صفحة جديدة في كتاب الانقلابات في أفريقيا، يكتبها مجددا ضباط غاضبون في النيجر، بإسقاطهم للرئيس ذي الأصول العربية محمد بازوم، أو باعزوم كما يلقبه المقربون منه والعارفون به.

أصبح بازوم رئيسا سابقا ينضاف إلى لائحة طويلة من الحكام الذي مروا بالقصر الرئاسي في نيامي وأقاموا على أمل قطعته أحذية العسكر الخشنة، وحولته إلى ندوب في جسد النيجر، التي تقتات منها صحراء تسيطر على قرابة 70% من أراضي البلاد.

غير أن التصحر السياسي كان أكثر تأثيرا على تاريخ البلاد، التي نالت استقلالا رمزيا عن فرنسا سنة 1960، ضمن موجة من "الاستقلالات" الأفريقية، حيث تولى السلطة السياسي حماني ديوري لمدة تقارب 14 عاما، انتهت بانقلاب عسكري أطاح به، وأقام نظاما عسكريا بقيادة الضابط سيني كونتشي، الذي أقام هو الآخر حكما عسكريا صارما لمدة تقترب من 14 عاما، قبل أن يغادر الحياة في مستشفى بباريس عام 1987، ليخلفه العقيد علي سايبو، الذي أدار واحدة من أطول الفترات الانتقالية في العالم، انتهت سنة 1993 بانتخاب السياسي ماهامان عصمان رئيسا للبلاد، وذلك بعد اضطرابات كان الطوارق طرفا فيها.

غير أن الرجل لم ينعم طويلا بالحكم، حيث أطاح به انقلاب عسكري خلعه في 27 يناير/كانون الثاني 1996، بعد أقل من 3 سنوات من إدارته البلاد في ظرف اضطراري صعب، حيث استولى على السلطة العقيد إبراهيم باري مايناسارا، الذي حاول ترسيخ أركان حكمه وأعلن فوزه في الانتخابات الرئاسية قبل أن يسقط برصاص أحد جنود العقيد داودا مالام وانكي في كمين بمطار العاصمة نيامي في 9 أبريل/نيسان 1999.

ولم تطل فترة وانكي في الحكم إذ استمرت شهورا فقط، سلّم بعدها الحكم للرئيس مامادو تانغا الذي حكم 10 سنوات، وحاول السعي إلى ولاية ثالثة قبل أن تنتهي أحلامه في 2010 بانقلاب عسكري، بقيادة العقيد سالو جيبو الذي حكم البلاد سنة وبضعة أيام، عبر مجلس عسكري سماه "المجلس الأعلى لاستعادة الديمقراطية".

وكانت مهمة هذا المجلس هي تسيير مرحلة انتقالية تنتهي بتسليم السلطة إلى المدنيين، وهو ما تم بالفعل يوم 7 أبريل/نيسان 2011، التاريخ الذي تسلم فيه الرئيس محمدو إيسوفو السلطة، ليقود البلاد خلال ولايتين متتاليتين، قبل أن يغادر الحكم إثر انتخابات رئاسية حملت خليفته وصديقه محمد بازوم إلى السلطة.

ولم يكن بازوم أكثر حظا من سابقيه، بل ربما كان من أقلهم قدرة على البقاء، حينما وصل إلى رأس سلطة مضطربة في 2021، لينتهي حكمه هو الآخر في 26 يوليو/تموز 2023 بعد سنتين ونصف السنة في القصر الرئاسي بنيامي.

النيجر.. مخزن الطاقة الفرنسية

ينطق البؤس بجميع الألسنة المتحدثة في النيجر، حيث يسيطر الفقر على أغلب سكان البلاد، وتتقلص نسبة الوصول إلى الخدمات الأساسية من صحة وتعليم إلى حدود 15%.

ورغم سعي الرئيس المطاح به محمد بازوم إلى إحداث نقلة نوعية في التعليم فإن زناد العسكريين كان أسرع إلى إنهاء مشروعه، وسط حديث عن دور خارجي أحيانا، وعن صراعات ذات طبيعة عرقية محلية في الإطاحة بالرجل العربي الذي حكم في حالة استثنائية بلدا من أغلبية زنجية.

