في عصر يتسم بتطور التكنولوجيا وتغيرات الثقافة العالمية، ظهرت كوريا الجنوبية كقوة اقتصادية عالمية تتصدر صناعة المحتوى بتنوعها وابتكاراتها، ويتجلى هذا بوضوح في النهضة الاقتصادية الضخمة التي عاشتها البلاد في السنوات الأخيرة، حيث شهدت الصادرات والواردات في قطاع صناعة المحتوى ارتفاعًا لافتًا إلى مستويات قياسية، وتفوقت هذه الصناعة على صادرات الأجهزة المنزلية والبطاريات الثانوية ولوحات العرض والمركبات الكهربائية، وذلك بعد التطور الاستثنائي الذي شهدته والنجاح الهائل الذي حققته في هذا المجال.

وأكدت دراسة بحثية لعام 2022 حول صناعة المحتوى الثقافي أعدتها وزارة الثقافة والرياضة والسياحة في كوريا الجنوبية، أن صادرات صناعة المحتوى سجلت أرقامًا قياسية تتجاوز 13 مليار دولار في العام 2022، مما يعكس زيادة بنسبة 6.3٪ مقارنة بالعام السابق 2021م، وتشمل هذه الصناعة مجموعة واسعة من الأنشطة مثل النشر، والموسيقى، وألعاب الفيديو، والبث، والأفلام، والرسوم المتحركة.

ويساعد التنوع الثقافي في المحتوى الكوري، في جذب جمهور عالمي يرى تمثيلًا لمختلف الثقافات والهويات في الأعمال الفنية والترفيهية الكورية، وتركت ثقافة البوب تأثيرًا كبيرًا على المستوى العالمي، بما في ذلك الظهور المتزايد للموسيقى الكورية (K-pop)، والدراما التلفزيونية الكورية (K-dramas)، والأفلام الكورية، وأصبحت هذه العناصر جزءًا من حياة الملايين حول العالم بعد نجاح الدولة في استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتطوير وتوزيع المحتوى والتوسع في الأسواق الخارجية.

وتعمل الحكومة الكورية على دعم صناعة المحتوى من خلال التشريعات الداعمة والاستثمار في التعليم والبحث والتطوير، مما يعزز من جاذبية القطاع للمستثمرين ويسهم في تطوير التكنولوجيا والابتكار في هذا المجال. وعلاوة على ذلك، يواجه قطاع صناعة المحتوى تحديات مثل التنافس الشرس وحماية حقوق الملكية الفكرية، لكنه يستفيد أيضًا من فرص مثل التوسع في الأسواق الخارجية واستخدام التقنيات الجديدة في عالم الإنترنت.

وأكد تقرير صادر عن بنك التصدير والاستيراد الكوري أن صناعة المحتوى أصبحت بالفعل قطاعًا رئيسيًا لصادرات البلاد، وتفوقت صادراتها على الأجهزة المنزلية والبطاريات الثانوية والمركبات الكهربائية، ولوحات العرض ومستحضرات التجميل.

وأعلنت وزارة الثقافة الكورية في يناير من العام 2023، عن برنامج لرعاية عشرة آلاف محترف لديهم القدرة على إنشاء محتوى باستخدام تقنيات جديدة في إطار خطة العمل الشاملة لتمويل المحتوى والاستثمار في المحتوى الثقافي الكوري ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم والشركات الناشئة والمجموعات الاستثمارية العاملة في صناعة المحتوى.

