جاء رمضان... وبسرعة ذهب رمضان.
وكان ولابد أن يأتي هذا السؤال، وهو ماذا يجب علينا بعد رمضان، بل وبعد كل موسم من مواسم الطاعة؟
ماذا بعد شهر الجد والاجتهاد والتشمير، بعد أن كان القرآن حياتنا، والصلاة والوقوف بين يدي الله لذتنا، وذكر الله غذاءنا؟
ماذا بعد الصيام والقيام والذِكْر والطاعات والدعوات والصدقات وقراءة القرآن وفعل الخيرات؟
ثم استقاموا
إنها الاستقامة.
أن تعتصم بالسير على الطريق، وأن لا تحيد عنه.
قال أبو بكر رضي الله عنه: "استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً".
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لم يروغوا روغان الثعالب".
فيحاول العبد أن يستقيم على طاعاته بعد رمضان، وألا ينقطع عنها كليا.
أسباب معينة
فالاستقامة هي الحل وهي السبيل، وهذه الاستقامة لا تتأتى بالأماني، وإنما لها شرائط وأسباب.. منها:
أولا: الاستعانة بالله:
أن تعلم أن الذي أقامك لعبادته في رمضان هو الله، وهو وحده القادر على أن يعينك على المداومة والاستمرارية فليست الاستقامة قوة منك ولا قدرة فيك، ولا فتوة في جنابك، وإنما هي محض منة الله وفضله أن يوفق عباده للطاعة ثم يتقبلها منهم، وهذا الاعتراف منك هو بداية الاستقامة. أما الناظر إلى عمله المحسن الظن بنفسه الذي يظن أن عبادته إنما هي بقدرته وقوته؛ فهذا يكله الله إلى نفسه، ومن وكله الله لنفسه هلك، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا) رواه أبو داود.
ثانيا: المجاهدة:
أن تعلم أن الاستقامة لا تتحصل بالهجوع في المضاجع، ولا بالاستمتاع بكل ما لذَّ وطاب من الشهوات والملذات، بل تتأتى بالمجاهدة والمثابرة والمصابرة.. مجاهدة للنفس، والهوى، والشيطان، ومثابرة على فعل المأمورات والإكثار من الطاعات، ومصابرة عن الشهوات والمنهيات، حتى تأتي بأمر الله على تمامه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت:69)، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}(السجدة:24).
قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا وضع قدمه في الجنة.
وقال الشافعي: لا ينبغي للرجل ذي المروءة أن يجد طعم الراحة، فإنما هو في هذه الحياة الدنيا في نَصَبٍ حتى يلقى الله.
إن الله لا يَمُنُّ عليك بالاستقامة ويذيقك لذتها ويعطيك ثوابها، إلا إذا ثابرت عليها وعملت لها ودعوت الناس إليها، وجاهدت حتى تصل إليها.
ثالثا: رفقة أهلها:
وهذا من أكبر العون عليها، ومن أعظم أسباب الثبات عليها، وقد قال جعفر بن محمد: "كنتُ إذا أصابتني فترة جئت فنظرت في وجه محمد بن واسع، فأعمل بها أسبوع ".. وإنما سهلت الطاعة في رمضان لكثرة الطائعين، ووجود القدوات ييسر الأعمال، وإنما الوحشة في التفرد والغفلة تركب الواحد وهي من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
علامات القبول:
إن من علامات قبول الطاعةِ الطاعة بعدها، فعلينا مواصلة الطاعات ومتابعة القربات، ولا يكن آخر العهد بالقرآن ختمة رمضان، ولا بالقيام آخر ليلة من لياليه، ولا بالبر والجود آخر يوم فيه.. وإذا كان رمضان قد انقضى فإن الصيام والقيام وتلاوة القرآن والعبادة والطاعة لم تنقض.. ومَنْ كان يعبد رمضان فإنه ينقضي ويفوت، ومَنْ كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.. وبئس العبد عبد لا يعرف ربه إلا في رمضان.
