عندما التحقتُ بالعمل في جامعة السلطان قابوس منذ بداية افتتاحها عام ١٩٨٦، كان قد مرّ على اعتلاء المرحوم السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- ستة عشرة عاما واجهت عمان في سنواتها الأولى حروبا ضارية استغرقت خمس سنوات، وهي تجربة صعبة حينما ضربت التيارات الأيديولوچية جنوب عمان «ظفار»، وقاد السلطان الشاب حربا في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة للغاية، إلا أن إرادة العمانيين اجتمعت على الوقوف خلف هذا الابن البار الذي صمم على جمع الشمل واستثمار الموارد المتواضعة وقتئذ في خوض تلك الحرب التي وجدت من يقف خلفها لتأجيج صراع استهدف نشر أفكار وأيديولوچيات كانت أبعد ما تكون عن ثقافة العمانيين الذين التفوا حول سلطانهم الذي أصر على أن تستعيد عمان مكانتها التاريخية، وكان شعاره دائما دعوة كل أبناء وطنه إلى المشاركة في بناء الوطن وإلقاء السلاح، وهي سياسة وجدت قبولا من غالبية العمانيين، الذين التفوا حول قائدهم.
بعد عشر سنوات من توقف الحرب راح السلطان يجوب عمان من شمالها إلى جنوبها، يلتقي بالناس، يتحدث إليهم، يشاركهم أحلامهم إيمانا منه بأن إدارة الدولة بالحب والحوار هو الطريق الأمثل لتحقيق أحلامه الكبيرة، وكانت الجامعة (جامعة السلطان قابوس) واحدة من منجزات هذه المرحلة، وقد توالت المشروعات الكبيرة التي شاهدها الناس على أرض الواقع؛ شق الطرق، بناء المدارس، دخول الكهرباء والمياه النقية إلى القرى والمناطق الوعرة، إقامة المشروعات الاقتصادية في الزراعة والصناعة وكل مرافق البنية الأساسية، كنت أشعر وأنا أرقب هذه التجربة بقدر من التقدير والاحترام نحو تجربة تستحق الإشادة، في ظل تحديات صعبة، لكن إرادة الحاكم المستنير كانت أكبر من كل التحديات، كنت أرى مظاهر الفخار والامتنان على وجوه كل العمانيين، جميعهم كانوا فخورين بتجربة وطنهم.
رأيت ذلك رأي العين من خلال الجيل الأول من الشباب الذين التحقوا بالدراسة في الجامعة، جميعهم فخورون، متحمسون متطلعون نحو مستقبل عظيم يملأهم الطموح والرغبة في أن يتخرجوا من الجامعة لكي يشاركوا في هذا المشروع الكبير، كنت أتحدث معهم يحملون أحلامهم وإيمانهم بمستقبل كبير ينتظرهم، وما كان يلفت نظري طموح الفتيات وثقتهن في مستقبلهن، وإقدامهن على الدراسة، وعزمهن على التفوق، الجميع كانوا مؤمنين بالقيادة التي شاركتهم أفراحهم، وعندما تخرج الجيل الأول من الجامعة تلقفتهم مشروعات التنمية في التعليم والاقتصاد والصحة والإدارة، وكل مشروعات الدولة في مختلف المجالات، جميعهم كانوا بمثابة القاطرة التي دفعت بالمجتمع إلى مستقبل جديد من خلال قيادات شابة أعتقد أنها حظيت بتعليم جيد، بعد أن وفرت لهم الدولة كل الإمكانات ابتداء من البيئة الجامعية التي أتاحت لهم تعليما جيدا وسكنا مناسبا، ووفرت لهم القدر المناسب من الأنشطة الاجتماعية والرياضية والفنية، لكي يتفرغ الطلاب للدراسة الأكاديمية التي أقبلوا عليها بكل جد وعزيمة.
