جريدة الرؤية العمانية:
2025-01-07@03:33:02 GMT

في مدرسة المقاومة

تاريخ النشر: 13th, April 2024 GMT

في مدرسة المقاومة

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

تصدرت المقاومة الفلسطينية سيادة المشهد منذ السابع من أكتوبر إلى الآن؛ فحرب الصمود تزداد ضراوة، في المقابل ثمّة حرب أخرى تكشف للمتابع حقيقة بعض الأقلام في ميدان السوشيال ميديا وحاجتها إلى جرعة شرف؛ فهي تبثُّ سمومها في منشوراتها دون اكتراث بواقع الحال ودون الاستناد إلى مصداقية تُذكر، لا تضع اعتبارا لمثقال الكلمة أو من يقرأها؛ ولكن هندسة حرب الوجود تترفع عن كلّ ما لا يليق وتصبّ جلّ طاقتها في هدف الوجود ودحض زيف العدم الهادم، ورفع سيف النصر المؤزر، حيث لا سلام مع الكيان ولا بكاء على شهيد ما دامت الأرض تطلب المزيد.

هناك من يرى أنه مضى أكثر من 6 أشهر على جريمة الإبادة في أرض الأنبياء؛ بينما المتتبع للحقيقة يرى أنها منذ عهد طويل وما يحدث الآن ما هو إلّا سلسلة لعلها الأخيرة من سلاسل العدوان المستمر على أهل الأرض العزّل، كما يبدو أن عُمر ما يسمى بـ"إسرائيل" ناهز من العمر السبعين وشاخ كثيرا بقيادة النتن المتطرف، وبات بعد السابع من أكتوبر على مشارف الزوال يحتضر، ولن يستطع استعادة شبابه في ظلّ من سيخلف لاحقًا، هكذا تبدو الأمور بعد سقوط ورقة التوت؛ فقد خسر المغتصبون ثقة شعبهم في الداخل وانكشف أمرهم أمام شعوب العالم في الخارج.

ماذا لو عاد معتذرًا، ماذا لو ركع الكيان تحت قدمي السنوار؟ وكرر عرضه البائت، حلّ الدولتين! أتظن أن السنوار يقبل؟

توضأت الأرض بالدم وبدأت تتطهر، ووقف السنوار معتليًا فوق ما ألحقه بعدوه من هزائم، وعلى قمّة ما قدّمه الشعب من تضحيات وعلى صبر الأرملة والثكلى وجزع النائحة اليائسة الأخرى، محتذياً صمود أصغر جندي في المقاومة، مقدرا الثمن والمثن، وكان لسان حاله يقول: هيهات أن أرضى إلاّ بالنصر، حلّ الدولتين لم يعد هدفًا؛ امتلأت كفة الدم ولن يعد يملأ الكفة الأخرى سوى الأرض كاملة؛ فصلاحية حقن السلام انتهت، كبّر وأقام حربه بحيَّ على الأفعال حيَّ على النصر.

لم يستهدف الصهاينة الأطفال وحدهم، إنما المدارس كانت من أهم الأهداف لديهم، ولكن مجريات الحرب أثبتت أن المقاومة مدرسة تسري في دماء الشعب الغزاوي طفلا كان أم شيخا، ذكرا كان أو أنثى، مدرسة التشبث بالأرض تملأوها القيم والنعم، النعم التي حرم الله منها كل الناس وزرعها في الشعب الفلسطيني وحده، لقد كشفت هذه الحرب حقيقة الكثير من المصطلحات كالجريمة والصمود والفداء والصبر وأعادت دلالتها بشكل مختلف غير مألوف.

الجريمة

"الجريمة" من المصطلحات التي عرفناها دون البحث في معاجم اللغة؛ فعندما نسمع الحديث عن الأعمال الوحشية غير السوية كان المتحدث يسميها جريمة وبالتالي هو لم يكن يعطي الخبر وحده.

قرأت كتاب بعنوان "إسرائيل جريمتنا" من تأليف ميلر بوروز أستاذ الدراسات التورانية في جامعة ييل بالولايات المتحدة الأمريكية، تحدث فيه عن الكثير من الحقائق المرتبطة بفلسطين أرضا وشعبا وغاصبا ومغتصبا، تناول الحركة الصهيونية بدقة متناهية، واعترف أن وجود الصهاينة في فلسطين جريمة الغرب، وعن المظالم التي نزلت بأرض فلسطين حين وطأها اليهود يقول:"إن البلاد الصغيرة التي أنشئت فيها الدولة اليهودية الجديدة كانت آهله بالسكان قبل أن تبدأ الهجرة الصهونية إليها، إنها لم تكن مجاهل بكرا لا يقطنها غير نفر قليل من المتوحشين الهائمين على وجوههم، أو وطننا من غير شعب لشعب من غير وطن كما كان الصهاينة الأولون ينعتونها.

وعن عدد السكان يقول المؤلف: "وفي حين كان عدد اليهود في فلسطين ينمو عن طريق الهجرة، كان عدد السكان العرب ينمو عن طريق التكاثر الطبيعي".

أتساءل لم يعتبرون الهجرات غير الشرعية التي يموت ويسجن سنويًا بسببها عدد كبير من فقراء العالم جريمة، ويعتبرون الهجرة الصهيونية حقًا مشروعًا! وما الجرم إن لم تكن الإبادة في فلسطين على مرّ ما يزيد عن السبعين عاما جرائم غزو ونهب وسلب! وما الإبادة إن لم يكن ما يحدث في غزّة إبادة!

ما العهر إذن إن لم تكن إسرائيل عاهرة!

وما السرقة إن لم تكن إسرائيل سارقة!

وما التزوير إن لم تكن إسرائيل مزورة!

لا أدري إلى متى يسكت العالم عن عربدة هذه الجرائم ضد شعب أعزل، يعلم الغرب والعرب جيدا حقه الشرعي في امتلاك أرضه!

الحقيقة أن هذا الكيان تجاوز كل مراحل الجريمة المتعارف عليها وأثخن العجرفة في القتل إلى أن أصبح يكيل الإبادة بمكيالين، وأعتُبِر قانونيا أنه يبيد شعبا ليدافع عن نفسه وأرضه وسيادته!