وفيما يتربع الفقر على ملامح السكان، فإن أرضهم تكتنز ثروات هائلة، كانت ولا تزال منذ أكثر من قرن مجال استنزاف من قوى خارجية من بينها -كما يقول بعض السياسيين والنشطاء النيجريين- فرنسا التي تزود نفسها من النيجر بما يمثل نحو ثلث حاجتها من اليورانيوم المستخدم في مفاعلاتها النووية.

ويمكن اعتبار النيجر البلد الرابع عالميا في تصدير اليورانيوم، الذي يشع بالطاقة في مدن العالم، بينما تلتحف مدائن النيجر الظلام والأزمات الاقتصادية.

وتحتل احتياطات النيجر من اليورانيوم المرتبة الأولى عالميا، وهي واحدة من أكبر 10 منتجين لهذا المعدن في العالم.

إسلام شامل وقوميات متصارعة

يمثل الإسلام الهوية الدينية لأكثر من 90% من النيجريين الذين يتوزعون إلى قوميات متعددة، لا تتبادل المودة والعلاقات الإيجابية في بعض الأحيان، ومن أهم هذه القوميات الهوسا التي ينتمي إليها أكثر من نصف السكان، ثم قوميات السونغاي والعرب والطوارق والفولان والكانوري.

وتمثل اللغة الفرنسية اللسان الرسمي للسياسة والتعليم في البلاد -التي تنتشر فيها الأمية بشكل كبير- وتتعدد لغات سكانها بتعدد القوميات والأعراق.

وقد تعايش السكان مع الجفاف الذي ضرب بلادهم بأزمات ماحقة خلال القرون الثلاثة الماضية، وترك في ذاكرة الأجيال يوميات مؤلمة من المجاعات التي تتكرر بين الحين والآخر.

وإلى جانب أزماتها الاقتصادية فإن النيجر تمثل مأوى لعشرات الآلاف من اللاجئين الفارين من مالي وتشاد، وغيرهما من البلدان الأفريقية المضطربة مما يضاعف من أزماتها المجتمعية.

هل تقاتل فرنسا عن آخر طبق في مائدتها الساحلية؟

يمكن اعتبار النيجر الطبق الأخير والأهم في مائدة فرنسا بمنطقة الساحل، فلا يمكن اعتبار هذه المنطقة مصدرا للطاقة الفرنسية فحسب؛ بقدر ما تمثل الملاذ الأخير للقوات الفرنسية المطاردة من دول الساحل، فقد آوت النيجر قرابة 1500 من الجنود الفرنسيين المطرودين من مالي لينضموا إلى آخرين يقيمون منذ عقود في القواعد الفرنسية بالبلاد، وفيما كان بازوم يستعد لاستقبال مئات آخرين من الجنود الفرنسيين المطرودين من بوركينافاسو، عاجله انقلاب أنهى مطامحه والآمال المعلقة عليه.

ولا تمثل النيجر قصة حب وأمل فرنسية خاصة بقدر ما تعني ذلك بالنسبة لقوى غربية متعددة، ترى في النيجر الفرصة الأخيرة للقضاء على الإرهاب، بفعل موقعها واستعداد رئيسها المطاح به محمد بازوم للخروج من "قلب إعصار الإرهاب" وفق تعبيره.

وسعى بازوم لإحداث تغييرات في الهيكلة العسكرية لبلاده، حيث أعلن عن إستراتيجية لرفع تعداد الجيش ورفع سن التقاعد، وتعبئة المتقاعدين من قوات الجيش والدرك لتشكيل قوة احتياطية للجيش المنهك.

وخلال السنتين الماضيتين كانت النيجر ميدانا لإرادات دولية متصارعة، وخصوصا بين محوري الغرب الذي تمثله فرنسا بشكل خاص والولايات المتحدة، ومحاور أخرى من بينها دول ساعية لزيادة نفوذها في أفريقيا، ولا يمكن إغفال دور روسيا ومرتزقتها فاغنر، التي وصف زعيمها يفغيني بريغوجين ما جرى في النيجر بأنه "كفاح ضد المستعمرين".