وتشهد صادرات صناعة المحتوى الكوري زيادة مستمرة في أعمال المواقع الإلكترونية وألعاب الفيديو وصناعة الشخصيات والرسوم المتحركة ومعلومات المعرفة والإعلانات والموسيقى، وحقق المحتوى مشاهدات مليونية على منصات الصوت والفيديو، وفي أبريل 2024، أعلنت فرقة الفتيات "بلاك بينك" أن أغنية "آيس كريم" حققت أكثر من 900 مليون مشاهدة على اليوتيوب، وسجلت أعمال سابقة للفرقة 2 مليار مشاهدة، كما حققت إحدى أغنيات الفرقة مليار استماع على "سبوتيفاي"، وتجاوزت فيديوهات فرقة البوب الكورية "BTS" رقم المليار مشاهدة على "يوتيوب" في ألبوماتها الموسيقية وتمتلك عشرات الفيديوهات التي حققت رقم المائة مليون مشاهدة على منصات أخرى، وأكدت بيانات منصة "نتفليكس" أن الإنتاج الكوري الجنوبي حقق نجاحًا لافتًا، حيث شاهد أكثر من 60% من مستخدميها إنتاجًا كوريًا واحدًا على الأقل، سواء المسلسلات الدرامية أو برامج تلفزيون الواقع.

وباعتبارها واحدة من الدول الرائدة في مجال صناعة المحتوى، يُتوقع أن تواصل كوريا الجنوبية تحقيق النجاحات والإنجازات في هذا القطاع خلال السنوات المقبلة، مما يجعلها محورًا لجذب الاستثمارات وتعزيز التنمية المستدامة، وتنظر العديد من الدول إلى تجربة كوريا الجنوبية الرائدة في صناعة المحتوى، للاستفادة منها في تطوير بنية تحتية قوية لدعم صناعة المحتوى، بما في ذلك توفير التشريعات الداعمة والاستثمار في التعليم والبحث والتطوير في هذا القطاع، ورعاية المواهب الإبداعية والفنية، وتشجيع الشباب على اكتشاف مواهبهم في مجالات مثل الأفلام والموسيقى والألعاب الإلكترونية، وتعزيز التعاون بين القطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية لتعزيز صناعة المحتوى وتحقيق نجاحات تسهم في تحقيق نهضة اقتصادية مستدامة.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: کوریا الجنوبیة صناعة المحتوى المحتوى ا فی هذا

إقرأ أيضاً:

كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!

••هل تنهض المجتمعات لخصائص ثقافية متأصلة فيها أم يعود الأمر لسبب آخر؟ إن هذا السؤال يحتل موقعاً مركزياً في البحوث الاجتماعية المعاصرة، ويراد به فحص الجدل الدائر حول أسباب النهضة والتقدم الاجتماعي، ولعل طرحه يعود لفترة أقدم حين اطمئن علماء الأنثروبولوجيا إلى فرضية علاقة القيم الثقافية بقضية النهضة في الحياة الاجتماعية من مناحيها كافة، فالبعض منهم وضع شرطاً أساسياً لتركيز عمليات النهضة، وهو تحصيل التعليم وبناء المؤسسات، ولكن أكبر انعطافة هددت وثوقيات الاجتماعيين حول دور القيم الثقافية واعتبارها المرتكز الأساس في نهضة الشعوب، كانت على يد جاك غودي (توفي 2015م) الأنثربولوجي الإنجليزي والمحاضر الأشهر في جامعة كمبريدج، وغودي ومنذ الستينيات حين أصدر كتابه «محو الأمية في المجتمعات التقليدية «1968م» استطاع هدم الأساس الذي تقوم عليه المركزية الأوروبية ابتداءً من عصر النهضة وحتى الآن، وهي فرضة تشدد على أن ثمة خصائص «أوروبية بالطبع» موروثة من الحضارات اليونانية واللاتينية ثم من الأديان يهودية ومسيحية كلها هي التي مكَّنت لهذا الغرب من إنجاز عمليات النهضة، وما أعاق هذه العمليات في المجتمعات الأخرى هو فقدانها هذه الخبرة الثقافية المستندة إلى العقلانية والتي تنتشي فيها روحانية الشرق، وبذا فإن العالم الغربي تقدم لأنه صنع تاريخاً علمياً تسنده قيم ثقافية مكتسبة من سياق معرفي خاص، هو سياق الذات الغربية من اليونان وحتى عصر التنوير لينتج نهضةً ثقافية شاملة، أما غودي فإنه يقف على النقيض من ذلك تماماً، ويرى أن هذه السردية معرضة دائماً إلى التزوير وطغيان الأنا أكثر منها حقيقة اجتماعية، ليقول في تحليله أن تقدم جزء من العالم في الوقت الذي يتزامن معه ركود في أجزاء أخرى لا يعود إلى الخصائص الثقافية المتأصلة في طرف وغائبة في آخر، بل إن مسألة التقدم خاضعة وباستمرار لديناميكيات يمكنها أن تتوفر وفق عمليات مستمرة من التحديث الذاتي.