لك الحرية عزيزي القارئ أن تبكي أو أن تقهقه، فهذا أضعف الإيمان، نعم وصلنا إلى هذا الحدّ من الضعف في الإيمان؛ لأن المفهوم للجريمة تغير وطرأت عليه عوامل التعرية ذاتها التي طرأت علينا.

الصمود

أستطيع القول إنه لا توجد مدرسة علّمت الصمود على مرّ الزمان كما علمته مدرسة السنوار، فلم نر على مر ستة أشهر منذ بداية الحرب أي فتر لهذه المقاومة بالرغم من حجم الخذلان المحيط بها وشح الوسائل والذخائر والجوع والصوم، لم نر مقاتلا واحدا يشكو الحرب أو يتذمر منها مثلما رأينا جنود الصهاينة يبكون خوفهم وتراجعهم، إذن فالصمود في صفوف المقاومة ينبع من كينونة الوجود، استطاع الكيان هدم المدارس لكنه ظلّ عاجزا عن هدم مدرسة السنوار، المدرسة التي ستظل تدرس الصمود والحرية ما بقيت حياة على وجه الأرض.

الفداء والصبر

شاهدنا منذ بداية الحرب مقاطع الفيديو للأطفال والنساء والمسنين الذين هدمت منازلهم وقتلوا أهلهم وجُوّعوا وشرّدو وكان الصبر قوة تنبعث من أفواههم، قوة لا تصنع قي مصانع الذخيرة؛ وإنما صنعتها قوة الإيمان بعودة الحق المنتزع وأن الصبر ثمن عودته، كما شاهدنا صبر إسماعيل هنيئة عندما تلقى خبر استشهاد أبنائه، كانوا يظنون أن هذا الحدث سيلوي ذراعه؛ ولكنه علمهم كيف يكون الصبر والاحتساب أمام أمر صاحبه يؤمن به.

لقد أثبتت هذه الحرب لحمة المقاومة والشعب، الجميع يصبّ دمائه في تراب الوطن، لا فرق بين أبناء الشعب وأبناء قادة المقاومة؛ فاستشهاد أبناء القادة قطع دابر من شنّ حربا إعلامية ضدهم، وأثبت لحمة أبناء غزة قادة وشعبا وتفانيهم وصبرهم في فداء الوطن.

لم تقلب حرب الصمود موازين القوى وإثارة الرأي العام فحسب؛ إنما صححت أيضا المفاهيم ووضعت النقاط المسلوبة على الحروف، واستمرت ماضية تجاه هدفها تؤمن بما تحقق من انتصار، لا تأبى بالخذلان ولا بالوعود؛ فحينما يحضر الفعل يبطل القول.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

أنشودة البسطاء|رحلة يحيى حقى مع المسرح.. من «قنديل أم هاشم» إلى مدرسة النقد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

لم يكن الأديب المصرى البارز يحيى حقى كاتبا مسرحيا بالمعنى المباشر، لكنه أثر فى المسرح المصرى بشكل غير مباشر من خلال أعماله الأدبية ورؤيته الثقافية.

اهتم «حقى» بتقديم صورة دقيقة عن الإنسان المصرى وهمومه، مما ألهم العديد من المسرحيين لاستلهام شخصياته وأفكاره فى أعمالهم المسرحية.

وتحمل كثير من أعمال يحيى حقى الأدبية مثل «قنديل أم هاشم»، عناصر درامية قوية تجعلها قابلة للتكييف للمسرح، وبالفعل تم تحويل هذه الرواية إلى عروض مسرحية وسينمائية.

ركز «حقى» فى كتاباته على الصراع بين القديم والجديد، وهو موضوع متكرر فى المسرح المصرى، حيث قدم شخصيات تعكس هذا الصراع بتعقيدها النفسى والاجتماعى.

تميزت كتاباته بلغة بسيطة وراقية، مما أسهم فى خلق نصوص مسرحية قريبة من الجمهور ومفعمة بالحياة، فقد تم تحويل رواياته وقصصه القصيرة إلى عروض مسرحية، مثل «قنديل أم هاشم»، التى تناولت صراع القيم والعادات فى مواجهة الحداثة.

ألهمت أفكاره ورؤاه الكُتَّاب المسرحيين لصياغة نصوص تناقش قضايا الهوية المصرية والتحولات الاجتماعية، فكان «حقى» يرى المسرح كجزء لا يتجزأ من الثقافة، ومن المؤمنين بدوره فى تنوير المجتمع.

وفى السطور التالية نستعرض إسهامات الأديب يحيى حقى فى المسرح، وأيضا روايته الشهيرة «قنديل أم هاشم»، التى تحولت إلى مسرحية وقدمت ثلاث مرات برؤى فنية مختلفة، بالإضافة إلى مقالاته النقدية والمؤثرة فى المسرح.

الأديب يحيى حقي

عمرو دوارة: «قنديل أم هاشم» مسرحية واحدة بثلاثة تجسيدات فنية متنوعة

أكد المؤرخ المسرحى الدكتور عمرو دوارة، أن الأديب يحيى حقى لم يُقدم له على خشبة المسرح سوى عمل واحد مقتبس من روايته الشهيرة «قنديل أم هاشم» وعلى الرغم من ذلك تم تقديم هذا العمل ثلاث مرات برؤى فنية مختلفة.

أُعيد تقديم المعالجة الأولى عام 1962 عبر «جمعية أنصار التمثيل والسينما»، حيث أعدت النص أمينة الصاوى، وأخرجه محمود السباع، وشارك في بطولته الفنانين: محمد توفيق، سلوى محمود، عبدالخالق صالح، وشويكار فى أولى تجاربها المسرحية، لاحقا قُدمت نفس المعالجة مرة أخرى عام 1965 على خشبة «مسرح الحكيم»، بمشاركة الفنانين محمد توفيق، بثينة حسن، رشوان توفيق، أحمد أباظة.

أما المعالجة الثانية، فجاءت بعد أكثر من 15 عاما، وتحديدا العام 1982، وذلك من خلال الفرقة المركزية التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، حيث أعد النص سيد عواد، وأخرجه ماهر عبدالحميد، وقام ببطولته الفنانين: لمياء الأمير، حسن الوزير، عبدالواحد السعيد، وآخرون.