ولقد حذرنا الله تعالى أن نكون مثل بلعام بن باعوراء عالِم بني إسرائيل الذي أذاقة الله حلاوة الإيمان وآتاه أياته، ثم انقلب على عقبيه واشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، وانسلخ من آيات الله كما تنسلخ الحية من جلدها: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ}(الأعراف:175).
وحذَّرنا ربنا سبحانه أن نكون مثل "ريطة بنت سعد" امرأة مجنونة كانت بمكة، كانت تغزل طول يومها غزلاً قويًا محكما ثم آخر النهار تنقضه أنكاثا، أي: تفسده بعد إحكامه، فقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}(النحل:92).
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من ترك الطاعة بعد التعود عليها فقال لعبد الله بن عمرو: (يا عبْد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل). وسئلت عائشة رضي الله عنها عن عمله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان عمله ديمة) متفق عليه.. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل) رواه مسلم.
وهذه التحذيرات القرآنية تنطبق على من ذاق حلاوة طاعة الله تعالى في رمضان، فحافظ فيه على الواجبات وترك فيه المحرمات، حتى إذا انقضى الشهر المبارك انسلخ من آيات الله، ونقض غزله من بعد قوة أنكاثا.
وعلى الذين كانوا يحافظون على الصلاة فلما انقضى رمضان أضاعوها واتبعوا الشهوات.
وعلى الذين كانوا يجتنبون شرب المحرمات ومشاهدة المنكرات وسماع الأغنيات فلما غاب رمضان عادوا إليها.
وعلى الذين كانوا يعمرون المساجد ويداومون على قراءة القرآن فلما مضى رمضان هجروا المساجد وهجروا القرآن.
وقد قال أهل العلم إن من أعظم علامات الرد وعدم القبول عودة المرء إلى قبيح الأعمال بمجرد انتهاء زمان الطاعة .. نعوذ بالله من الخذلان.
عبادة حتى الموت
لقد علمنا ديننا أن العبادة لا تنقطع ولا تنقضي بانتهاء مواسمها.. فما يكاد ينتهي موسم إلا فتح الله لنا موسما آخر .. فبمجرد انتهاء آخر ليلة من رمضان بدأت بشائر موسم الحج، وهو الأشهر المعلومات في قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات}(البقرة:197) .. وأولها باتفاق أهل العلم هو بداية شهر شوال.
وسنَّ لنا رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم بعد رمضان صيام ستة أيام من شوال كما جاء في صحيح مسلم عن أبي أيوب قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر). وليس لانقضاء العبادة غاية إلى الموت كما قال تعالى لنبيه: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}(الحجر:99).
اللهم إنا نسألك يا أكرم الأكرمين، كما مننتَ علينا بالطاعة في رمضان، أن تمن علينا بها بعد رمضان.. وكما وفقتنا للقرآن في رمضان أن توفقنا له بعد رمضان. وكما وفقتنا للقيام في رمضان، أن توفقنا له بعد رمضان. آمين.
عن اسلام ويبالمصدر: أخبارنا
كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم بعد رمضان فی رمضان
إقرأ أيضاً:
الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: جاه سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم (1)
اعتاد الناس أن يسألوا الله تبارك وتعالى متوسلين إليه بجاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول أحدهم مثلاً: اللهم أسألك أن تقضى لى كذا بجاه النبى صلى الله عليه وسلم.فهل هذا الدعاء شرك كما يقول البعض؟! وما وجه الشرك فيه؟ وهل الأوْلى تركه؟ وهل يكفى لتركه أن نعلم أنه لم يرد عن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟
لا بد أولاً من الوقوف على معنى (جاه النبى) صلى الله عليه وسلم، الجاه فى اللغة هو المنزلة والقَدر، يقال: لفلان جاه؛ أى: له منزلة وقَدر بين الناس، وجاه النبى صلى الله عليه وسلم منزلته وقدره عند الله تبارك وتعالى.
