على الرغم من مرور عشرة أعوام على رحيل الروائى العالمى الفذ جابرييل جارسيا ماركيز، إلا أن رواياته مازالت حاضرة بقوة فى وجدان الناس وعقولهم.
رحل ماركيز فى 17 أبريل 2014، ومع ذلك لا أظن أن الإبداع العربى فى مجمله عرف روائيًا أجنبيًا زلزل بنيانه الراسخ أكثر من ماركيز، هذا الروائى الكولومبى الذى قطف جائزة نوبل للآداب عام 1982، (كان عمره آنذاك 55 عامًا فقط)، فلما ترجمت أعماله إلى اللغة العربية، أقبل عليها القراء بشغف لا مثيل له.
لأن الرجل شق نهرًا جديدًا فى أرض الرواية بعد أن كادت تبور، فأزهرت وأثمرت، فاكتشف كل من الكاتب والقارئ أن الإبداع مازال عفيًا، وأن فنون القص مازالت خصبة، وأن الإنسان الموهوب قادر على ابتكار حكايات وروايات تشرح الصدر وتثير الأسئلة وتمتع الوجدان.
يتكئ إبداع ماركيز على عدة عوامل جعلته يصل إلى مستوى غير مسبوق فى فن الرواية من حيث إحكام العمل وإتقانه وروعته، من أبرز هذه العوامل: قدرته الخارقة على تخليق سبيكة روائية يمتزج فيها بمهارة عجيبة الخيال الموفور مع الواقع اليومى، بحيث يصعب على القارئ تحديد من أين يبدأ الخيال ومتى ينتهى الواقع؟ فكل منهما يتضافر بإعجاز مع الآخر.
كما أن الرجل ينحاز فى رواياته إلى العدل وينفر من الظلم والقهر والضيم، أما الديكتاتورية فيفضحها بسخرية مريرة ويندد بجرائمها بشكل فنى جميل. ولا تنس أن أمريكا الجنوبية تعرضت فى زمن ماركيز لمجموعات بائسة من الحكام المستبدين.
ترك لنا ماركيز مجموعة من الروايات المذهلة، فضلا عن عدد مدهش من القصص القصيرة، أذكر من هذه الروايات: (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه)، و(مائة عام من العزلة)، و(خريف البطريرك)، و(سرد أحداث موت معلن)، و(خبر اختطاف)، و(الحب فى زمن الكوليرا) وغيرها.
من حسن الطالع أن المقادير أهدتنا المترجم الفلسطينى العبقرى صالح علمانى الذى نقل لنا أعمال ماركيز من اللغة الأسبانية مباشرة، حيث هى اللغة التى أبدع بها الرجل رواياته الفاتنة. لقد أوتى هذا المترجم العظيم براعة لغوية جعلته يعرض علينا تلك الروايات بلغة فصحى بالغة الحلاوة والجمال. ومع ذلك علينا الحفاوة بالمترجم المصرى الكبير الدكتور سليمان العطار الذى ترجم برشاقة (مائة عام من العزلة)، كذلك المترجم المصرى المتفرد (عبدالمنعم سليم) الذى ترجم بجمال (سرد أحداث موت معلن)، ولا ننسى المترجم التونسى القدير محمد على اليوسفى الذى ترجم بذكاء (خريف البطريرك).
أذكر جيدًا أن (مائة عام من العزلة) رافتنى طويلا فى ليالى الخدمة العسكرية عام 1985، فاستحوذت على خيالى وأفكارى وأحلامى وأسعدتنى أيما سعادة فى تلك الأيام الخوالى.
أما (الحب فى زمن الكوليرا) فأظنها أفضل ما أنتج ماركيز، من حيث فرادة الفكرة وإحكام البناء وبراعة الخيال وعذوبة اللغة.
أجل... ماركيز... أبدع فأمتع وأثرى. إنه معجزة روائية عابرة للقرون.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ناصر عراق جابرييل جارسيا
إقرأ أيضاً:
رفعت عينى للسما
فى هذه الأيام الحالكة السواد، يتوق المرء إلى تلك اللحظات التى تحمله إلى الفرح والأمل والتوازن النفسى يصنع لنا مسارات التفاؤل بمستقبل، يعد بفيض ممتع من الفن الملهم الراقى. تملكتنى تلك اللحظات مع تتابع تترات النهاية للفيلم الوثائقى «رفعت عينى للسما» الذى يعرض الآن فى قاعات العرض، وقدم خلاله المخرجان «أيمن الأمير» و«ندى رياض» تجربة شديدة التفرد والخصوصية والإبداع، عملا من أجل إنجازها بلا كلل لأربعة أعوام، ليأتى فيلمهما حافلا بالصدق الفنى والرؤية الواعية التى تحملها رسائل تنطوى على الاحتفاء بمقاومة كافة عوامل التخلف الاجتماعى، الذى ترسخه تقاليد بالية تؤسس قواعد قهرها إلى الطرف الأضعف فى معادلة الهيئة الاجتماعية: المرأة.