وقال دوارة لـ«البوابة نيوز» إن يحيى حقى كناقد مسرحى كتب العديد من المقالات التطبيقية التى تناولت بالنقد والتحليل عددا من العروض المسرحية، شملت هذه المقالات أعمالا محلية مثل: «قيس ولبنى» لعزيز أباظة، «يوم القيامة» لصبرى فهمى، ومن إخراج زكى طليمات، «الحائرون» لفتحى رضوان، و«شفيقة ومتولى» و«المستخبى» لشوقى عبدالحكيم، وغيرها.

وتابع: أما على مستوى المسرحيات العالمية، فقد تناول «حقى» أعمالا مثل: «دكتور كنوك» لجول رومان، و«الخال فانيا» لأنطون تشيخوف، و«نهاية اللعبة» لصمويل بيكيت، و«مشهد على الجسر» لأرثر ميلر، و«قطة على سطح ساخن» لتينيسى ويليامز، وغيرها.

الدكتور عمرو دوارة

مدرسة المسرح

وأضاف دوارة، أن تجميع وتصنيف هذه المقالات تم على يد الناقد فؤاد دوارة فى الجزء العشرين من الأعمال الكاملة ليحيى حقى، الذى صدر عام 1986 تحت عنوان «مدرسة المسرح»، يحتوى هذا الكتاب على موضوعات ومعلومات مسرحية قيمة، حيث تنوعت فصوله السبعة عشر بين التأريخ، الدراسات، ومقالات النقد التطبيقي، تضمن الفصل الأول دراسة مهمة حول علاقة العرب بالمسرح، بينما تناول الفصل الثانى دور هواة المسرح وأنشطتهم الريادية، كما اشتمل الكتاب على تأريخ لمسيرة بعض رواد وأعلام الفن المسرحى مثل: محمود مراد، صلاح الدين كامل، عباس علام، حسين رياض، فتوح نشاطى، بديعة مصابنى، وغيرهم، بالإضافة إلى ذلك، ناقش الكتاب قضايا مسرحية متعددة، من أبرزها ما ورد فى الفصل الأخير حول عروض «الماتينيه والسواريه» والفروقات بين جمهوريهما.

وتحدث دوارة عن ذكرياته المسرحية مع الأديب يحيى حقى، مشيرا إلى أن أول لقاء مسرحى قام بإعداده كان خلال دراسته بالسنة الأولى فى مدرسة الإبراهيمية الثانوية، بإشراف أستاذه الناقد السينمائى الراحل فوزى سليمان، وذكر أنه اصطحب مجموعة من زملائه للقاء الأديب فى حديقة «جروبى»، حيث استقبلهم بحفاوة وروى لهم ذكرياته عن فرق الهواة، ومنها فرقة «أحمد الشامى»، التى جابت الأقاليم بعروضها المسرحية، موضحا كيف حرص «الشامى» على توظيف المسرح كوسيلة لتثقيف الجمهور ورفع وعيهم، من خلال تقديم ورش لتعليم الحرف اليدوية، كصناعة الصابون والنسيج، خاصة للنساء.

وأشار دوارة إلى أن الجمعية المصرية لهواة المسرح نظمت أولى ندواتها عام 1982 مع الأديب يحيى حقى فى قصر ثقافة قصر النيل، الذى كان حينها مقرا مؤقتا للجمعية، موضحا أن الأديب لفت انتباهه خلال التحضيرات إلى الدور الكبير الذى لعبته «مسارح الصالات» منذ الثلاثينيات، فى ظل تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية.

وأقر دوارة بأنه استفاد كثيرا من هذا اللقاء ومن حواراته المتكررة مع زكى طليمات، مما ساعده فى إعداد دراسة شاملة عن مسرح «الصالات»، مؤكدا أن هذه المسارح، التى ازدهرت بين عامى 1930 و1948، لم تكن مجرد أماكن للمنوعات أو «الكباريهات»، بل قدمت مسرحيات هادفة تعالج قضايا اجتماعية ومواطنية، موضحا أن هذه الحقبة أهملت فى التوثيق المسرحى، لذا بذل جهدا لتوثيقها فى كتاب مرتقب يتناول أبرز الفرق والعروض والفنانين الذين أثروا هذه المرحلة المسرحية.

غلاف كتاب مدرسة المسرح

رشوان توفيق: «قنديل أم هاشم» علامة فارقة فى مسيرتى المسرحية وتركت بصمة فى قلوب الجمهور

تعد مسرحية «قنديل أم هاشم» التى شارك فيها الفنان رشوان توفيق واحدة من أبرز الأعمال المسرحية المأخوذة عن الأدب العربى.

تناقش المسرحية قضايا اجتماعية وثقافية عميقة، فالدور الذى قدمه الفنان رشوان توفيق يتجسد فى شخصية «إسماعيل»، الشاب الذى سافر للدراسة فى الخارج وتعلم الطب هناك، ليعود بعد ذلك إلى حارته الشعبية فى مصر حاملا معه أفكارا حديثة تتعارض مع بعض الممارسات التقليدية التى يعتمد عليها الناس فى علاج الأمراض، ومنها التداوى بزيت القنديل الموجود داخل مسجد «أم هاشم».

أبدع «توفيق» فى إظهار الحيرة التى يعيشها «إسماعيل» بين العلم الحديث الذى درسه فى الغرب وبين احترامه لإيمان أهل الحى بالموروثات الشعبية، فالشخصية التى قدمها تمر برحلة من الصراع الداخلى إلى محاولة إيجاد حل يوفق بين العلم والإيمان، فقد أضفى على الشخصية بعدا عاطفيا قويا، حيث جعل الجمهور يتعاطف مع معاناته وهو يحاول إقناع مجتمعه بتغيير معتقداتهم دون أن يتسبب فى صدام.

الفنان رشوان توفيق

تعكس المسرحية أزمة الهوية الثقافية التى يعاني منها الكثير من المجتمعات نتيجة الانفتاح على العالم الغربى، وبدورها تسلط الضوء على العلاقة بين العلم والإيمان، وكيف يمكن التوفيق بينهما بدلا من الصدام.