وبينما تتعقد الأوضاع في النيجر، وتفرض المتغيرات الجديدة إعادة ترتيب الإستراتيجيات الدولية تجاه هذا البلد الحبيس، يشرق يوم آخر على نيامي حاملا معه كثيرا من الحر والترقب والاضطراب، ومجددا قصة إخفاق سياسي أفريقي، يتداخل فيه فساد وعجز المدنيين وعنف العسكريين، وأصابع التدخل الدولي.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: محمد بازوم فی النیجر قبل أن

إقرأ أيضاً:

عيب.. ليسوا أولاد كلب!

صُدم الفلسطينيون وجميع المتابعين لما يجري في غزة بقول رئيس السلطة محمود عباس في شأن المقاومة ومقاتليها عندما وصفهم بـ"أولاد الكلب". هكذا دون تردد ولا حذر، ودون مراعاة لصمودهم وما يتعرضون له من قتل وفتك على أيدي الصهاينة. حدث ذلك علنا في خطابه الافتتاحي في المجلس المركزي الفلسطيني، وعلى الهواء مباشرة. ومهما حاول أنصاره التخفيف من وطأة الكلمة النابية ووقعها السيئ على السامعين، فإن الطامة وقعت، والرسالة وصلت لجميع الأطراف بمن في ذلك قادة العدو، الذين يعملون ليلا نهارا من أجل تصفية القضية وابتلاع الأرض وتهجير سكانها.

للقيادة خصائص وضوابط وأخلاق، والقائد الحقيقي يحترم أبناء شعبه، ويحافظ على كرامتهم، خاصة أمام عدوهم؛ لا يحقّرهم، ولا يهينهم، ولا يقلل من أهميتهم التاريخية حتى وإن اختلف معهم، أو مع جزء منهم؛ لأن في ذلك تصغيرا من شأنه، ودفعهم بالضرورة إلى احتقاره ومعاداته. لا يعني ذلك مجاراتهم وتأييدهم في كل ما يفعلونه ويقولونه، وإنما يخالفهم فيما يعتبره خطأ صريحا، ويواجههم بمواقفه دون تهور أو ابتذال. العنف اللفظي لا يختلف عن رفع السلاح واستعماله ضد المخالفين والخصوم.

لست من المداحين لياسر عرفات، ولكن فيما أعلم كان كثيرا الحرص على رفع معنويات الشعب الفلسطيني، ووصفه في مناسبات كثيرة بكونه "شعب الجبارين"، خاصة خلال المحن الكبرى التي تعرض لها. ولا أعلم أن الفلسطينيين عاشوا محنة أقسى من هذه التي يعيشونها اليوم، وكان يفترض أن يلقوا الدعم المعنوي والسياسي على الأقل من قادتهم، وليس السب واللعن من قبل رمز السلطة.

جاءت نتيجة أعمال "المجلس المركزي" هزيلة ودون تطلعات الفلسطينيين وآلامهم، هذا بشهادة معظم الفصائل التي قاطعت الاجتماع أو لم تُدع إليه. وبدل أن يكون انعقاد المجلس، الذي تأخر كثيرا، فرصة لرص الصفوف وتوحيدها تحت راية واحدة هي راية منظمة التحرير، حصل العكس تماما، حيث ازدادت الفرقة بين مكوناتها، وتعمقت الفجوة بين السلطة من جهة، ومختلف الأطراف الفاعلة، بما في ذلك جزء هام من الفتحاويين الغاضبين على الأسلوب الذي تدار به شؤون السلطة. وبدل أن يحصل تقدم نحو تعميق الحوار وبناء المصالحة الوطنية، تعمق الشك الداخلي، وانسحب المزيد من التنظيمات ذات الوزن، وكان آخر المنسحبين من اجتماع المجلس وفد الجبهة الديمقراطية؛ بحجة "غياب الحد الأدنى من قواعد الحوار حتى قبل انعقاد المجلس" على حد تعبير نائبة رئيس الجبهة.