أمضيت في الجامعة ما يقرب من ست سنوات، تركتها وأنا فخور بمشاركتي في تلك التجربة التي سأظل طوال حياتي معتزا بها، ولم تفارقني هذه التجربة طوال هذه السنوات، وشاءت الظروف أن أعود إلى الجامعة أستاذا زائرا عام ٢٠١٧، لكي أتولى التدريس في الفصل الدراسي الأول، ورحت أستعيد كل ذكرياتي الجميلة في الجامعة التي التحقت بها في المرة الأولى، ولم أكن قد تجاوزت الخامسة والثلاثين عاما، وعدت إليها وأنا أقترب من نهاية الستينيات من عمري، وتضاعفت سعادتي حينما اكتشفت أن الجامعة قد اتسعت كثيرا في عمرانها، وأضافت برامج جديدة لدراسة المسرح والسياحة والموسيقى وتكنولوجيا المعلومات، وهي برامج يحتاجها المجتمع لكي يكتمل مشروعه الكبير، وقد لاحظت أن قاعات الدراسة أصبحت كبيرة، بينما كنا ندرس في قاعات صغيرة، لكن القلوب كانت أكثر شفافية، والنفوس أكثر محبة.
كنت أدرس بعض مقررات التاريخ الحديث والمعاصر للمرحلة الجامعية، فضلا عن مرحلة الماجستير، وقد تملكني شعور بالفخار حينما دخلت إلى الطلاب وعرَّفتهم بنفسي، ورحت أتحدث إليهم عن المقرر الدراسي، والمنهج الذي سوف نعمل عليه، وفي كل مرة كنت أعود إلى تاريخ عمان القديم والمعاصر، وأقارن بين العصور التاريخية ما بين عصر اليعاربة وعصر دولة البوسعيد، وصولا إلى النهضة الجديدة، التي تنشد عودة عمان إلى مجدها القديم، في ظل أدوات عصرية حديثة، لم أكن أتوقف عند المقرر الذي يدرسه الطلاب، بل كنت أقارن بين سياسات اليعاربة وسياسات البوسعيديين، من قبيل التحديات الإقليمية والاقتصادية وعوامل النجاح والإخفاق في كل تجربة، كنت كثيرا ما أتجاوز سياقات المقرر الدراسي إلى سياقات مشابهة في التاريخ العماني، الذي قد يبدو للبعض أن كل تجربة منقطعة السياق عما سبقها، إلا أنني كنت أرى أن كل التجارب تمثل سياقا متصلا، لا يفصل بين كل هذه السياقات إلا أسماء الأئمة والسلاطين والحروب القبلية، التي تجد دائما من يقف خلفها من وراء الحدود، وكل النجاحات والانتصارات التي مكنت العمانيين من السيطرة على البحار والمحيطات لم تتحقق إلا بفضل وحدة العمانيين، والتفافهم حول إمامهم أو سلطانهم، غالبا ما كنت أفتح المجال للحوار مع الطلاب، وكثيرا ما كنت أربط الماضي بالحاضر، بل والمستقبل أيضا، وكثيرا ما كنت أتوقف لكي أعود إلى الحديث عن عمان قبل عصر النهضة ومعاناة شعبها في مجالات الصحة والتعليم ووعورة الطرق، والمعوقات الهائلة التي تربط الساحل بالداخل، وهي معوقات لم تكن مادية فقط، بل كانت ثقافية واجتماعية.
الجيل الأول ممن درست إليهم في حقبة ثمانينات القرن الماضي، كانوا جميعا فخورين بتجربة وطنهم، مؤمنين بقيادتهم، وأكثر حرصا على التحصيل والاجتهاد، بينما الجيل الذي التقيت به عام ٢٠١٧، كان أكثر خبرة في الوسائل التكنولوجية والتقاط المعلومات عبر وسائل الإنترنت وبنك المعلومات، وهو أمر جيد للغاية، لكن الجيل الأول الذي كانت وسيلته الوحيدة هي الكتاب والمرجع والقراءة كان أكثر خبرة ودراية؛ فالبحوث التي يكلفون بإعدادها تعتمد على الوسائل التقليدية، وهو ما يضاعف من تعرفهم على المعلومات من مصادرها الأصيلة، بينما الجيل الجديد لا يجد مشقة، إلا أن معلوماتهم تظل قاصرة بحكم التقاط مادتهم العلمية بطريقة أسهل، إلا أنها تفتقد إلى العمق والتأصيل والبحث والتحليل، والتعرف على الآراء ، حينما يحصلون على المعلومة منزوعة السياق من تاريخها، وهو ما يفقدهم القدرة على دراسة التجربة التاريخية مكتملة، من حيث نجاحاتها وإخفاقاتها، كما لاحظت عزوف الطلاب عن القراءة، معتمدين على كتب ومذكرات معدة سلفا، يمكن أن تكون مناسبة للمرحلة قبل الجامعية.