وأعتبر الفنان رشوان توفيق «قنديل أم هاشم» من أبرز أعماله المسرحية التى تركت أثرا كبيرا فى قلوب الجماهير، وقد أثنى النقاد على أدائه العميق والمقنع، الذى جعل الشخصية واقعية وقريبة من الجمهور.

وقد أعرب توفيق، عن حبه الشديد للمسرح فى أكثر من مناسبة، واعتبر هذا الدور تحديا كبيرا خلال مسيرته الفنية، حيث كان يتطلب منه التعمق فى تفاصيل الشخصية التى تواجه صراعا داخليا عميقا بين العلم والإيمان بالموروثات الشعبية.

كانت مسرحية «قنديل أم هاشم» من إنتاج هيئة قصور الثقافة عام 1965، ومن بطولة الفنانين: فؤاد أحمد، رأفت عمر طه، قدرية عبدالقادر، حسين قنديل، علية على، ماجدة على، مظهر يونس، تهانى راشد، بثينة حسن، محمد توفيق، رشوان توفيق، أحمد أباظة، عز الدين إسلام، أمين وهبة، مصطفى حلمى، عصمت نعمان، فاروق نجيب، ومن تأليف يحيى حقى، وإعداد أمينة الصاوى وعثمان أباظة، وإخراج محمود السباع ويوسف مرزوق.

مسرحية قنديل أم هاشم

رائد النهضة الثقافية وصانع مجد الفنون فى مصر

يُعد يحيى حقى من الشخصيات التى تركت بصمة استثنائية فى مجال الثقافة والفنون خلال فترة رئاسته لمصلحة الفنون «1955 - 1958»، حيث أسهمت رؤيته الثاقبة وإدارته الحكيمة فى تحقيق نهضة شاملة، وركز على دعم المواهب الشابة وتنمية البنية التحتية الثقافية، ما جعل تلك الفترة علامة بارزة فى تاريخ الفن المصرى.

ففى المسرح حرص «حقى» على تطوير الفرق المسرحية بشكل كبير، حيث دعم «الفرقة المصرية الحديثة»، التى أصبحت فيما بعد «المسرح القومي»، أسهم فى تأسيس فرقة «المسرح الشعبى»، مانحا الفرص لخريجى المعهد العالى للتمثيل للعمل فى هذه الفرق، كما عمل على نشر الثقافة المسرحية فى الأقاليم، إذ نظم جولات مسرحية ناجحة أمتعت الجماهير بمختلف محافظات مصر، مما ساهم فى تحقيق انتشار أوسع للفن المسرحى.

أما فى مجال الفنون الشعبية، فكان لـ«حقى» دور ريادى فى الحفاظ على التراث الشعبي وتقديمه بأسلوب مبتكر، حيث أشرف على إنتاج أوبريت «يا ليل يا عين»، الذى مثل نقلة نوعية فى دمج الفنون الشعبية بالمسرح الغنائى، فقد جمع هذا العمل فريقا مميزا من الكُتَّاب والفنانين، مثل توفيق حنا، أحمد رشدى صالح، زكريا الحجاوى، وأخرجه زكى طليمات، بمشاركة نجوم مثل نعيمة عاكف، محمود رضا، شهرزاد، محمود شكوكو، وآخرون، ولم يقتصر الأثر عند هذا الحد، بل كان الأوبريت بمثابة حجر الأساس لتأسيس فرقة «رضا للفنون الشعبية»، التى أصبحت واحدة من أبرز المكونات الثقافية المصرية.

امتدت إسهامات «حقى» إلى تعزيز الفنون بشكل عام، حيث كان يؤمن بأهمية الفنون كوسيلة لرفع وعى المجتمع وإثراء هويته الثقافية، لذلك ركز على تبنى مشاريع إبداعية، وتوفير بيئة خصبة للفنانين لتقديم أفضل ما لديهم، مما جعل فترة رئاسته نموذجا يحتذى به فى دعم الثقافة والفنون.

الأديب يحيى حقي

تأملات «حقى» فى فن الريحانى بين الكوميديا والعمق الإنساني

عمل «حقى» كناقد ومتابع للحركة المسرحية والثقافية، ودعم تجارب المسرح الطليعى فى مصر، فكتب العديد من المقالات النقدية عن المسرح فى بعض الصحف والمجلات، كما أسهم فى دعم تجارب المسرح الطليعى الذى كان يحاول الخروج عن النمط التقليدى، فكان من المثقفين الذين شجعوا التجديد فى الفنون، بما فى ذلك المسرح، وكان يرى فيه وسيلة لنقل قضايا الناس بشكل مباشر.

مسرح نجيب الريحانى

ويقول يحيى حقى فى إحدى مقالاته التى تحمل عنوان «مسرح الريحانى» المنشورة فى العدد الرابع بمجلة «الأديب» فى 1 أبريل عام 1954، لقد حضرت وأنا فى الغربة- والفضل للإذاعة- حفلة ذكرى وفاة نجيب الريحانى، واستمعت بعناية، رغم الطفيليات وما أكثرها حتى فى علم الأثير، إلى الخطب التي القيت وهى إذا استثنينا بعض المبالغات الشرقية المألوفة فى مثل هذه المناسبات تنم عن وفاء صادق، لكنى رأيتنى بالرغم منى قلقا يتملكنى شىء من الحرج كأن فى صدرى قولا يريد أن ينبعث، ووجدت بعض المختزن من المشاعر والأفكار يتضح ثم يقوى فيصبح «عقيدة» لا استطيع منها انفكاكا.

وها آنذاك أدلى برأى ستنفر منه النفوس نفورها من الصوت النشاز وقد يطوى كتابى سريعا بدعوى أننى ممن لا يعجبهم العجب أو الصيام فى رجب، وأوصف بأننى من المررة الذين يفسدون جو المرح بوجههم الكئيب وقد يقال ويا للعيب إننى آكل لحم ميت وكان الأكرم بى أن أقف منه وجها لوجه، لكنى كما قلت لم املك الا اليوم زمام قولى، والأقوال أقدار هى الأخرى، ثم لن يكون كلامى الا عن فن الريحانى كما وصفه خطباء الحفلة فلا ضير على أن أقول كلمة فيه أرجو أن يفسحوا لهم صدورهم.