السياق الراهن سياق خطير جدا يتعلق بمصير شعب مهدد في وجوده، ويتعرض للإبادة بطريقة فجة ومنهجية وعلى المباشر، وكان يُنتظر أن تكون منظمة التحرير الهيكل المناسب للتجميع والتعبئة والتوجيه والضغط، أما أن تتحول المنظمة إلى ساحة للصراع وتعميق والانقسام، وأن تصبح مجرد آلية للتحكم والتسلط، فهذا أمر مشين لا يليق بشعب مكافح وصامد
الفلسطينيون أعلم بشؤونهم، ولكن بما أن قضيتهم هي قضيتنا، وأن مصيرا مشتركا يجمعنا، فإن ما قيل خلال هذا الاجتماع الأخير استفز الكثيرين بشكل واسع.

كان من المهم إحداث منصب نائب لرئيس منظمة التحرير، خاصة وأن أبا مازن تقدم به السن بعد رئاسة للمنظمة استمرت حتى الآن ثلاثين عاما، لكن الاقتصار على هذا القرار اليتيم الذي انعقد من أجله المجلس المركزي بعد انتظار طويل، أمر لافت للنظر، فالظرف الحالي ليس عاديا حتى تتم مناقشة مسألة تنظيمية كان بالإمكان حسمها في سياق آخر، أو على الأقل لا يخصص لها كل وقت الاجتماع.

السياق الراهن سياق خطير جدا يتعلق بمصير شعب مهدد في وجوده، ويتعرض للإبادة بطريقة فجة ومنهجية وعلى المباشر، وكان يُنتظر أن تكون منظمة التحرير الهيكل المناسب للتجميع والتعبئة والتوجيه والضغط، أما أن تتحول المنظمة إلى ساحة للصراع وتعميق والانقسام، وأن تصبح مجرد آلية للتحكم والتسلط، فهذا أمر مشين لا يليق بشعب مكافح وصامد.

بهذه الطريقة وبهذا السلوك لا يمكن الاستجابة لأي طلب يقدم لحركة حماس ولجميع فصائل المقاومة، لقد طلب منها أبو مازن تسليم الرهائن الإسرائيليين دفعة واحدة بدون مفاوضات وبدون مقابل، كما طلب منها تسليم سلاحها بلا قيد ولا شرط، وطلب منها أن تنسحب من غزة وتسلمها له دون نقاش، وأن تتحمل نتائج الحرب وحدها. هل هناك قائد سياسي يمكن أن يجرؤ على عرض مثل هذه المطالب وغيرها في لحظة فارقة من تاريخ بلده، ودون أن يشعر بالحرج، ولا يفكر حتى فيما ستسجله كتب التاريخ؟

رجاء، لا تجعلوا قصة آخر ملوك الأندلس تتكرر، فقد قيل أن أبا عبد الله محمد الثاني عشر باع لملك القشتاليين أملاكه في الأندلس ثم غادرها، وذلك في 7 آب/ أغسطس 1493م، فقالت له أمه "ابكِ مثل النساء ملكا مضاعا، لم تحافظ عليه مثل الرجال".

مقالات مشابهة

  • عيب.. ليسوا أولاد كلب!
  • الشرع يحذر من دعوات “قسد” التي تهدد وحدة البلاد وسلامة التراب السوري
  • نتنياهو: ادعاءات بار كاذبة ولن نمكن السلطة من إدارة غزة
  • مصر تعرب عن تعازيها لايران في ضحايا الانفجار الذي وقع جنوب البلاد
  • «حزب صوت الشعب» يردّ على وزير داخلية النيجر: احترام سيادة ليبيا ضرورة
  • محمد معز رئيس المالديف الذي منع الإسرائيليين من دخول بلاده
  • ابن كيران: القضايا التي دافع عنها "البيجيدي" تظهر حاجة البلاد إلى حزب وطني مستقل معتز بمرجعيته الإسلامية
  • توصيات إقليمية من مراكش لمكافحة الجريمة والإرهاب
  • قمة لندن لأمن الطاقة.. تحديات التحول الأخضر أمام الجغرافيا السياسية
  • أكبر عملية طرد: الجزائر ترحّل إلى النيجر 1800 مهاجر إفريقي غير شرعي في يوم واحد