هل نحن مستعدون للتدمير الخَلّاق الذي سيجلبه الذكاء الاصطناعي؟
تاريخ النشر: 14th, April 2024 GMT
يشهد مفهوم «الين واليانج» الصيني القديم على ميل البشر إلى رؤية أنماط من الأضداد المتشابكة في العالم من حولنا، وهو الميل الذي أفسح المجال لنظريات مختلفة حول الدورات الطبيعية في الظواهر الاجتماعية والاقتصادية. وكما رأى الفيلسوف العربي العظيم ابن خلدون في العصور الوسطى مسار انهيار الإمبراطورية في نهاية المطاف مطبوعا في صعودها، افترض رجل الاقتصاد من القرن العشرين نيكولاي كوندراتيف أن الاقتصاد العالمي الحديث يتحرك في دورات فائقة من «الموجات الطويلة».
ولكن لم تحظ أي نظرية بمثل هذا القدر من الشعبية الذي حظيت به تلك النظرية -التي تعود إلى كارل ماركس- التي تربط تدمير مجموعة واحدة من العلاقات الإنتاجية بخلق مجموعة أخرى. في عام 1913، لاحظ الاقتصادي الألماني فيرنر سومبارت أن «من الدمار تنشأ روح خَـلّاقة جديدة». وكان رجل الاقتصاد النمساوي جوزيف شومبيتر هو الذي عمل على نشر وتوسيع نطاق حجة مفادها أن الإبداعات الجديدة تحل دوما محل التكنولوجيات التي كانت مهيمنة في السابق وتطيح بعمالقة الصناعة الأقدم عهدا. بنى كثيرون من علماء الاجتماع على فكرة «التدمير الـخَـلّاق» التي أتى بها شومبيتر لشرح عملية الإبداع والعواقب الأعرض المترتبة عليها. كما حددت هذه التحليلات التوترات الكامنة في هذا المفهوم. على سبيل المثال، هل يُـفضي التدمير إلى الخلق، أو أن التدمير نتاج ثانوي حتمي لعملية الخلق؟ والسؤال الأعظم صِـلة بمقصدنا هو هل كل الدمار حتمي لا مفر منه؟ في الاقتصاد، شكلت أفكار شومبيتر حجر الأساس لنظرية النمو الاقتصادي، ودورة المنتج، والتجارة الدولية. لكن تطورين مترابطين عملا على الدفع بمفهوم التدمير الخلاق بقوة إلى مستوى أعلى على مدار العقود العديدة الأخيرة. الأول كان النجاح الهائل الذي حققه كتاب كلايتون كريستنسن الأستاذ في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد عام 1997 بعنوان «معضلة الـمُـبـدِع»، والذي قدم فكرة «الإبداع الـمُـعَـطِّـل للقديم». تأتي الإبداعات الـمُـعَـطِّـلة للأفكار القديمة من شركات جديدة تلاحق نماذج أعمال اعتبرتها الشركات القائمة غير جذابة، وذلك غالبا لأنها تجتذب فقط الطرف الأدنى من السوق. وبما أن الشركات القائمة تميل إلى البقاء على التزامها بنماذج أعمالها، فإنها تفوت «الموجة العظيمة التالية» من التكنولوجيا. كان التطور الثاني متمثلا في صعود وادي السيليكون، حيث جعل رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا من «تعطيل القديم» استراتيجية واضحة منذ البداية. فقد شرعت شركة جوجل في تعطيل الأسلوب القديم في البحث على الإنترنت، وبدأت شركة أمازون في تعطيل الأساليب القديمة في بيع الكتب، وأعقبت ذلك بتعطيل القديم في أغلب مجالات البيع بالتجزئة الأخرى. ثم جاء موقع فيسبوك بشعاره «تحرك بسرعة وحطم الأشياء». لقد غيرت وسائط التواصل الاجتماعي بضربة واحدة علاقاتنا الاجتماعية والكيفية التي نتواصل بها، فجسدت كلا من التدمير الخلاق وتعطيل القديم في الوقت ذاته. تكمن الجاذبية الفكرية التي تتمتع بها هذه النظريات في تحويل الدمار والتعطيل من تكاليف واضحة إلى فوائد جلية. ولكن في حين أدرك شومبيتر أن عملية التدمير مؤلمة وربما خطيرة، فإن المبدعين المعطلين اليوم لا يرون سوى مكاسب لكل الأطراف. وعلى هذا فقد كتب المستثمر الرأسمالي المجازف والخبير التكنولوجي مارك أندرسن: «إن نمو الإنتاجية، المدعوم بالتكنولوجيا، هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، ونمو الأجور، وخلق صناعات جديدة ووظائف جديدة، مع تحرر الناس ورأس المال على نحو مستمر للقيام بأشياء أكثر أهمية وقيمة مقارنة بأي وقت في الماضي».