موهبة الحضور 

وأود قبل كل شىء أن أفرغ من الاعتراف بحقيقة لا يجادل فيها الا أحمق او مريض وهى أن الريحاني كان ممثلا هزليا عظيما تجلت فيه تلك الموهبة الخاصة، التى يسميها أهل المسرح «موهبة الحضور» فلا يكاد صاحب هذه الموهبة يظهر على المسرح وقبل أن ينطق بحرف او يأتى بإشارة حتى يستبد بالنظارة ويجذب إليه قلوبهم، ووجوههم، وعيونهم، وآذانهم، فتنبسط أساريرهم وتطيب نفوسهم ويزول عنهم الهم والغم ويتعالى الضحك والقهقهة، بل قد يضحكون لقول لا يسمعونه وسط الضجة وقد يسأل أحدهم جاره بعد ذلك عن النكتة التي فاتته وضحك لها، لينطق هذا الممثل بما شاء له من السخافات وليأت بحركات مبالغ فيها لا يستلزمها دوره، بل ليكرر هذا ليلة بعد ليلة ومسرحية أثر أخرى فهيهات له أن يصرف النظارة أيا كانوا عن الضحك، بل لعلهم ضحكوا وهم يشترون تذاكرهم، هذا نوع من العشق يعلو عن كل منطق متزمت او تحليل ممرور.

يكفى أن هذا الرجل يسعد الناس، والسعادة نادرة، فماذا تريد أكثر من ذلك، والشعوب كلها تتشابه فى الخضوع لهذا السحر تشابهها فى الحاجة إلى الضحك والترويح عن النفس، فقد شاهدت هذا الجو المرح فى مسرح الممثل التركى «ناشد» ومسرح الممثل الإيطالى «مسكو» كما لمسته فى مسرح الريحانى وله الفخر وكذلك فى مبدأ مسرح على الكسار، لكن هناك فرقا شاسعا بين القول بأن فنه خالد لأنه فن مصرى صادق، قد انبعث من قلب مصر ودل عليها وترجم عنها وأرخ لها أن الريحانى هو مصر، ومصر هى الريحانى أو كما قالوا.

الفنان نجيب الريحاني 

لون الريحانى

لا أريد أن أتحدث عن منشأ الريحانى وعشيرته التى ينتمى إليها أصله وقدرتها على الإندماج فى مصر او قدرة ثرى مصر على استيعابها، فقد أصدر شعب مصر السخى، الكريم حکمه، فلا نقض له ولا استئناف - ارتضى أن يحتضن الريحانى وأن ينزله عنده منزلة الأبناء شان النبيل المضياف، الذي يفتح باب بيته ورزقه على الله، لكن هذا لا يمنعنى من أن أرى فى ازدواج الريحانى بين الأصل والمصير مفتاح الغاز حياته وتفسير شخصيته، وأجزم وليس فى يدى دليل سوى شعورى بأن الريحانى عاش طيلة حياته يشعر بفارق مكتوم بينه وبين المصريين، وهذا سر وحدته الملحوظة فى حياته العامة والخاصة.

أما إذا قال أنصاره أنه كان إنسانا فوق الأوطان وفوارق الشعوب، فهذه مسألة أخرى، فأصدق وصف للريحانى إذن أنه كان من أدنى طبقات المهاجرين إلى الشعب المصرى وأسهلهم اختلاطا به وأكثرهم فهما لعاداته وعجائب طبعه، وأن أردت دليلا فأنى انبهك إلى أن أول إعلان أذكره عن فرقة الريحانى من تلك الإعلانات الطويلة التى تلصق على الجدران يتوجها اسم الفرقة مكتوبا على هيئة قوس باللون  الأحمر «فرقة الريحانى فرانكو آراب»، وأنظر لكلمة فرانكو، وهذه دعوة صريحة لجمهور الليفانتيين لحضور هذه المسرحية ومعهم أيضا أنصاف المتعلمين المترددين بين الشرق والغرب لا علموا علم هذا ولا ذاك، وسنرى أن جمهور الليفانتيين ظل مخلصا للريحانى إلى نهاية أيامه، ولعلى لا أخطئ إذا زعمت أن فرقة الريحانى ولدت فى العهد الذى كانت أغنيته الشائعة على لسان الشعب «البيه والهانم عاملين أبونيه.. قص الشعر ده لزمته إيه» وهى كافية فى الدلالة على حركة التفرنج التى كانت بعض مظاهر ذلك العهد.

الريحانى.. والعهد الأول

وكان يقال أن مصر تتمتع حينئذ برخاء كبير وزاد الطلب على القطن وارتفعت أسعاره، وجاء العمدة المصرى بقطنه إلى البورصة وتلقفه السماسرة ليخطفوا قطنه ويسوقونه إلى ما وراء البحار، فيغزل وينسج أو ينتفع به فى أمور كثيرة هى من أسرار غلبة الغرب على الشرق، ثم يعاد بعضه ويباع لنا بأغلى الأسعار، وماذا نال العمدة المصرى لقاء ذلك؟ ورقا مطبوعا يقال أنه نقد قانونى يعطى له عن علم ويقين بأن العمدة ليس له من الخبرة أو التجربة ما يمكنه من صرف هذا النقد فى أوجه النفع او حتى من ادخاره ليوم أسود، وأى فرق بين استلاب القطن فى تلك الأيام وبين استيلاب البترول فى عصرنا هذا؟ وكان لا مفر من أن يبعثر العمدة الفلاح ماله فى اللهو والعبث، هذا العمدة هو موضع سخرية سماسرة القطن وأشباههم فى النهار، فلماذا لا يكون هذا العمدة موضع لهو وتسلية بالليل، وأمام من؟ أمام جمع أغلبه من هؤلاء السماسرة أنفسهم وأشياعهم والمخدوعين وراءهم.

