتقية دون المدنية المبتذلة، وإلى السماحة والوحدة في الشعور ، والطبع الجمعي ، من تماسك وتلاحم ، مطبوع بالحياء والعفاف دون المجون والإنحلال وإلى الرجولة والإقدام دون الجبن والقعود، وإلى الحِّرة عند انتهاك العروض وبذل الروح عند تعدي الآخر للحدود ، وهذا الوجدان المشترك هو أهم العوامل والمعامل التي تحدد معالم الهوية السودانية الجامعة ، معالمٌ ظاهرها جهير ومثير، يجعل الشعب السوداني يفور كالتنور كلما شعر بالإحتقار، وكلما اجتاح الغاشمون الديار، وكلما انتهكت الأعراض، واستلب الحق ، وتجرأ المتجرؤن على الدين والوطن، و كلما استحل الجاهلون أخلاق وقيم هذا الشعب الأبي ، الصبور والجسور في حين.

(٢)
بنى العملاء مشروعهم المدمر الغشيم على عدة أسس أولها الطعن في هوية الشعب السوداني الإثنية والقبلية ، وركَّزوا عليها ، حتى صار البعض ممن لا أساس له ولا جذور ، ولا عُصبة ، ولا أنساب ولا أحساب ، ولا قبيلة ولا عُقُب ، يطعن في انتماءات الشعب السوداني العربية ، لصالح انتماءاته الأفريقية ، ويحاول تفتيت التماسك البنيوي الإثني بين الأفريكانية ، والعروبية في دمائه وسحنته ، وبنوا مشروعهم على أساس تحطيم ميزان تلك الخلاسية الآفروعربية ، لكي ينفذوا من هذه الثغرة لتحقيق مشروع (السودان الأفريقي الجديد) ، لكنهم نسوا أن أهم معامل تماسك هذه الخلاسية، هو جامع اللغة العربية ، كخيط الفجر الأبيض من شمال السودان لجنوبه ومن غربه لشرقه، وجمع بينها حبلُ الله المتين، ودينه القويم الذي تمسك به السودانيون وما ضلوا أبداً وما زَّلوا ، ونسوا الحس الإنساني والوطني المتين والتداخل اللوني والعرقي واللسان المبين، الذي أثر حتى على وحدة وبنية الوجدان الشعبي المشترك ، والمتماسك لدرجة الوحدة في الشعور بالفرح والكره والتعبير ، وقوة النفير، والوحدة الظاهرة حتى في أوتار الحناجر وحِبال الأصوات، ووحدة الشعور وبنية العزة الكبرياء والشمم والإقدام كعامل مشترك بين كل السودانيين.

أرادوا أن يمزقوا هذه الهوية السودانية التي تَميْز السوداني بين كل شعوب العالم ، وحاولوا عطن الشعب السوداني في المدنية الغامرة بالمجون ، وفسروها لنا على أنها الخير كله ، وحاولوا انتزاعه من بدويته ، المتسامحة مع المدنية المحافظة ، وأرادوا أن ينتزعوه عن طبعه العتيق ، ووجدوا أن طبعه الغالب مثل طبع العلاقة بين الزيت والماء ، كلما مزج معها الزيتُ طفى، وطغى، وذهب جفاءا وبقي الماء راسخاً وثابتاً، فبدأوا ينخرون في الأخلاق والقيم السودانية كرابط وراتق لتلك الهوية، بإدخال التميّع والإنحلال، فما اسطاعوا أن يفتتوا البنية الثابتة المجبولة على التدين والحياء والنخوة والرجولة والعيب.

(٣)
حاولوا أن يفرّقوا بين الشعب وجيشه وما دروا أن روابط الطبع والقيم والإقدام لا يَفُلها ولا تفككها، هذه المحاولات الجاهلة للتفريق بين الشعب وجيشه أو بين الكاكي والملاكي وبين العسكرية والمدنية في حال الشعب السوداني، وكلما أساءوا للجيش ، أكرمه الله بالثبات والنصر وأكرمه شعبه بالتلاحم والود واستقبله بالورود وغنت له الغانيات وامتدحه المادحون وعَلّى من شأنه الوطنيون، وصفق له الأطفال وهللوا، حتى ظهرت بنية تلك الهوية الجامعة لا يفصلها غشيم أو لئيم ولا يقطعها سيف، بيد أن الجيش هو من رحم هذا الشعب الأبي ، يشعر بآلامه ويتألم لأوجاعه ويحرس بيضته ويعلي من سيادة وطنه ويبني بنيته كلما حاول هدها الظالمون.