والآن بعد أن تجاوزت الآمال المعلقة على الذكاء الاصطناعي حتى تلك التي كانت معلقة على فيسبوك في أيامها الأولى، فإننا نُـحـسِـن صُـنعا بإعادة تقييم هذه الأفكار. من الواضح أن الإبداع يكون في بعض الأحيان مُـعَـطِّـلا للقديم بطبيعته، وقد تكون عملية الإبداع مدمرة بذات القدر الذي تصوره شومبيتر. وينبئنا التاريخ بأن مقاومة التدمير الـخَـلّاق بعناد تؤدي إلى الركود الاقتصادي. لكن هذا لا يعني أن التدمير يجب أن يكون موضوع احتفال. بل ينبغي لنا أن ننظر إليه باعتباره تكلفة يمكن خفضها في بعض الأحيان، وخاصة من خلال بناء مؤسسات أفضل لمساعدة الخاسرين، وأحيانا من خلال إدارة عملية التغير التكنولوجي.
لنتأمل هنا قضية العولمة. في حين تخلق العولمة فوائد اقتصادية مهمة، فإنها تدمر أيضا الشركات والوظائف وسبل العيش. وإذا كانت غريزتنا هي أن نحتفل بهذه التكاليف، فقد لا يخطر ببالنا أن نحاول تخفيفها. ومع ذلك، بوسعنا أن نفعل الكثير لمساعدة الشركات المتضررة (والتي يمكنها الاستثمار في التفرع إلى مناطق جديدة)، ومساعدة العمال الذين يخسرون وظائفهم (من خلال إعادة التدريب وشبكة الأمان)، ودعم المجتمعات المنكوبة. كان الفشل في إدراك هذه الفروق الدقيقة سببا في فتح الباب أمام التدمير الـخَـلّاق المفرط وتعطيل القديم الذي فرضه علينا وادي السيليكون خلال العقود القليلة الأخيرة. وبالنظر إلى المستقبل، ينبغي لثلاثة مبادئ أن توجه نهجنا في التعامل مع مثل هذه التطورات، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي. أولا، كما هي الحال مع العولمة، تشكل مساعدة المتضررين أهمية قصوى، ولا ينبغي لها أن تكون فكرة لاحقة. ثانيا، لا ينبغي لنا أن نفترض أن تعطيل القديم أمر لا مفر منه. وكما زعمت سابقا، لا ينبغي للذكاء الاصطناعي أن يؤدي إلى تدمير الوظائف على نطاق ضخم. إذا لم يضع من يتولون تصميم الذكاء الاصطناعي ونشره في حسبانهم سوى التشغيل الآلي (كما يرغب كثيرون من أباطرة وادي السيليكون)، فإن هذه التكنولوجيا لن تؤدي إلا إلى خلق المزيد من البؤس للعاملين.
لكنها قد تتخذ مسارات بديلة أكثر جاذبية. ذلك أن الذكاء الاصطناعي يتمتع بإمكانات هائلة عندما يتعلق الأمر بجعل العمال أكثر إنتاجية، مثل تزويدهم بمعلومات أفضل وتجهيزهم لأداء مهمات أكثر تعقيدا. لا يجوز لنا أن نسمح لرغبة التدمير الخلاق بأن تعمينا عن هذه السيناريوهات الواعدة، أو عن المسار المشوه الذي نسلكه حاليا. وإذا لم توجه السوق الطاقة الإبداعية في اتجاه مفيد اجتماعيا، فمن الممكن أن تفعل السياسة العامة والعمليات الديمقراطية الكثير لإعادة توجيهها.
وكما قدمت بلدان عديدة بالفعل إعانات دعم لتشجيع الإبداع في مجال الطاقة المتجددة، فمن الممكن بذل مزيد من الجهد للتخفيف من الأضرار التي يجلبها الذكاء الاصطناعي وغيره من التكنولوجيات الرقمية. ثالثا، يتعين علينا أن نتذكر أن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القائمة شديدة التعقيد. وعندما تتعطل فقد يترتب على ذلك جميع أشكال العواقب غير المتوقعة.