هذا هو المعنى اللغوى، ولا يوجد بين المسلمين أحد يمارى فى أن لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاهاً عظيماً عند الله تعالى.ولكن هل يجوز التوسل بجاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دعاء الله تبارك وتعالى؟ وهل ورد هذا عنه صلى الله عليه وسلم؟
أما عن السؤال الأول، فلا بد من الوقوف على المراد من قول الداعين: (بجاه النبى صلى الله عليه وسلم)، والمراد بهذا أمر جلى واضح، فالمعنى المباشر: أسألك اللهم وأتوسل إليك بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لديك وقدره العظيم عندك.
وهذا شبيه بأن يسأل شخص أحد أقاربه أن يقضى له حاجة فيسأله بحق قرابته وما بينهما مِن رحِمٍ استعطافاً واستدراراً لإحسانه، وهذا قد ورد فى القرآن الكريم، قال الله تبارك وتعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ»، فقد قُرئت هذه الآية بجر كلمة (الأرحام)، والمعنى على قراءة الجر: اتقوا الله الذى تتساءلون به وبالرحِم فيما بينكم، فيقول بعضكم لبعض مستعطفاً: أسألك بالله وبالرحم أن تفعل كذا. وقد كان من عادة العرب أن يقرنوا الأرحام بالله تعالى عند الطلب، فيقول بعضهم لبعض: أسألك بالله وبالرحم.
ومعنى السؤال بالرحم أن السائل يُذكّر المسئول بشىءٍ له منزلة عنده يحمله على الجود والإحسان والرحمة والشفقة، والسائل هنا لا يتوجه للرحم بالسؤال، وإنما توجهه للمسئول، وليس ذِكر الرحم سوى وسيلة يستدرّ بها رحمة المسئول وإحسانه حتى يعطيه ما أراد.
والقرآن الكريم ذكر هذا ولم يبطله. ولو كان فى هذا أدنى غضاضة لأبطله القرآن الكريم.وإذا عدنا لما نحن بصدده، فسنجد أن الداعى هنا يتوجه لله تبارك وتعالى متوسلاً بمنزلة الحبيب، صلى الله عليه وسلم وقدره العظيم عنده سبحانه، وليس فى هذا توجه لغير الله سبحانه وتعالى بالدعاء، بل التوجه إليه وحدَه، فأين الشرك هنا؟!
البعض هنا يقول: التوسل يجوز بأن يتوسل الداعي بإيمانه بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بذاته أو جاهه!والحق أن المتوجه لله تبارك وتعالى بالدعاء متوسلاً بسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو مؤمن بالله رباً وبسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، نبياً ورسولاً وبالإسلام ديناً، بدليل إقباله على الله تعالى، وإدراكه لعظم منزلة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولكن فى توجه الداعي بجاه النبي أدب ليس فى الدعاء بالإيمان!
نعم.. فالداعي بالإيمان يعتدّ بإيمانه ويرى أنه يستحق به الإجابة، فهو ناظر لنفسه، أما الداعي بالجاه فهو لا يرى نفسه أهلاً للإجابة، لذا فهو يدعو بجاه مَن هو أهل لها، فهو يتوسل بمن سيقبل الله تبارك وتعالى شفاعته فى الخَلق جميعاً يوم القيامة، وهذا أرجى للقبول، وفيه تواضع أكثر.
هذا أمر، وثَم أمر آخر، هو أن الدعاء بسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أوْلى من الدعاء بمجرد الإيمان به صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن (الإيمان) معناه التصديق، والمؤمن بأي شيء مصدق به، فالمؤمن بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدق، والمؤمن بعدم إرسال رسول مصدق بذلك، كلاهما مُصدّق.
ولكن إيمان المؤمن بالله تعالى فضيلته أنه تصديق بنبي الله، صلى الله عليه وسلم، وهو الحق، فالفضل فى المؤمن به وليس فى مجرد الإيمان، فالدعاء إذن بالمؤمن به، صلى الله عليه وسلم، أولى من الدعاء بمجرد الإيمان، لأن هذا الإيمان لم يكتسب وجاهته إلا بكونه متعلقاً بسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم.