محمد خليل أكاد أجزم، ابتداءً، بأنني لن أستطيع أن أفي الأستاذ الدكتور إبراهيم السعافين، ولا سيرته “سلالة السنديان” كامل حقهما ومستحقهما من المراجعة الوافية، ولا من التقدير والثناء، من خلال هذه العجالة. والسعافين، في حكمه كما هو معروف، قيمة إنسانية وقامة علمية متميزة بالكفاءة والجدارة. ثم أنوّه إلى أنني لن أعرض هاهنا لترجمة السعافين الخاصّة ولا لمنجزاته الأكاديمية، أو الشهادات والدرجات العلمية العينية التي حازها، أو المؤلفات والدراسات والمقالات والمشاركات في المؤتمرات العربية والأجنبية، ولا لعمله ونشاطه الأكاديمي في الجامعات العربية وغير العربية، والجوائز التي أحرزها، أو ما يتمتع به من محبة الطلاب والزملاء، أو صفاته الشخصية، وفي مقدمتها مزاياه الإنسانية، والتواضع والثقافة، لا لسبب إلا لأنه ليس المجال هنا لاستعراضها! وإن كان من اللافت، أن السعافين نفسه لم يتوقف في سيرته “سلالة السنديان” إلا عند القليل القليل منها، وفقط بما يمليه السياق أو تفرضه الضرورة! الكتاب “سلالة السنديان” سيرة ذاتية للأستاذ الدكتور إبراهيم السعافين، الصادر عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع، عمَّان، 2023، ويقع في 357 صفحة من القطع الكبير.
وأول ما يستوقفنا، في السِّيرة، عنوانها “سلالة السِّنديان” أولى عتبات النَّص بل هو نص قائم بذاته. ولشد ما يصاب المرء بالدهشة والإعجاب لهذا العنوان لعمقه ورمزيته! فقد جاء مناسبًا ومنسجمًا نصًا وروحًا مع المضمون، كما أنه ينطبق، إلى حدٍّ كبير، وربما عن سابق قصد، على كل من المؤلِّف، وعلى جميع بنات وأبناء جلدته! وفي الحق، لقد كان الكاتب ناجحًا وموفقًا إلى أبعد الحدود في اختياره للعنوان إياه، وكذلك في توظيفه الفني الرامز لشجر السِّنديان! ما هو معروف أن شجرة السِّنديان وما تحمله من رمز، تمتاز بأنها معمرة ودائمة الخضرة، وبقدرتها الفائقة على التحمُّل في مواجهة شظف الحياة القاسية وتحدي ظروف الطبيعة الصعبة! فشجرة السِّنديان، بمنظور ما، هي شعبه الذي ينتمي إليه، والكاتب من سلالته. فكما هي شجرة السنديان في قوة تشبثها بالحياة، كذلك هو شعبه في قوته وقدرته على الصمود والإصرار على النجاح، لا بل والتفوق في مجالات الحياة المتعددة، وعلى البقاء في الأرض والوطن، على الرغم مما واجهه ولا زال يواجهه، إلى الآن، من صعوبات جمَّة في رحلة عذابه ودروب آلامه! وقد يجب التأكيد، من جديد، على أن “سلالة السِّنديان” ليست سيرة الذات المفردة والمتفرِّدة فحسب، إنما قد تصح لأن تكون سيرة نموذجية، تشبه، في بعض جوانبها جزءًا كبيرًا من بنات وأبناء شعبه بأسره، فرادى وجماعات على حد سواء. فهي سيرة يمكن أن تلامس بشكل أو بآخر، واقع الكثيرين منهم، لاسيما أولئك الذين عانوا ما عانوه من صنوف العذاب، في أعقاب مأساة النكبة عام 1948، ومن أحمال التهجير والارتحال، وقسوة الحياة التي تكاد تنوء بها الجبال! لكنهم وعلى الرغم من كل ذلك صمدوا صمودًا أسطوريًا أذهل العالم، وقبلوا التحدي والتضحيات بصبر ورباطة جأش! والسِّنديانة، كما أراها، هي الذات المفردة وهي جزء من كل، من غابة السِّنديان وهي الذات الجمعية، في علاقة عضوية أبدية بين الشجرة والغابة لا يمكن أن تنفصم عراها! هي العلاقة ذاتها بين الفرد من جهة وبين الشعب من جهة أخرى! تمامًا كما هي قطرة الماء في ارتباطها بالنهر أو البحر! هكذا هو الشعب أيضًا في عراقته وأصالته وتجدده، إنه من “سلالة السِّنديان” العصيَّة على القهر أو الاجتثاث! والسِّنديان، ما أسرع نهوضه وعودته إلى الحياة من جديد! قد لا أبالغ إذا قلت هي سيرة ذاتية وجمعية شاملة في الوقت نفسه وبكل المقاييس! وهي، إلى ذلك، تحتوي في تضاعيفها على الكثير الكثير مما يفرح ويحزن ويؤلم، ومما يبعث على الأمل والتفاؤل، على المستوى الفردي والجمعي أيضًا! “سلالة السِّنديان” كما سبق أن ذكرت هي سيرة ذاتية فرديَّة وجمعيَّة معًا وفي آن، وإن المرء لا يملك إلا أن يصاب بالدهشة والانبهار أمام قدرة الكاتب وجلده على تدوين وهندسة تلك السيرة، وإخراجها على النحو الذي خرجت به إلى النور! وذلك لشموليتها وغزارتها، فهي طويلة عريضة عميقة! لكنها غنيَّة حافلة بالأحداث والشخصيات والأماكن والمراحل والتجارب، حتى لكأنها لم تغفل لا صغيرة ولا كبيرة، ما جعلني أتذكر، من فوري، الآية الكريمة التي تقول ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾! فكان من الواضح أنها عمل جاد يحتاج إلى جهد وتركيز كبيرين، ناهيك عن الوقت الذي يستغرقه إنجازه، لذلك لا غرابة أن كُتبت السيرة منجّمة أو مفرَّقة لا مرة واحدة! وللإشارة فقط، فإن المؤلِّف لا يكاد يُرى منفردًا متفرِّدًا في مركز السِّيرة وهو يبوح بمكنوناتها، ويسرد أحداثها إلا بمقدار ما يلزم، أو ما يفرضه السياق، على الرغم من أنه هو صاحبها وهو السَّارد فيها، وفي أحيان كثيرة كنا نراه لا يعدو كونه كسائر الشخصيات التي تتحرك في السِّيرة ليس أكثر، فالإيثار لا الأثرة غالب على أمره! قد لا أجانب الصواب إذا قلت إنه كان أحيانًا يفرد مساحة للآخر، ويشاركه في صنع الحدث أكثر مما يفرده لنفسه، وكان ينسب الفضل لصاحبه، ولا يبخسه حقه فيه. وقد تجده أحيانًا كثيرة أيضًا يتحدث عن أقرانه وأصدقائه وزملائه وأساتذته بمنتهى الصدق والأمانة والشفافية، ويشاركهم معه في صنع الحدث، أكثر مما يتحدث عن نفسه، لدرجة أنك كنت تجده، يكاد ينسى نفسه في غمرة سرده للأحداث واستطراده في تفصيل الكلام! والكتابة، بمنظور ما هي إلا الكاتب، أو هي مرآة تعكس أو تكشف بعض جوانب الكاتب في أقل تقدير! تكلم لأعرفك، واكتب لأعرفك! فوجدنا أنفسنا في حضرة إنسان عميق الفكر حصيف، ملم، عاطفي، مثقف يمتح من مخزونه المعرفي ومخزونه الحياتي الواسع. والأهم من ذلك كله أمام قامة أكاديمية تمسك بتلابيب اللغة العربية شكلًا ومضمونًا، لكنه إنسان متواضع في علمه، غير متعال، دمث الأخلاق، ودود، متسامح، محبٌّ لمن يعرفه وحتى لمن لا يعرفه، فجاء تمامًا كقول الشاعر: العلم حرب للفتى المتعالي كالسيل حرب للمكان العالي في رحلة وجدانية ممتعة، من أجمل ما يكون، يصحبنا المؤلِّف وبدون تكلُّف، لكن بانسيابية وأريحية، وجريان متدفق، وبصراحة وشفافية لافتتين، ليطلعنا على محطات وأحداث مهمة وأحيانًا حاسمة، لكنها سارَّة، من مثل تلك الأيام الخوالي، أو كما يطلق هو عليها “أيام الصداقة والفرح والحب والبراءة”! وأخرى من الأحداث ما قد يحبس الأنفاس وأنت تقرأها وتتابعها بشغف لا ينقطع حبله، وإن تكن، في