لم تحاول شركة فيسبوك وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي تسميم خطابنا العام بالتطرف، والمعلومات المضللة، والإدمان. لكنها في اندفاعها لتعطيل الكيفية التي نتواصل بها، اتبعت مبدأها الخاص المتمثل في التحرك بسرعة ثم طلب المغفرة. يتعين علينا بصورة عاجلة أن نولي الطريقة التي قد تؤثر بها الموجة التالية من الإبداع المعطل للقديم على مؤسساتنا الاجتماعية والديمقراطية والمدنية أعظم قدر من الاهتمام. إن تحقيق أقصى قدر من الاستفادة من التدمير الخلاق يتطلب إيجاد التوازن اللائق بين السياسات العامة الداعمة للإبداع والمدخلات الديمقراطية. وإذا تركنا أمر حماية مؤسساتنا لرواد الأعمال في مجال التكنولوجيا، فإننا بهذا نخاطر بإحداث قدر من الدمار أكبر كثيرا مما كنا نتمنى.
دارون عاصم أوغلو أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو مؤلف مشارك (مع جيمس أ. روبنسون) لكتاب «لماذا تفشل الأمم: أصول القوة والازدهار والفقر».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
"كونغرس الإعلام" يستعرض دور الذكاء الاصطناعي في الارتقاء بالصحافة
تناولت جلسة نقاشية بعنوان "ما الذي يؤرقك ليلًا؟" ضمن فعاليات اليوم الأول من الكونغرس العالمي للإعلام 2024 القضايا الأساسية التي تحرك عالم وسائل الإعلام اليوم بدءًا من التحديات التي تواجهها الصحافة ومصداقية وسائل الإعلام والتحول الرقمي، وصولًا إلى تحديات الأمن العالمي والقيادة الحضرية والمعضلات الأخلاقية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
وأدار الجلسة محمد العتيبة، رئيس التحرير السابق لصحيفة "ذا ناشيونال" بمشاركة مينا العريبي، رئيس تحرير صحيفة ذا ناشيونال وألكسندرو جيبوي، الأمين العام للاتحاد الأوروبي لوكالات الأنباء ولودوفيك بليشر، المدير التنفيذي، آيدياشن. واستكشفت الجلسة النقاشية أهم القضايا التي تواجه قطاع الإعلام ومنها تراجع ثقة الجمهور، وتحديات الصحافة، ودور الذكاء الاصطناعي، والعلاقة دائمة التطور بين الإعلام التقليدي والمنصات الرقمية وتناول النقاش تحوّلات المشهد الإعلامي، حيث قدّم المتحدثون رؤاهم حول التحديات والفرص التي يولدها ذلك التحول.انفصال متنام وأبرز ألكسندرو غيبوي الانفصال المتنامي بين الجمهور والإعلام التقليدي، المدفوع بتراجع الثقة وانخفاض مستويات الإلمام بالإعلام.
وأشار إلى الصعوبات التي تواجه قطاعاً عريضاً من الجمهور في تحديد المصادر الموثوقة، ما يساهم في التأثير المتصاعد لمنصات مثل تيك توك في تشكيل الأحداث الكبرى، ومنها الانتخابات.
ودعا غيبوي المؤسسات الإعلامية إلى الابتكار للتفاعل مع الجمهور الأصغر سناً وتحسين الفهم العام للأخبار، مشيراً لدور أدوات الذكاء الاصطناعي، بما يضم الملخصات الآلية والصوت المولّد بالذكاء الاصطناعي كأمثلة على تكيف وكالات الأنباء مع التغيير.
وناقش لودوفيك بليشر ظاهرة تجنب الأخبار، حيث يتجنب 40% من الجمهور الأخبار بسبب سلبيتها، وانتشار نقص الثقة في الصحافة، لافتاً إلى أن تقصي الحقائق وحده لم يؤدِ إلى إعادة بناء ثقة الجمهور، داعياً للمزيد من الشفافية والتعاطف لإعادة بناء العلاقة مع الجمهور.
وأيد بليشر استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة تدعم وتعزز الصحافة دون استبدال المساهمة البشرية، والقى الضوء على التحديات التي تواجه غرف الأخبار الصغيرة في تبني التكنولوجيا الجديدة. تقنيات التزييف وركزت مينا العريبي على بروز تقنيات التزييف العميق، التي تصاعدت بنسبة 900% في عام واحد وغالباً ما تُستخدم في نشر المعلومات المضللة.
وأعربت عن قلقها إزاء ارتفاع تكلفة التكنولوجيا المتقدمة، مما يحد من قدرة وسائل الإعلام الصغيرة على المنافسة وتقديم محتوى عالي الجودة، مشددة على ضرورة الشفافية وسلامة الصحفيين ووضوح القوانين لإعادة بناء الثقة مع إبراز أهمية التفريق بين الصحافة الموثوقة والمحتوى الترفيهي.
واختتم النقاش بتدارس الحلول المحتملة والطريق نحو المستقبل، وأجمع المتحدثون على ضرورة التعاون بين المؤسسات الإعلامية ومطوري التكنولوجيا والهيئات القانونية لإعادة بناء ثقة الجمهور.