لعل مما لاحظته أيضا عدم إلمام الطلاب بتاريخ وطنهم، والدروس المستفادة من التجارب الكبيرة، وعدم معرفتهم بمعاناة أهلهم قبل حقبة السبعينات من القرن الماضي، ولعل لهم العذر لأنهم قد ولدوا جميعا في نهايات القرن الماضي، ومعظمهم لم يكن آباؤهم قد عاصروا هذه التجربة، فهم جميعا قد ولدوا في بلدٍ شيدت فيه كل المرافق الكبيرة منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ولم يقفوا على ما بذله الأجداد والآباء من جهود مضنية، لكي يوفروا لهم هذه الحياة الكريمة، التي جعلت من عمان وطنا يفخر به الجميع، ليس في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية فقط، وإنما فيما تحقق من نجاحات سياسية، جعلت عمان موضع تقدير واحترام العالم، فضلا عن السياسات المستقلة عن كل المحاور التي دفعت بالمنطقة إلى أتون صراعات بددت الكثير من إمكاناتها وطاقاتها.
السياسة التي سلكتها القيادة العمانية منذ سبعينات القرن الماضي جعلت من عمان وطنا متفردا في كل شيء، حياديا بين كل الأطراف المتصارعة، لكن دبلوماسيته كانت دائما تؤدي دورا محوريا في تهدئة الصراعات، وغالبا ما كان موضع ثقة كل الأطراف المتصارعة، لذا احترمه العالم، وقدّرته كل القوى الإقليمية والدولية.
كنت دائما أتحدث إلى طلابي عن تلك السياسات التي لا تنفصل أبدا عن التاريخ العماني، حينما قرّر السلطان قابوس -رحمه الله- نهج هذه السياسة التي ربما كانت جديدة في المنطقة؛ اختيار طريق السلام والسعي بكل جهد وإخلاص، لكي تكون عمان داعمة لكل ما فيه الخير للمنطقة والعالم، وهي السياسة ذاتها التي سلكها جلالة السلطان هيثم بن طارق، معتمدا باقتدار على رصيد هائل من الخبرة الدبلوماسية التي اكتسبتها عمان في ظل صراعات لم تتوقف في المنطقة، وهي سياسة اكتسبها العمانيون من تجاربهم العريقة، ومن وطن له تاريخ.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السلطان قابوس القرن الماضی الجیل الأول إلا أن
إقرأ أيضاً:
المسافة المتحركة بين قصر العلم والكرملين
حمود بن علي الطوقي
ليست المسافة بين مسقط وموسكو؛ حيث يقع قصر الكرملين، مجرد عددٍ من الكيلومترات تقطعها الطائرة؛ بل هي خريطة متبادلة من العلاقات، والمصالح، والرؤى المشتركة التي تتطور مع كل لقاء رفيع المستوى، ولا أدل على ذلك من الزيارة السامية الكريمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- إلى العاصمة الروسية موسكو، والقمة التي عُقدت بين جلالته وفخامة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هذه الزيارة تأتي في توقيت دقيق وغاية في الأهمية لما تشهده الساحة الدولية من تقلبات؛ حيث يتفق الجانبان على مواقف مشتركة حول استمرار الكيان الصهيونى والعدوان الغاشم، على غزة وفلسطين ويدين البلدان استمرار التعنت الصهيوني من جهة وتؤكد على مبدأ الحياد الإيجابي الذي تنتهجه سلطنة عُمان، وسياستها الثابتة في بناء الجسور مع الشرق والغرب؛ بما يخدم مصالحها الوطنية ويحفظ توازنها الدبلوماسي. إنها زيارة ذات دلالات استراتيجية، تُعلي من مكانة عُمان في السياسة الدولية، وتعزز من عمق العلاقات مع دولة كبرى كروسيا الاتحادية.