•وغودي نشر في العام 2007م كتابه «سرقة التاريخ» وهو بيان متماسك عن الكيفية التي استطاعت بها أوروبا أن تنسب لنفسها تراثاً علمياً لا يخصها بالدرجة الأولى، بل الأمر يشبه «السرقة» وأنها بموجب هذا التراث المركب بعنف التدوين بنت عليه قيماً إنسانية، قالت أنها أوروبية، أوروبية فقط، ويشير غودي إلى أن هذه المركزية أجبرت بقية العالم على ارتداء أقنعة تفكير لا تبصر معالم للتقدم إلا من وجهة نظر غربية في الأساس، واستمراراً في مشروعه صدر كتابه «الشرق في الغرب» والذي يعد نظرية في فضح الإدعاء الغربي بامتلاك العالم وصناعته بل وصياغة قيمه بشكل أحادي ومطلق، وقد صدر هذا الكتاب في نسخته العربية بترجمة محمد الخولي، والحقيقة أنه لا عذر لمن يشتغلون في المسألة الاجتماعية متخصصون ومهتمون من الإطلاع عليه ودراسته ونقده، وذلك للفائدة العظمى، ليس فقط كونه يفضح عمليات التنهيب التي مارستها أوروبا على العالم، وكيف صنعت أقانيم خالدة تحط من قدر كل ما هو غير أوروبي، بل الفائدة الأكبر تعود إلى كونه منجز محكم التأسيس قوي الحجة، ولدقة أحكامه فإنه يطرح التساؤل حول، متى أصبح الأوروبيون على وعي بتفوقهم بالنسبة إلى سائر الأمم؟» وفي إجابته عن هذا السؤال يقدم لنا مادة تحليلية عميقة وذات تكوين متسق يفسر بها بعض المقولات التي صنعت هذا التمايز، بل ويقوم بتفكيكها بشكل منهجي عظيم. ويستمر الرجل في هدم التصورات الأوروبية حول مركزية الغرب ضد الشرق، ويرى أن حضارات أوروبا وآسيا نشأتا من أصل واحد، بل ويرى في منجزات الفكر السياسي الأوروبي المرتبط بتطور ظاهرته الاجتماعية كونها استندت على ترسانة فكرية هي أسس عمليات التطور الاقتصادي، فإنه يرى من ضمن مقولاته الهادمة لخديعة الغرب بأن الديموقراطية ليست صناعة غربية، فهو يرى أنه إذا كان القرن الخامس عشر هو بدايات هيمنة أوروبا على العالم، وهي هيمنة أفصحت عن نفسها بمقولة رئيسة وهي أن الشرق المتخلف يحتاج إلى النهضة، والتي لن تتم إلا على يد الغرب، فإن وسم الشرق بالتخلف لا يعدو إلا عملية احتيال ممتازة العرض، فالصين ظلت البلد الأقوى في صناعة البارود منذ زمن بعيد، وهي الصناعة التي مكنت لأوروبا التوسع وغزو العالم، ولولا البارود الصيني لما استطاعت القيام بهذا الكم من عمليات الغزو لعدد من البلدان، وهو هنا يشتبه بقوة في رواية التقدم الغربية تلك التي صنعت لنفسها مساراً خطياً يبدأ من بترارك «فرانشيسكو، أحد أعمدة التفكير الإنساني في عصر النهضة» وحتى ديكارت صاحب نظرية الشك وقواعد المنهج، ويرى الأمر مجرد خدعة، فكونها «أوروبا» اعتمدت في نهضتها على بناء أسطوريتها القومية، هي تلك التي استعادت اليوناني وأدمجته في ذاتها الاجتماعية لتقول بثبات عمليات النسب الحضاري فيها، والرجل محق فالأمر ليس إبداعاً أوروبياً فالحقيقة أن عمليات استثمار الماضي هي دينامية مستقرة في أي بناء اجتماعي متحرك.