(٤)
إن الهوية السودانية الخلاسية الجامعة لا ترتكز على العوامل الطبيعية والجغرافية الظاهرة والملموسة، بقدر ما ترتكز أيضاً على بنية معنوية ومعانى أصيلة مجبولة ومحفورة في نفس السوداني تؤطر معناه وتحدد ملامحه بين الشعوب ، هوية لا يفت في عضدها تصنيع الأجيال، فقد رأينا بأم أعيننا أن الجيل الذي أرادوا صناعته على مدى عشرين عاماً ، وهاج مع هيجتهم، قد حمل البندقية الآن دفاعاً عن شرفه ووطنه ودينه وأخلاقه، وأن أخلاق الشعب السوداني ، لا يمكن إستيراد أخلاق شعوب أخرى ابتذلت في حياتها واخلاقها لتطعيم القيم السودانية بها، وتلوينها وتبديلها، فالسوداني بمبادئه وقيمه ، ينظر لها ، على أنها تمييع وتذويب ومحو لمعاني الإنسان السوداني ولدينه وتجريف لبقائه، وأن وجدانه الطامح ، يطغى كلما استفزه الحال والمقال ويربو ويهيج وتجتمع، وينتصر كلما مسه الغاشمون ، وهو أساس هوية تجمع بين محصلات عوامل الجغرافية ومعاني الإثنية والقبيلة والمناخ والأجواء، في معناها الملموس ، كما تجمع بين القيم والطبع والأخلاق في مجالها المحسوس، فلا يمكن إختراقها وتفتيتها بالمستورد هنا وهناك.

(٥)
إصطدم مشروع الصراع الطبقي بالبنية المتينة للهوية السودانية الجامعة والتي تأسست على تاريخ حضاري عريق طاعن في التاريخ، تاريخ مرن يستوعب الشعوب والثقافات والأديان، ويمزج بينها كما تخلط دوامة البحر الطوافي والطرور، ويصهرها في تلك البوتقة الجامعة، فإصطدم ذلك المشروع ، نظرياً وعملياً بهذا الحائط المتين وفشل مشروع ونوايا الصدام بين القبائل السودانية ، حتى رأينا أهل الغرب والشرق والوسط وأهل الشمال ، يتنازلون عن مناطقيتهم وعن قبائلهم وعصبياتهم ويتناسوا ماضي الفتن بينهم ، ويهبوا هبة رجل واحد ، بملامحهم وتلاحمهم وصدقهم لصد العدوان عليهم، يظهر هذا جليا في ملامح الجيش وسحناته، وروابطه الوجدانية والقتالية وفي إقدامه وجسارته التي لا يميز بينها اللون ولا ترخيها القبيلة ولا العصبية ، وظهر ذلك أيضاً في هذه المقاومة الشعبية الجسورة ، و في تناسي كل الخلافات القبائل في شرق السودان وغربه ووسطه وشماله وجنوبه الجديد ، واشتدت اللُّحمة وتلاحمت القلوب والسواعد للدفاع عن الوطن بهويته الجامعة ومعناه الكلي الأصيل.

الرفيع بشير الشفيع

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: السودانیة الجامعة الهویة السودانیة الشعب السودانی

إقرأ أيضاً:

وحدة الساحات السودانية وخطاب البرهان

ماذا أراد السودانيون عندما اندلعت الحرب قبل نحو عام ونصف ؟ لا أحد يدري بالتأكيد. لكنهم يريدون الآن أن يقتصوا من “آل دقلو” ومليشياتهم ، وامتدت رغبات البعض والتي يجاهرون بها إلى حد إبادتهم، لم يطالب السودانيين اللاجئين والنازحين بأن تتوقف، لأنهم يعلمون إن توقفوا من طرف واحد فستكون الهزيمة، وهم لا يتحملونها بعد عام ونصف من تحطيم السودان أرضاً وشعباً ومحاولة تقسيمه.

المتابع جيداً وبدون أحكام مسبقة ، يجد أن لغة الرئيس البرهان في خطابه أمام الجمعية العامة للامم المتحدة، قد تغيرت كثيراً من سابقتها ، وأصبحت شروطاً لا استجداء للمجتمع الدولي ، قال الرئيس :” مليشيات آل دقلو تمردت على الدولة السودانية وحاولت الاستيلاء على السلطة بالقوة العسكرية بمساعدة دول في الإقليم قدمت لها الدعم المالي والعسكري وحشدت لها المرتزقة”.