بعضها، غير سارَّة، لكنها مدهشة ومؤثِّرة وشاقَّة من حياته الحافلة والغنية لدرجة الطفح! وأيضًا عن مسيرته العلمية والتعليمية في مراحلها المتعددة. ولا يضيره من حين لآخر، أن يتوقف حتى عند أدق التفاصيل للأحداث! كذلك، لا بدَّ من الإشارة إلى أن من تلك الأحداث وذكرياتها مما حفلت بها السِّيرة، ما هو مفرح وما هو مؤلم، بل ومنها ما هو مفجع لا زال راسخًا في ذهنه ومسكونًا به إلى اليوم، يرافقه تأثيرها ويتبعه أثرها فلا ينساها أنَّى حل أو نزل! وقد لمست مثل ذلك بنفسي عيانًا، أثناء حفل إشهار الكتاب وتوقيعه في مركز محمود درويش بمدينة رام الله! أو كما يقول في إحدى المناسبات “وما زلت حتى الآن حين أقلِّب ألبوم الصور في تلك المرحلة أذكر ما قاله حسن [أحد أصدقاء الكاتب من أيام الدراسة الجامعية م. خ.] وتدمع عيني أسفًا على ما فات من صحبة وذكريات”! يفتتح السعافين سيرته الذاتية، بعد المقدمة، وتحت عنوان “ظلال الذاكرة” وهو طفل فيقول في مسقط رأسه “أذكر ظلالًا أو خيالات عن قريتي (الفالوجة)”! قرية فلسطينية مهجرة ومدمرة من قرى الوطن، تقع في الجنوب بين غزة والخليل! ولا يفوته أن يحدثنا عن غير محطة في حياته مثال ذلك: مخيم البريج في قطاع غزة، والخليل، ومخيم الدهيشة، ومخيم الكرامة القريب من الشونة الجنوبية، ومخيم عقبة جبر قرب أريحا، وغيرها وغيرها من المحطات في حياته. وفي تواضعه المعهود يخبرنا قائلًا “كان الرعي رفيقي منذ زمن طويل، فمنذ المرحلة الابتدائية والأهل يوكلون إليَّ رعي ما يأتون من مواشٍ ولا سيما الضأن والماعز”! ليصبح في قادم الأيام أحد الأعلام، ثم مَن مِن الأنبياء أو الرسل صفوة البشر لم يرع الماشية؟! في المقابل يخبرنا الكاتب بأسلوبه السردي السلس والممتع بأنه كان يعيش حياته أثناء مرحلة الدراسة الجامعية في القاهرة، بطولها وعرضها، على مقاعد الدراسة داخل أسوار الجامعة وخارجها، يشارك في الرحلات إلى معالم القاهرة والإسكندرية وأسوان، ويرتاد عروضًا للسرك وأخرى للسحر، وموسم سيدنا الحسين في رمضان ومشاهدة المسرحيات على المسرح القومي المصري والمسارح الأهلية، ومشاهدة الأفلام العربية والأجنبية في دور السينما وغيرها! ولا يتردد صاحب السِّيرة للحظة بالتصريح أنه ما كان له لأن يبوح بكل شيء مما يحتفظ به في جعبته أو في خبايا نفسه، وأن ما وصلنا به وأطلعنا عليه من مخزونه المعرفي والثقافي والحياتي لم يكن غير جزءٍ لا يتجزأ من غيض فيضه، أو معين علمه ومعرفته! يقول في المقدمة “وقبل سنوات قال لي أحد الروائيين الأصدقاء: سمعت أنك بدأت بكتابة سيرتك الذاتية، أو أنك تفكر في كتابة سيرتك الذاتية! فأجبته أن نعم! فقال لي: وهل ستقول كل شيء؟ قلت له: بالطبع لا”! هكذا يمضي بنا الكاتب بواقعية متناهية متنقلًا من محطة إلى أخرى، بأسلوب سردي عفوي رشيق، بسيط ومفهوم، يخلو من أي غموض أو تعقيدات مركبة، والأهم من ذلك كله بدون تكلُّف أو تصنُّع. والسرد بمنظور ما هو “مجمل الظروف المكانية والزمنية الواقعية والخيالية التي تحيط به. فالسَّرد عملية إنتاج يمثل بها الراوي دور المُنتِج والمروي له دور المستهْلِك، والخطاب دور السلعة المُنتَجَة”! (زيتوني لطيف، معجم مصطلحات نقد الرواية، مادة سرد، دار النهار للنشر، 