العلاقات العُمانية الروسية ليست وليدة اللحظة؛ بل تمتد جذورها إلى عقود مضت؛ حيث بدأت الاتصالات الرسمية منذ عهد السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وشهدت مراحل متعددة من التعاون في مجالات السياسة والاقتصاد والطاقة والثقافة. وقد تطورت هذه العلاقة بتأنٍ وهدوء، دون صخب إعلامي، لكنها كانت تتجه دومًا نحو العمق والتفاهم.
وفي ظل التحديات العالمية الراهنة، تفتح هذه الزيارة آفاقًا جديدة للتعاون في مجالات متعددة، أبرزها: الطاقة، والتكنولوجيا، والأمن الغذائي، والسياحة، والتعليم، إلى جانب تعزيز الحوار السياسي والتفاهم حول قضايا إقليمية ودولية.
وفي هذا الإطار، يقود جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- توجهًا استراتيجيًا يُعرف بـ"الدبلوماسية الاقتصادية"؛ حيث أصبحت المصالح الاقتصادية في صلب الحوارات الثنائية بين عُمان وشركائها الدوليين. وقد أكد جلالته- أيده الله- خلال لقائه بفخامة الرئيس بوتين على أهمية بناء شراكات اقتصادية حقيقية بين البلدين الصديقين، وخاصة في قطاع الطاقة. كما عبّر جلالته عن تطلعه إلى توسيع هذه الشراكة لتشمل مجالات أوسع؛ بما يحقق المنفعة المتبادلة ويُسهم في ازدهار البلدين وتعزيز أمنهما الاقتصادي.
وتشير البيانات إلى أن حجم التبادل التجاري بين سلطنة عُمان وروسيا بلغ في عام 2023 نحو 512 مليون دولار أمريكي؛ حيث صدَّرت عُمان إلى روسيا ما قيمته 22 مليون دولار، تركزت في قطع غيار الطائرات والحاويات المعدنية الكبيرة وأجهزة قياس تدفق الغاز والسوائل. في المقابل، بلغت صادرات روسيا إلى عُمان حوالي 490 مليون دولار، شملت المنتجات النفطية المكررة (192 مليون دولار)، والقمح (132 مليون دولار)، والنفط الخام (63.1 مليون دولار).
المسافة المتحركة بين مسقط وموسكو، عنوان يلخص حيوية العلاقات العُمانية الروسية؛ فالمسافات الجغرافية قد تبقى ثابتة، لكن المسافات السياسية والاقتصادية والثقافية تتحرك باستمرار نحو تقارب أكبر وتعاون أعمق. وكل زيارة على هذا المستوى، هي خطوة إضافية على طريق بناء شراكة استراتيجية متوازنة، تحترم الخصوصية وتبني على المصالح المشتركة.
إنها ليست زيارة بروتوكولية؛ بل رسالة واضحة مفادها أن سلطنة عُمان، بقيادة عاهل البلاد المُفدى، تواصل دورها البناء على الساحة الدولية، وتسعى لتفعيل دبلوماسية الحوار والانفتاح، في زمن تحتاج فيه الشعوب إلى مزيد من التفاهم، لا التصادم.
ويصادف هذا العام مرور أربعين عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين سلطنة عُمان وروسيا الاتحادية، وهو ما يضفي على زيارة جلالة السلطان طابعًا رمزيًا واحتفائيًا. أربعة عقود من التعاون والحوار البنّاء، أثمرت عن علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وتُعدّ هذه المناسبة فرصة لتجديد الالتزام من الجانبين بالمضي قدمًا نحو آفاق أرحب من التعاون الثنائي في مختلف المجالات.
رابط مختصر