وهكذا ولدت شخصية «كشكش بك» عمدة كفر البلاص، هل كان «كشكش بك» موضع رثاء او عطف؟ كلا، كان كالمهرج الذى يصفع على قفاه فى مهازل أولاد بعجر ويخرج النظارة وهم موقنون بأن «كشكش بك» الذى نال من التوبيخ والصفع على القفا ما نال، لا يزال يرى نفسه سعيدا بلهوه وعبثه بين فريق الراقصات العاريات ممن لا يعرفن من العربية الا «هات» وهو لا يرطم الا بكلمة «خذى» يكاد ينطق وجهه بأنه صرف عليهن كل ماله ولم ينل منهن شيئا هذا هو «كشكش بك»، عمدة فى قفطان له لحية طويلة كالسحرة فى صوت أجش، وشبق عينيه، وتلعيب حواجبه وهو دائخ وسط شلة الراقصات.

كش كش بك

فنان الشعب.. سيد درويش 

وكتب لهذه المسرحيات الاستعراضية الرخيصة، وهذا من مفارق الحياة، أن تكون من غير قصد ازدهارا لموهبة مصرية صميمة، موسيقى سيد درويش، كان تجديده أن يجعل اللحن تصويريا، فهو يريد أن يكون فى نغم السقائين صدى نداءاتهم وفى نغم سائقى العربات، كذلك وقع سياطهم وهكذا فكانت هذه المسرحيات وما تتضمنه من استعراض لمختلف طوائف الشعب مادة طيبة يبرز فيها فنه الجديد، وبفضل الحان سيد درويش وحدها لا بفضل تلك المسرحيات دار اسم «كشكش بك» على لسان ودخل كل دار، وأذكر أننى كنت أغنى مع جميع أخوتى فى صوت واحد لحن «الأبوكاتية» لا تهمنا الكلمات أو المعانى بل يكفى لسرورنا أن تجرى ألسنتنا بهذا اللحن السهل الجميل «أما الكلمات فهى لبديع خيرى وسنتحدث عنه فيما بعد»، وجاءت الأزمة وانفض المولد بعد أن ذبح عجل السيد فى شخص «كشكش بك» عمدة كفر البلاص، فانفضت فرقة الريحانى مع انفضاض المولد، فهل هذا من علائم الفن الأصيل؟

سيد درويش

على الكسار 

ينبغى أن أذكر على الكسار عسى أن يأخذ هذا الرجل الطيب القلب المحبب إلى النفس بعض حقه وهو الذى لم أقرأ له كلمة واحدة لام فيها أهل بلده على التنكر له ونسيانه وانصرافهم عنه إلى غيره، والكلام عن الكسار يزيد أيضًا حقيقة مسرح الريحانى فى عهده الأول وضوحًا، فقد أنشأ على الكسار فرقة عاصرت فرقة الريحانى واعتمد الاثنان على الغناء والرقص والفكاهة ولا يزال الناس يذكرون تنافسهما ودخولهما فى قافية تنكيت، فيسمى أحدهما مسرحية «راحت عليك» فتكون مسرحية الثانى باسم «فشر» وهكذا، لكن «الكسار» الذى اختار له شخصية «عم عثمان البربرى»، ظل مخلصا لطبيعته لم يحاول أن يخدع أحدا أو يغرق فى التهريج وفضل أن تكون فرقته مصرية لا «فرانكو آراب»، وليس من العجيب أن الفتى الأول كان مغنيا على صدغيه وشم عصفورة، وامتزجت شخصية «عم عثمان البربرى» فى مبدأ الأمر بجمهور النظارة ولم تكن تمر ليلة دون تبادل النكت بين المسرح والصالة وبخاصة أعلى التياترو.
وفى السعى وراء طلاوة الجديد غشى جمهور الليفانتيين أيضا مسرح على الكسار، لكنهم انصرفوا عنه سريعا، فعم عثمان البربرى هذا هو عندهم فى الدار طباخ أو خادم مائدة أو بواب، رجل من عباد الله يأكل رزقه بعرق جبينه، قد تكون له قفشاته ومشاكله ومفارقه، لكن حياته محصورة فى الدار أو أمام الباب ولو سخروا منه وأرادوا استرضاءه ناولوه قرشا فيقبله على الفم ويرفعه إلى الجبين ويضعه فى جيبه ويشكرهم، أنهم يريدون رجلا إذا أرادوا أن يخسروا به ويضحكوا عليه وأعطوه كأسا فى كابريه وتضاحكوا حين يسيل لعابه امام فتاة جميلة تهزأ به، ففى هذا وحدة ترفيه عن أنفسهم وشعور بأنهم فى منجى من عالم المغفلين، فكانت ضالتهم شخصية «كشكش بك» لا «عم عثمان البربرى».

وأراد على الكسار أن يقدم صورة شعبية صادقة ساذجة لا غلو فيها ولا تهريج، فكان نصيبه الاخفاق السريع، لأن الصورة الصادقة الساذجة مألوفة مملة ولأنه وقع فى مأزق التكرار ولم يستطع الخروج منه، وانصرف عنه أيضا جمهور الطبقة الراقية والمتعلمين ومرتدى الجلاليب والطواقى، فكان هذا أدعى لأن يهجره إلى الأبد بقية المطربشين والمقبعين وكنت أود لو أن «الكسار» جعل من فرقته مزيجا من السيرك والمسرح وخرج بها يجوب بلاده بحرى وقبلى، لكنه ظل متشبثا بذكريات مجده الأول فى العاصمة ونحن لن ننساه أو ننسى جهاده وفضله.

الفنان علي الكسار 

الريحانى.. والعهد الثانى 

وقضت الأزمة على الفرقتين وعلى تنافسهما ومعاني نجاح الأولى وإخفاق الثانية، ثم مر وقت وظهر الريحانى مرة أخرى على رأس فرقة جديدة، خلع قفطان «كشكش بك» وعمته وأصبح مطربشا أفنديا يلبس بدلة من الطبقة الوسطى، هل كان اختيار الريحانى لشخصية هذا الأفندى من الطبقة الوسطى عن عمد براعة منه فى السير مع تيار الحياة الاجتماعية بمصر، وتمثيل مشاكلها الجديدة؟ لا أستطيع أن أجزم بذلك، لكن أشهد أنه كان موفقا فى هذا الاختيار.