2002). فالكم الهائل الذي ذكره وتذكره وأحصاه الكاتب في السيرة من الأماكن، والدول، والمدن، والمخيمات، والأشخاص، والمراحل، لوحده يحتاج إلى دراسات خاصة قائمة بذاتها! وعندما يعرض لقضايا وطنية أو قومية أو سياسية، فإنه يفعل ذلك بأسلوب الأديب الأريب والأهم بذكاء ولباقة! وإني لأرجو أن لا أكون مجانبًا للصواب إذا قررت بأن مؤلِّف “سلالة السِّنديان” لا يدوِّنها فقط، إنما يعيشها نصًّا وروحًا تمامًا كما هي على أرض الواقع. يقول الشاعر الفرنسي جان ليسكور (1912-2005) “الفنان لا يبتدع أسلوب حياته، بل يعيش بالأسلوب الذي يبدع به”! على المستوى الشخصي أقول: لقد آليت على نفسي أن أقرأ “سلالة السنديان” حتى الثمالة وبشغف متزايد، في فترة قصيرة نسبيًا. وأن لا أقول إلا كلمة حق وصدق، من دون محاباة أو مواربة أو مجاملة! أترك الحكم فيها للقارئ الكريم. ولم أفرغ منها إلا وفي جعبتي حمولات من القيمة المضافة في اللغة شكلًا ومضمونًا والدلالات، والتجربة والخبرة والحكمة والوعي والثقافة والإرادة والأمل وماذا بعد؟ سئل المأمون ذات مرة: ما أحب الأشياء إليك؟ قال: التنزه في عقول الناس! يعني القراءة! و”سلالة السِّنديان” كتاب غنيٌّ بكل ما للكلمة من معنى، كتاب جدير بالقراءة والاهتمام، فهو يحقق المتعة والفائدة: الجمالية والمعرفية في آن! ولم أجد لأنهي به ما بدأته أفضل مما أنهى به صاحب “سلالة السِّنديان” إذ كتب يقول تحت عنوان “كلمة أخيرة” “على أن الحياة مهما تكن الكبوات والإخفاقات والانهيارات يجب أن تستمر، ويجب أن يستمر الحلم، لأن الأحلام لا تعيش مع الأفراد وحسب… مشينا على الشوك، جبنا المتاهات والمنافي، ولفحتنا الصحارى بصهدها وقسوتها، وعانقنا رمالها الحارقة، وذقنا جمالها المستكنّ في أعماق الجغرافي والتاريخ، وظل الحلم فينا لا يغيب. فرفع رؤوسنا إلى السماء نسأل عن يوم لا شك آتٍ، يوم عرس المفاتيح إلى أقفالها بعد غياب، عن البيوت المشوقة، طويل طويل”! طرعان/الجليل
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
حمد إبراهيم يُعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة بيراميدز بالدوري المصري
يستعد فريق الكرة الأول بالنادي الإسماعيلي لمواجهة نظيره بيراميدز ضمن منافسات الجولة الخامسة من بطولة الدوري المصري الممتاز.
وأعلن حمد إبراهيم المدير الفني لفريق الكرة الأول بالإسماعيلي قائمة لاعبيه استعدادًا للقاء بيراميدز غدا السبت في إطار منافسات مسابقة الدوري المحلي.
وجاءت القائمة المختارة للدراويش في مواجهة بيراميدز كالتالي:
حراس المرمى: كمال السيد، عبد الله جمال
خط الدفاع: عماد حمدي، محمد نصر، محمد عمار، محمد بيومي، عبد الكريم مصطفى، حاتم سكر.
رمضان صبحي يتصدر غيابات بيراميدز أمام الإسماعيلي الإسماعيلي
يستعد لمواجهة بيراميدز بعد غياب أحمد عادل عبد المنعم للإصابة
خط الوسط: هشام محمد، محمد حسن، محمد عبد السميع، عبد الله السعيد، عبد الرحمن الدح، محمد خطاري، عمر القط، على الملواني، إبراهيم عبد العال، إيريك تراوري، مروان حمدي، نادر فرج.
وفي الهجوم: خالد النبريصي، محمد زيدان.
وتذاع المباراة عبر مجموعة قنوات أون تايم سبورتس الناقل الحصري لبطولة الدوري العام وجميع البطولات المحلية.