للامارات وكلاء دائماً يشنون الحرب بدلاً عنها وهي تجني الثمار السياسية والاستراتيجية، بل والمادية! لكن هذه المرة في حرب السودان ، الخسائر من الضخامة بحيث لا يسهل تعويضها عن طريق تنازلات الولايات المتحدة. او ضغوط المجتمع الدولي ، أما زعماء القبائل والسياسيين والناشطين ، اولئك الذين ورطهم “دقلو” في الحرب و عملوا كمخالب قط من أجل حماية وتعزيز مصالح حقيقية أو وهمية تخص سيداً يقبع بعيداً، فمصيبتهم قد لا تكفي عقود لرفعها!
الواقع أنه بعد تدمير الكتلة الصلبة للمليشيات ، وافتتضاح نوايا قادتها الحقيقية التي دفعتهم لخوض الحرب ، وأنه لا علاقة لها بأي تحول ديمقراطي أو مصلحة للسودانيين، وافتتضاح حاضنتها السياسية التي استخدمت “التقية” خلال الفترة الأولى في أضخم عملية تضليل سياسي ، الواقع أن الجيش الان يخوض المعركة على جبهتين أو ثلاث داخلياً وخارجياً، والحقيقة الماثلة أن الدولة السودانية متقدمة على كافة الجبهات .

بالامس ظهرت “وحدة الساحات” السودانية في أضخم عملية برية خاضها الجيش السوداني داخل العاصمة “الخرطوم” منذ اندلاع الحرب ، حيث عبرت قوات الجيش، هيئة مكافحة الإرهاب ، كتائب الاسناد من المقاومة الشعبية، الجسور إلى الخرطوم والخرطوم بحري ، وأجبرت المليشيا إلى الفرار من شمال بحري ووسط الخرطوم ،تزامن ذلك والرئيس البرهان يقول أمام المجتمع الدولي:” مليشيات آل دقلو روعت ملايين السودانيين ووقف الحرب لن يتم إلا بتجريد المليشيات من السلاح وتجميعها في مواقع محددة”، وبهذا يعلن الرئيس “البرهان” ان رصيد الحد الأدنى قد أصبح فارغاً.

خطاب الرئيس أمام العالم بهذه اللغة الحادة والمباشرة ، توضح أنه وصل إلى قناعة مفادها :لو كانت هناك نية دولية حقيقية لإرغام الامارات ومليشياتها فعلياً على وقف الحرب والعدوان لكان حصل ذلك منذ أشهر طويلة، ولكن الملاحظ هو الصمت واللعب على الوقت وعلى استدراج أطراف أخرى.

بعد محاولات لقراءة افكار الرجل ، وانطباعات متذبذبة نتاج مواقفه في بعض المحكات ، بدا لي واضحاً أن الرئيس البرهان رجل ذكي ، جنرال ثعلب ، انحنى لعاصفة الايام الأولى عسى ولعل أن ينقذ شيئاً من الحريق ، كان يفهم إن الشخص الذي يعيش واقعاً ملتبساً ومعقداً ومتأزماً لن يتجاوزه إلا بالحكمة.

ولكن بعد مرور عام ونصف ، استغرقها في محاولة لملمة الاوراق التي بعثرتها رياح العدوان داخلياً وخارجياً، وبعد تجارب لصيقة مع المجتمع الدولي الغربي واكاذيبه، وصل إلى يقين أن السياسة الدولية تنبذ الحكمة وتعدها خيار الضعفاء، لذلك اتجه إلى خيار آخر ، وهو فرض إرادة الشعب على الجميع بالقوة العسكرية بميدان القتال في السودان ، واعلان ذلك أمام العالم قائلا:” إرادة الدولة السودانية ستنتصر على العدوان”.
محبتي واحترامي

رشان اوشي

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الخارجية السودانية: بيان الإمارات كاذب ودورها مستمر بتسعير الحرب في البلاد
  • مصر تستعد لرئاسة مجلس السلم والأمن الأفريقي وتسعى لدفع الجهود لحل الأزمة السودانية
  • وفاة الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم.. الموت في زمن الشتات ورحيل هرم شعري ناطق
  • «طوارئ جنوب الحزام»: طيران الجيش يقتل ويصيب أكثر من «16» شخصاً بالعاصمة السودانية
  • حمدين: هذه الحرب رغم مآسيها لكنها وحدت الوجدان السوداني
  • عقار يناقش أداء الحكومة واستعدادات امتحانات الشهادة السودانية
  • الفاقد اليساري والشلب في الحرب السودانية
  • علي الشريف عمر: يتطلع الشعب السوداني أن يكون لدولة قطر دورا رياديا في إنهاء الحرب
  • وحدة الساحات السودانية وخطاب البرهان
  • محمد وداعة: ام .. المعارك