عادل عسوم: (طالتبنا الغيبة) بديعة معتصم ابراهيم
تاريخ النشر: 15th, April 2024 GMT
يجمع الناس بأن أجمل مافي شِعْرِنا ل هو شعر الحنين الى الديار.
وهذا الغرض الشعري برغم وجوده بكثافة في جل أشعار اهلنا في السودان إلا أن اسلوب التعاطي معه في ثنايا أشعارنا يختلف كثيرا، فلايسع المتلقي الا ويعلم يقينا بأن هذه الكلمات وذا السياق انما هو لشاعر من الشعراء المتحدثين بلهجة الشايقية!…
وهنا يعذر المرء النقاد اذ مافتئوا وقافين بين يدي كون شاعرية أهل المنطقة جينية أم كان للمكان بصمته تشكيلا لوجدان الناس في تلك السوح والفضاءات؟!فللرأيين قبول ومناصرين.
هذه القصيدة كم أجدها ريانة بمشاعر الحنين الى الديار وأهلها حد الإشباع! وهي كذلك موغلة في سبر غور الشوق الى حد الارتحال جسدا وروحا مع كل صورة ذكرى تتصعد كما فقاعات الصابون من قصبة يعتمرها طفل يجالس أمه المقعية بتصبار وحميمية على طشت الغسيل وبين يديها حبل تتناثر عليه جلاليب ذكران البيت وألبسة الرياضة والعراريق والسراويل…
والحق أقول بأنني لم اقرأ لشاعر هذه القصيدة المبدع عبدالله التاج قصائد أخر، لكنني أقول بملئ فيَّ انه إن لم يكتب سواها لكفته!
يا الله انت براك الحالة داريبا
من أهلي من خلاي طالتبنا الغيبة
انها الغربة ياأحباب!…
كم لها على النفوس من وطأة، وعلى العقول من إضرار، وعلى الاجساد من انهاك!
كيف لا والمنافي قد كانت ولم تزل تتناوشنا منذ القِدَم فإذا بك تجد في اواسط كل مدينة سودانية وقرية فريقا وحِلَّة للشايقية!
ولاغرو أن الأمر سيان مابين المنفِي وذاك الذي اضطرته (المعايش) لان يدع الديار بأهلها ويهاجر وتطول به الغيبة سنوات وعقود…
والغربة يااحباب كالنار، تُصلي الوجدان فلاتخرج الأشعار إلا ناضجة كما الذهب أصفر فاقع لونه يسر مرآه الناظرين، أو كما رغيف الخبز المبتاع لتوه من الفرن، لاتملك له إلا (قروضا)…
ودوننا أشعار رابطة المهجر من شعراء لبنان المجيدين فقد نظموا أفضل ماعندهم خلال مهاجرهم تلك!…
والأمر عندنا يزداد وهجه وبريقه اذ يستصحب الشعراء فينا حال أهل هم في الناس كما الربيع من الزمان، وكما الأحجار الكريمة من بين صخور الأرض!…
أهلي الحنان بالحيل ديل منبع الطيبة
لي شوفتم مشتاق طولت أهاتيبا
وكم صدق المثل إذ يقول: (الماء من نبعه والمليحة لأمها)…
وأي نبع؟ وأي أم ياأحباب؟!.
لعمري انه نبع زلااااال الماء وأمٌّ كم غنى لها شعراء المكان حتى حفظ الآخرون كلماتنا وسياقاتنا، فاذا بك تجد الأطفال في كل فجاج السودان يغنون وهم (يميلون)، شايلي الحليلي علي المراح، وجبتي اللبن بي انشراح!…
أناس:
ترتا للمسكين تديهو من جيبا
واناس:
للجايع المحتاج تقسم قواسيبا!…
ولولا ذاك لما ترك الحسانية والهواوير كل فجاج السودان ويمموا الى تلك الديار عشما في (قواسيب) التمور والفول والقمح والمريق حين حصاد!…
ياااااه
ما أجمل مشاهد حش التمر ونوريق القمح والفول و(فرض) البراسيم هناك…
وتترى المشاهد في خيال شاعرنا فيأتي العيد فاذا بماكينات الخياتة لها كركبة وأزيز بين يدي الترزية وهم يقابلون العيد وأمامهم اكداس اقمشة الدمورية والدبلان والبوبلين والساكوبيس توغل فيها المقصات لتحيلها عراريقا وسراويلا وجلاليب، منها ماهو بكرشلين وبعضها ذات رقبة وجيوب بقيطان او دون ذلك.
ثم هناك كبارنا من الختمية ممن يحرص على جعل جلابيته ذات لياقة، تكاد تراها في غمار جلبة النوبة براياتها وكشكوشها تلوح لك في سماوات الخيال الجميل…
ثم يأتي العيد والناس قد:
جدعت طواقيها ولبست مراكيبا
مرقت علي الجيران معطونة بي طيبة!…
بالله عليكم تمطقوا عبارة معطونة بي طيبة دي؟!!!
انه الاشباع عندما تصل الحميمية حد الإرتواء بل الثمالة!…
فالطيبة قد تبدو على المحيا والجبين، لكن أن يصل الناس الى حد (العطن) بها فذاك لعمري مناط دونه خرت قتاد القيم والمعاني والمباني في الناس!…
وتترى مشاهد العيد الجميلة…
اتعانقت فرحة شبانا بي شيبة
مااااأجمل المشهد في السوح انتقالا الى البيوت والكل يردد العفو والعافية!
ياااااه
ثم يستبد الشوق بشاعرنا الجميل معربدا في دواخله عن الحلة بكل تفاصيلها، حتى طين اللقدابات وظلال الحوائط عند العصاري عندما تجر الامهات العناقريب ليتمددن من بعد عناء نهار طويل، نكرانا للذات في سبيل اسعاد الاخرين…
واذا بصور الأشياء التي تزين المكان تنبري في خاطره:
قاطوع معشش فيهو الطير
وفي كيمو قسيبا
اربل قديم مهكور مدفونلو في حيبا
وإذا بآفاق الخيال تتجمل بصورة العازة وهي تستظل براكوبتها والسعن مشدود على جانبها،
فكم ابدع شاعرنا وهو يصف ماء السعن بداخله وصف بماء نقاع الزير من حيث صفائه ونقائه بينما الماء داخله يميل الى دُكنة كماء الحمريب!
وهنا يحضرني وصف ربنا جل في علاه للّبن في الآية الكريمة (وانّ لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين)
سبحان الله
فالسعن هو اهاب الماعز، واللبن رفد منها قد تشاركا الوصف بالصفاء والنقاء وان شاب النبع والمصدر ماشابهما!
فلا يلبث شاعرنا الا (مكركعا) من ذاك السعن باااارد الماء وزلاله فقمن به ان يفك الريق للضاربا وِتّيبا…
ثم ينتقل شاعرنا بخياله الى (بلد بي تحت) حيث البوغة والناس على قدم وساق يزرعون والجدول ملان مسروف ماخدلو سرسيبا…
ياااااالهذا الوصف البديع ياأحباب!!!
انه المكان حيث ألق الطبيعة التي صنعت الشعراء والله!
ولعمري لايتكرف جمال هذا الوصف الا من بَوَّغَ وسهر الليل في بلد بي تحت قراع وكلما حانت منه التفاتة الى الجدول يجده مسروفا ماخدلو سرسيبا الا وترتسم على شفتيه ابتسامة بأنه لامحالة منجزٌ قراعته بسرعة، أما اذ انتصف الجدول او سرسب ماؤه في القاع، فذاك لعمري منغصة ومنقصة، اذ سيعلم يقينا بان ليله سيطول وقد لايتمكن من اتمام سقيه الى أن تصيح الديكة في البيوت وتحمل اصواتها إليه أنسام الفجر…
ولاتكتمل الصورة الا بمشهد الصبية وهم يرعون قطعان اغنامهم وفي اياديهم اسواط الكاجنيب وهم في طريق العودة الى البيوت…
يالها من اشواق قد صهرتها نار الغربة فسالت كماء الذهب تمهر الصحائف بقصيدة بديعة حري بها ان تجد من التثمين السمين…
ويزيد الق القصيدة مبدع قد حباه الله مزمارا من مزامير داؤد، إنه إبن نوري الخضراء أرضا واناسي كثر (معتصم ابراهيم) ألا ليته تنفض عن نفسه اغبرة السكون ليجمل حيوات الناس ويرسم البسمة على شفاههم ويجلب السكينة الى قلوب قد انكتها ضغوطات الغربة وتكالبت عليها هموم الدنيا بصوته (المتهدج) بالاشواق، والريان بحميمية الأهل والامكنة والأزمنة.
اليكم القصيدة:
كلمات عبد الله التاج.
ألحان وأداء معـتـصـم إبـراهـيـم.
…
يا الله أنت براك الحاله داريبا
من أهلي من خلاي طالت بنا الغيبة
أهلي الحنان بالحيل ديل منبع الطيبة
لي شوفتم مشتاق طولت أهاتيبا
ناس ترتي للمسكين تديهو من جيبا
وللجائع المحتاج تقسم قواسيبا
الناس غشاها العيد تفصل جلاليبا
جدعت طواقيها لبست مراكيبا
مرقت على الجيران معطونه بي طيبة
أتعانقت فرحة شبانا بي شيبا
أنا شوقي للحلة طينة لقاديبا لمتين محل الأم جرت عنيقريبا
قاطوع معشش طير في كيمو قسيبا
أربل قديم مهكور مدفونلو في حيبا
وأنا شوقي للعازة وجلسة رواكيبا
سعناً ملا النقاع لو مويتو حمريبا
أتواتا أكركع زين وآخدلي قنيبا مويتاً تفك الريق للضاربا وتيبا
أنا شوقي للبوغه وشتيت تواريبا جدول ملان مسروف ماخدلو سرسيبا
شفع صغار يرعوا تظهر كواجنيبا سايقين قطيع أغنام صادين بها الغيبا
يا الله إنت براك الحاله داريبا
من أهلي من خلاي طالت بنا الغيبه
عادل عسوم
adilassoom@gmail.com
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
معتصم أقرع: اليسار والدولة مرة أخري
– منذ إنطلاق هذه الحرب اندلع جدل في دار يسار بين جماعة منه تدعو لتدمير الدولة وتيار آخر يري في هذا استعجال شديد الخطورة علي مصير الشعب. شاركت هذه الصفحة في هذا الجدال الذي لم يكن موجودا بهذه الدرجة قبل الحرب حيث كانت شعارات اليسار: ديمقراطية، مدنية، عدالة إجتماعية نسبية، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل. ولم يكن حل الدولة أو الجيش علي طاولة الحوار العام ولا في أوساط فقهاء اليسار ولا أدري لماذا اشتعل بعد الحرب ولكن من الطبيعي لي تخميناتي.
– الداعون لهدم الدولة أحيانا يصوبون سهامهم نحو الدولة في حد ذاتها واحيانا ضد “الدولة القديمة” . لكن عليهم واجب تحديد المشكلة. فلو كانت مشكلتهم مع تدمير “الدولة القديمة” فهل يعني هذا أنهم يدعون لدولة أخري تحل محلها؟ إن كان الأمر كذلك، فعليهم تحديد القوي الإجتماعية الجاهزة لإستلام الدولة وتجديدها بما أنهم يدعون لتحطيم جهاز هنا الآن والبلاد يستبيحها الغزاة.
– يردد الداعون لهدم الدولة حجة إنها أداء قمع طبقي وسوط الطبقة المتنفذة علي حساب الآخرين. وهذا الزعم عموما صحيح ولكنه ليس كل الحقيقة. إذ أن الدولة أيضا هي التي تنسق المصلحة العامة مثل توفير الأمن وحد من التعليم والصحة والبني التحتية وإنفاذ القانون، والمعايير الصحية والمهنية وإدارة العملة وتنظيم الأسواق والتجارة وحماية الحدود وهذه متطلبات لا تقوم حياة حديثة في غيابها. ولكن حتي الآن لم يحدد الداعون لهدم الدولة هنا الآن من سيقوم بهذه المهام. من سيقوم في سودان ما بعد تدمير الدولة ببسط الامن وحماية المواطن في حياته وبدنه وماله ومن سينظم الصحة العامة ويدير المواصلات والإتصالات ومن يحمي الشعب من الغزاة الطامعين؟
– لا جدال في أن الدولة ليست أداة محايدة طبقيا في أي مكان في العالم ولكن هذا لا ينفي حوجة المجتمعات لها مرحليا، وبالذات مجتمعنا. لذلك فان الطرح عن نزاهة الدولة هو السؤال الخطأ لتحديد الموقف منها. من الممكن رفع الوعي بعيوب الدولة بهدف تجاوزها ولكن لتدمير الدولة يجب علي الداعين لذلك إقناع الراي العام بوجود بديل جاهز أحسن منها وجاهز للقيام بكل مهامها ببساطة لان إنهيار الدولة قد يدفع السودان إلي واقع أكثر تخلفا.
– النقاش حول ضرورة الدولة أو ضرورة حلها يجب أن ينطلق من الواقع الماثل أمامنا ولا يحتاج لنصوص فقهية من تاريخ يسار غربي نظر في سياق تاريخي يختلف تماما عن واقعنا الحالي. وهذا لا يعني عدم الإستفادة من الخلفيات التاريخية والفكرية والفلسفية. ولكن – كما قال الصديق عثمانتو- المرجعية الأخيرة يجب أن تكون لواقعنا الماثل هنا الآن وليس لنصوص أنتجت في أزمنة مختلفة وفضاءات جيوسياسية أشد إختلافا. لذلك فان الداعين لهدم الدولة عليهم إقناع الراي العام بوجود بديل أفضل منها وجاهز للتركيب الآن في أثناء قصف مسيرات الغزاة لحيواتنا وبنانا التحتية.
– حسب تقديري هذا البديل للدولة لا يوجد حاليا في أكثر الدول تطورا في أوروبا وأمريكا واسيا دع عنك في عرصات رجل أفريقيا المريض. لذلك فان تدمير الدولة السودانية حاليا لن يقود إلي فردوس أناركي أو شبه أناركي تزدهر فيه العدالة والحريات. تدمير الدولة السودانية يعني عمليا تصفية نهائية للسودان ككيان إجتماعي، ثقافي ولن ينعم أحد بفردوس ما بعد الدولة ولكن سينتقل جميع أهل السودان للعيش كأقنان في كنف دول إستعمارية أخري ونكون فقط قد استبدلنا دولة السودان بدول أخري أشد بطشا واكثر غربة. وفي المساحات من السودان التي تعافها الدول الإستعمارية إلي حين سيخضع المواطن لحكم عصابات لا تختلف كثيرا عن عصابات الجنجويد ولن يعيش في فردوس أناركي. لذلك فان الدعوة لتدمير الدولة والجيش الآن تعني الدعوة لتصفية السودان ككيان/ات إجتماعية مستقلة وهذا حد بعيد من كراهية الذات وكراهية السودان.
– في أدبيات اليسار لا أعلم بنصوص تدعو شعب لحل دولته وحده بينما الدول الإستعمارية والطامعة حوله تحافظ وتنمي من مقدراتها العسكرية ومن قدراتها التقنية علي إخضاع الآخرين. حل الدولة أو حل الجيوش في السياق التاريخي الصحيح يكون باتفاق دولي تقوم فيه جميع الدول في نفس الوقت بتصغير جيوشها ثم حلها في إطار تعاون دولي عميق وواسع. لذلك فان دعوة دولة لحل مؤسساتها وجيشها بينما الدول الأخري تحافظ علي هذه الأدوات هي دعوة للإنتحار وعزومة مجانية للغزاة والمغتصبين وتبرع مجاني بالوطن للأجنبى. وهذه هدية يسارية للاستعمار وهي عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
– جوان روبنسون عالمة إقتصاد بحت رفيعة بقامة كينز أو أعلي كانت في هيئة التدريس في جامعة كامبريدج. يقال أن جائزة نوبل تجاهلتها لانها كانت متهمة بالماركسية وكانت من أنصار ماو المتحمسين له. ويجادل البعض أن غياب جوان عن قائمة شرف نوبل فضيحة للجائزة. وبالنظر للتنمية المذهلة في الصين الآن، ربما كان علي لجنة نوبل أن توقظ جوان من الموت وتمنحها الجائزة مرتين.
– ينسب لجوان قولها أن من أفظع الأشياء للعامل أن يستغله صاحب عمل راسمالي ويحلب عرقه قيمة زائدة. ولكن أسوأ من ذلك ألا يجد العامل راسمالي يستغله. هكذا الدولة السودانية. فظيعة جدا ولكن النقطة الأهم هي أن غيابها أفظع. وهذه هي نقطة عمي أعداء الدولة السودانية إذ هم يرون فظاعتها ومن ثم يقفزون إلي إستنتاج متعجل بضرورة تدميرها الآن بينما المنطق يقول أن تدميرها سيقود إلي واقع أكثر جحيمية. وإلي بزوغ شمس مجتمع آخر، علي العامل أن يجد راسمالي يستغله حتي لا يجوع تحت شعارات ثورية براقة. وإلي أن تتوفر شروط الإنتقال لتنظيم إجتماعي أكثر عدالة وكفاءة الدولة بصلة نتنة في فمنا من يدعو لحلها يضع جمرة “حمراء، يسارية”، متقدة، مكانها. ولا أعتقد أن مضغ الجمر حل مناسب لمشكلة البصلة.