•لقد تركز نقد غودي على «عصر النهضة» أو بالأدق على الجانب المظلم في هذه السردية، وأن الأمر ليس كما تعرضه المركزية الغربية وهي تبشر بحداثتها إبان عصر التنوير، وأنه لا صحة لهذه السردية القائلة بتواصل عمليات الانتقال الحضاري منذ اليونان وحتى إيطاليا النهضة، بل يرى أنها فترات عاشت فيها الذات الحضارية الأوروبية انقطاعاتها الكبرى، فسقوط الإمبراطورية الرومانية، وبدأ اعتناق شعوبها المسيحية، ثم ظهور عهد الإقطاع وما تلاه من تطور في الاقتصاد السياسي فإنه لا يمكن والحال كذلك أن نطمئن لوجود منظومة قيم ثقافية هي سبيل لأوروبا للحصول على التفوق الحضاري دون غيرها من الأمم..

•إن جملة المناقشات حول الغرب والشرق ظلت خامدة ودون تأثير إلى أن قام جاك غودي وبفضل قدراته استخدام مناهج التحليل التاريخية والتجريبية والمقارنة في علم الاجتماع من فتح مسارات جديدة لفهم هذه العلاقة، نعم هو يريد الذات الغربية محل للدرس، وليس الآخر، فالآخر يظل انعكاس لعمليات التحليل عنده، ولذا فإن سجالات النهضة العربية لن تفلح في بناء حقائقها دون الوقوف الجاد على جدل النهضة والتقدم في الكتابة الغربية، وغودي هو أحد أهم الأمثلة المنتجة لفهم جديد في سياق علاقات الغرب والشرق، بل إن حتى الفضاء السياسي الذي يصر على احتقاب نظرة متعالية ضد كل ما هو شرق، وبالتالي عربي هو الآخر فضاء يقوم على بنية معرفية أهم ملامحها الخديعة بوجود تفوق وامتياز غربي مطلق كونه عقلاني النزعة، ضد تخبط وتراجع مستمر لشرق عاطفي التوجه، والدعوة هنا أن نبنى فضاءً تداولياً بين المعرفي في الغرب والشرق، لا أن نكتفي بالصدى دون فهم حقيقي لجذور الوعي الغربي، حينها فقط ستكون أشغالنا مستقلة وليست مجرد ردود أفعال مكتومة.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

مقالات مشابهة

  • الرئيس السيسي يشيد بجهود القوات المسلحة ودورها في دعم ركائز الأمن القومي
  • النائب مشوقة يسأل عن ظاهرة تعيين وزراء سابقين في مواقع استشارية
  • غرفة صناعة الأثاث: الاعتماد على المطورين من الركائز الأساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية
  • غرفة صناعة الأخشاب: المطور الصناعي يمثل شراكة ناجحة بين القطاع الخاص والحكومة
  • أكاديمية واس للتدريب الإخباري تنظم لقاء تشاوري للعمل الحر في صناعة المحتوى الإخباري
  • انخفاض الاستثمار المباشر الخارجي لكوريا الجنوبية للعام الثاني
  • أغنية الجواز لـ شاهيناز تكتسح السوشيال ميديا بـ 8 ملايين مشاهدة
  • بين دفتين كتاب حكايات شعبية كورية.. نافذة على التراث والثقافة الكورية
  • كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!
  • طائرات عسكرية روسية تدخل منطقة الدفاع الجوي الكورية الجنوبية