فقد صاحب هذا العهد أزمة الطبقة الوسطى من الأفندية وأغلبهم من موظفى الحكومة وأشباههم، وأنك لتجد كلمة الأفندى بنطقها العربى فى القواميس الإنجليزية ويستعملها كتاب العرب حين يريدون سب الشرق ووصفه بالعجز والخيلاء فى وقت واحد، وقد ظل «دانلوب» يعمل سنين عديدة لصب شخصية الأفندى المصرى الموظف بالحكومة، ثم زعمت إنجلترا فجأة أنها رفعت يدها عن شئون مصر الداخلية وأسلمتها للأفندية ووقفت تشاهد، ولو أنك دققت النظر فى أفندية ذلك العهد لوجدت أغلبهم لم يكن قد ألّف بعد بدلته وبخاصة ربطة العنق، فهذه الطبقة كانت ممزقة بين الشرق والغرب، بين مقدرتها المحددة وماليتها المتواضعة وبين مطالب الدولة الناشئة والحياة الحديثة ودسائس الديوان وتحكم الرؤساء وفشو الوساطة، وغلب سلطان هذه الطبقة على الحياة الاجتماعية بدليل أن أول الشهر كان يوما مشهودا فى المتاجر والبارات وغيرها.

وفهم الريحانى من أين تهب الريح وسار مع التيار وأصبح المعبر عن بعض مشاكل هذه الطبقة، الأفندى الطيب القلب حسن النية الذي لا يخلو مع ذلك من مكر ودهاء، الأفندى الذى لا يريد من الحياة إلا سلاما، لكنه قادر على الدس والطعن للدفاع عن النفس فجأة من قطيع الذئاب والسباع، الأفندى الحائر بين الفتاة العفيفة المتأخرة والفتاة الحديثة المشكوك فى إخلاصها «وقد لعبت المرأة المصرية فى تطويرها السريع دورا كبيرا فى رسم متاعب ذلك الجيل» الأفندى الذى لا يجد ما يتسلى به إلا فى ميدان النكتة يكشف بها خداع الناس ونفاقهم والرثاء لنفسه واستدرار العطف عليها، ومن وراء ذلك كله الخلق الشرقى الصميم، التسليم بالقدر والرضاء.

لذلك فقد أتخذ «الريحانى» شخصية هذا الأفندى ليعبر عن مشاكله ومتاعبه، لكن هذه كلمة ينبغى أن تكتب بحروف غليظة من أين استمد فنه وتعبيره؟ هل ألّف «الريحانى» وبديع خيرى قصة واحدة من صميم الحياة المصرية؟ لا، لقد عجز كل العجز وتساقطا كالذباب بلا خجل أو حياء على مائدة المسرح الفرنسى الرخيص، فهل هذا الفن المصرى الأصيل؟ وأنى اتحدى أنصار «الريحانى» أن يزعموا أنه فيما عدا قصة توباز قد اقتبس مسرحية واحدة تعتبر من الآثار الباقية فى تاريخ المسرح الفرنسى، أنه استورد لشعب مصر أكسد بضاعة وزينها لهم بلفائف من التدليس والخداع وإذا لم تنطبق مادة الغش التجارى فى قانون العقوبات على أمثال هذه المسرحيات، فعلى أى شىء إذن تنطبق؟ نعم، أنه فن أصدق وصف له أنه غش تجارى رخيص.

الفنان نجيب الريحاني 

شارلى شابلن

إذا تحدثنا عن أثر شارلى شابلن فى نجاح الريحانى فى مصر، فكلا الرجلين من أبناء جيل واحد، فكان شارلى قد أصبح من الخالدين يضحك لأفلامه، لأنها صامتة، البيض والصفر والسود ضحكة واحدة، لماذا؟ لأن شارلى عبر بفنه الهزلى عن مأساة ضعف الفرد الطيب الفقير وسط مجتمع قادر ظالم منافق، هذا معين أزلى لا تمسه يد البلى، وأن كان شارلى قد أضاف إليه مسحة العامل الضائع فى المجتمع الحديث بآلاته ورأسماله وقسوة قوانينه الاقتصادية وزيف أنظمته الاجتماعية.

لم يجد شارلى الخلاص إلا فى بوهيمية سمحة، قد يخرج من تجارب الحياة غارقا في الجراح لكن نفسه الصافية باقية، فأنت ترى أن شارلى استند إلى الخصائص الأصيلة فى النفس البشرية وإلى العواطف التى لا يختص بها جيل دون جيل او طبقة دون طبقة، ولم يكن مفر من أن يتكسر على شاطئ مصر بعض أمواج من فن شارلى، وأن تتهيأ لها عقول الناس وأرواحهم وأذواقهم، فجاء «الريحانى» وقلد شارلى وسار على هدى خطاه، لكنه حبس فنه المسروق أيضا في تمثيل متاعب طبقة واحدة هى الطبقة الأفندية من موظفى الحكومة وأشباههم، ولولا غلبة هذه الطبقة على المجتمع المصرى، كما ذكرنا لما توفرت أسباب هذا النجاح السطحى للريحانى.

قصة مسروقة وشخصية هى مسخ عاجز لشارلى، فماذا فعل الريحانى فيما تبقى له فى ميدان الفن المصرى الأصيل، ما هى نكتة الريحانى؟ عمد «الريحانى» والمسئولية فى ذلك موزعة بينه وبين بديع خيرى إلى الحيل الصبيانية التى يتسم بها كل فن ضحضاح فج، أعطى لأشخاص مسرحياته أسماء خيل إليه أنها وحدها كفيلة بأن تضحك الناس، وهكذا رأينا أسماء مثل «بقدونس أفندى» و«بصلة هانم» وغير ذلك من السخافات التى يأنف منها كل صاحب فن أصيل، وأنظر إلى هذا الجهد والافتعال فى نكتة الأخرس فى مسرحية «الدلوعة حين يريد»، أن يطلب «فرخ ورقة بيضة» ثم قفز من هذه الحيل السخيفة إلى ميدان فسيح أجاد فيه كل الإجادة، ميدان الردح والتشليق بلا مسوغ أو رادع.