ينطوى عنوان الفيلم على مضمونه: «رفعت عينى للسما» ليس استجداء أو ضعفا، كما هو المعنى المضمر الشائع لرفع العين إلى السماء، ولا قلة حيلة، بل أملا فى رحمة السماء الواسعة والممتدة، وشغفا بالأحلام والأخيلة التى تتشكل حين النظر إلى النجوم والكواكب فى أرجاء هذا الكون، وصولا لثقة بالنفس، تقود لرفع الرأس عاليا إلى السماء.
ويحكى الفيلم تجربة مجموعة فتيات موهوبات مفتونات بالفنون الإبداعية، ومسكونات بإيمان عميق بقدرة الفن على التأثير فى الواقع أو تغييره، من قرية البرشا - وهو اسم فرعونى للقرية ويعنى بالعربية مقاطعة الأرنب- إحدى قرى مركز ملوى بمحافظة المنيا، التى تقع شرق نهر النيل، حيث يجرى بجمال خلاب لا مثيل له، أحد أوسع فروع النهر، لتكوين «فرقة بانورما البرشا» لتقديم العروض المسرحية، فى شوارع القرية التى تعد نموذجا لكل قرى الصعيد. وبوعى تلقائى، أدركت فتيات البرشا أن الفن هو اللغة المشتركة التى يمكن للناس، أن يفهموا بها بعضهم البعض، برغم اختلاف ثقافتهم ومشاكلهم. فبدأن بتأسيس خشبة للمسرح للقيام بالتدريبات، وجلن شوارع القرية وهن يقرعن آلات إيقاعية، لتقديم مشاهد من عروضهن لأهلها.
أما المشاهد المسرحية، فهى تقدم نقدا لاذعا لما تتعرض له الفتيات من زواج قسرى، وتنمر تسلط ذكورى على مصائرها، داخل الأسرة والمجتمع. ولأنه نقد ينطوى على أهازيج غنائية، فهو يتحلى بالجاذبية والتسلية التى تنجح فى جذب انتباه أهالى القرية. ويعرج الفيلم لمصائر الفتيات أعضاء الفرقة حيث تتخلى إحداهن بالزواج عن حلمها أن تصبح مطربة مثل أصالة. وتستنيم أخرى لطلب خطيبها مغادرة الفرقة، برغم تشجيع أبيها لها على مواصلة حلمها كراقصة باليه وممثلة، وتتشبث ثالثة بحلمها وتقرر السفر للقاهرة لكى تلتحق بمعهد الفنون المسرحية، لكى تدرس فن التمثيل الذى عشقته.
ويأتى المشهد الختامى للفيلم مفعما بالإيحاءات البارعة. جيل جديد نشأ فى ظلال فرقة بانوراما البرشا، وتأثرا بها، متسلحا هذه المرة بما قد تعلمه من دروس نجاحها وإخفاقها، وشتاتها، يجوب أنحاء البرشا، وهو يقرع بشغف وهمة الطبول لإيقاظ الغافلين، ومواصلة الطريق الذى مهدته الفتيات، نحو الحرية والتحقق.
لم يكن غريبا أن يفوز الفيلم بجائزة العين الذهبية، للنقاد فى الأفلام التسجيلية فى مهرجان كان هذا العام، فقد مهد صدقه وتعبيره البسيط العفوى والمتقن عن واقع ريفى تقليدى، الطريق نحو هذا الفوز. فضلا عن التوظيف المتقن للغة والاستخدام الذكى للصورة، وللرموز الكنسية، والقرع المدوى للطبول، بما ينطوى عليه من معانى التحذير والتنبيه الإنذار، والسرد التلقائى والتجريبى لممثلين مبتدئين، وكلها أدوات تصوغ واقعا فنيا ينشد فيه الإنسان بالشجاعة والحرية مواجهة التهميش. ومثلما شيدت واقعية نجيب محفوظ الطريق نحو عالميته، فإن فيلم ندى رياض وأيمن الأمير «رفعت عينى للسما» يؤسس لسينما تسجيلية مصرية، تخطو بثبات نحو العالمية.