شارلي شابلن

شخصيات الريحانى

والحيلة الرخيصة الثانية التى ينبغى أن ينتهى إليها كل تهريج مفتعل أن «الريحانى» صب سريعا جميع ممثليه فى قوالب من حديد وجعل كلا منهم على هيئة معلومة لا يتعداها فى مسرحية إثر أخرى «ابن الذوات التالف، الغني العبيط، الخادمة الشرشوحة، البنت الدلوعة، المعلم لابس اللاسة، الأفندى العجوز الخبيث» وهكذا، وجعل لكل منهم «لازمة» لا يتعداها لأنها حين جربت أول مرة أحبها الناس وضحكوا لها، وكان ينبغى بعد ذلك أن تفصل مسرحيات الريحانى على قد هذه الشخصيات، وهذا العبث لا تزال تشكو منه إلى اليوم صناعتنا السينمائية.

لم يخل أغلب مسرحياته من شخصية امرأة تركية عجوز ليضحك الناس من رطانتها بالعربية، وهذا أيضا من الحيل المكشوفة السهلة، فالأتراك مثلا يدخلون فى مسرحياتهم الهزلية شخصية باشا مصرى، وبديع هو المسئول وحده عن هذا الجانب من فكاهة «الريحانى» ولم تخلو أزجاله فى العهد الأول من كلمات تركية كثيرة مدسوسة فى غير موضع أو داع، وإنى أسأل أنصار الريحانى هل مجتمعنا المصرى المعاصر للريحانى يضم أمثال هذه الشخصيات؟ هذه موضة لسنة 1914 وما قبلها، فهل هذا هو الفن الصادق الأصيل الذى يصور مجتمعنا على حقيقته، وهل هناك دليل أبلغ على الوهم فى فن الريحانى واعتماده على موهبة الحضور وحدها من أنه أخفق إخفاقا ذريعا على الشاشة البيضاء أو كان يتعلل بأنه لم يجد المخرج الكفء الذى يفهم فنه.

ونستعرض الآن الصورة التى رسمها «الريحانى» للمجتمع المصرى، وأننى أخجل حين أقول أن المصريين عند مسرح الريحانى قوم طيبتهم بلاهة وغزلهم تلعيب حواجب، يحبون الحكم والمواعظ الفارغة، سريع غضبهم لا يتمالكون أعصابهم، يثورون للتافه من الأمور، فلو ألقيت على أحدهم تحية الصباح لانحدر عليك سيل من الردح والتشليق، حرام أن يدمغ الشعب المصرى النبيل الأنوف الكريم بمثل هذه الصورة البشعة، لن تكون هذه النظرة إلى شعب مصر إلا نظرة أجنبي تخدعه بعض المظاهر، فينساق فى الترويج لها والإلحاح بتبيانها كأنها كل شىء ولا شىء هناك غيرها، وشأنه فى ذلك شأن الزائر المتعجل أو المقيم الذى لم يندمج.

كش كش بك

ولماذا نلوم الريحانى وحده ولا نقول إنه كان من مظاهر عهد بائد اختلطت فيه القيم وأحيط الشعب المصرى بحملة ضخمة من التدليس والخداع، فليس من العجيب أن تكون فرقة الريحانى من قلائل الفرقة المصرية التى مثلت فى قصر عابدين، وليس من الغريب أن «فاروق» كان ينتقل إلى مسرحه ويرى الجمهور جانب شاربه الملتف إلى أعلى فى البنور الملكى إلى أن تنتهى المسرحية، ومن الآسف أن رئيس الديوان الملكى لن يتم تاريخ مصر الحديث دون الكشف عن شخصيته وأسراره ومدى أثره يقف ليقدم الريحانى إلى مولاه، وقد سمعته مرة يصف الريحانى قائلا: «هذا رجل يأكل عنده جمع من الناس على مائدة واحدة ولكنها يتجشأ للفقراء بصلا وللأغنياء ديكا روميا»، فأنت ترى أن الذوق واحد والعقلية هى هى والمصاب عام.

الريحانى فريد زمانه ووحيد أوانه

وقد فرغت من قولى وأبرأت ذمتى ولا أترك القلم دون أن أسجل هنا ابتسامة غلبت على شفتى والنفس أمارة بالسوء حين وجدت المحتفلين بذكرى الريحانى قد وقعوا فى مأزق حرج، فهم يمتدحون الممثل الناشئ الذى يقوم بدور الريحانى ويصفقون له ويضحكون ويقهقهون ويضمنون له النجاح الباهر، ثم يؤكدون فى الوقت ذاته أن «الريحانى» فريد زمانه ووحيد أوانه والدهر عاجز عن أن يجود بمثله، فهذان قولان متناقضان، عليهم أن يختاروا بينهما وإلا فهم غير صادقين فى أحدهما، وأترك لهم حرية الاختيار.

نجيب الريحاني 

 

الأديب يحيى حقي 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات مشابهة

  • مجموعة فلسطينية تكشف معلومات عن أحد قتلة السنوار / فيديو
  • أنشودة البسطاء|رحلة يحيى حقى مع المسرح.. من «قنديل أم هاشم» إلى مدرسة النقد
  • سيارات الإسعاف تنقل ضحايا قصف مدرسة تؤوي نازحين بمخيم النصيرات
  • بالفيديو.. الشهيد السنوار وعلم فلسطين يزيّنان قمة الدوري التونسي
  • كشفت معلوماته..مجموعة فلسطينية تهدد أحد قتلة السنوار (فيديو)
  • مجموعة فلسطينية تكشف معلومات عن أحد قتلة السنوار
  • نبوءة السنوار تتحقق.. وإسرائيل تواجه أزمة عالمية بسبب ملاحقات جنودها دوليا
  • إيران بين «طوفان» السنوار و«طوفان» الشرع
  • الحاج قاسم سليماني وتحرير فلسطين.. وحدة سوح الحرب واستراتيجية مُستمرّة
  • عراقتشي: الضربات التي توجّه إلى محور المقاومة لا تعني نصر الأعداء