فحص المجتمع المصري الآن.. القيود والفرص
تاريخ النشر: 13th, April 2024 GMT
لم تتوقف مختلف المدارس التي تستعمل المناهج والأدوات العلمية في النظر إلى المجتمع المصري، لتحديد المشكلات التي يعاني منها، والمقترحات والتوصيات التي تحمل حلولًا لها، لكن هذا يتم، في الغالب الأعم، دون تنسيق يُكسبه الشمول، الذي يجعلنا نرى المشكلة أو الظاهرة أو القضية أو المسألة في ارتباطها بغيرها، مثلما يجري في الواقع المعيش.
دراسات متناثرة تحركها رغبة باحثي علم الاجتماع في نيل الترقيات الجامعية، أو تلبية رغبات بعض مؤسسات الدولة، حين تنتبه إلى ضرورة إجراء دراسة اجتماعية معينة قبل اتخاذ قرار يمسّ منطقة سكنية، أو طبقة أو شريحة اجتماعية، أو فئة عمرية ما. وهناك دراسات تُجرَى لحساب مؤسسات دولية تعمل مع المجتمع المدني، وتريد أن تتحسس موضع أقدامها قبل أن تخطو، وتفهم وتعي قبل أن تدفع أو تموّل.
تغيّرات عميقةتغيب إلى حد كبير الدراسات المتكاملة التي تنطوي على مسح شامل للمجتمع، دون أن تترك شاردة ولا واردة، إلا ونظرت إليها، وأعملت فيها طرائق العلم وأساليبه. فمنذ أن أجرى "المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية" مسحًا شاملًا للمجتمع المصري عام 1981، وهو لم يعُد إلى هذا على أهميته، رغم مرور أكثر من أربعة عقود على ما قام به، وحدوث تغيرات عميقة في المجتمع، تستلزم النظرة الشاملة إليها.
قبل هذا بنحو مائة وثمانين عامًا قدم علماء الحملة الفرنسية كتابهم: "وصف مصر"، الذي درسوا فيه كل شيء في البلاد، ليقفوا على الأحوال الشاملة لبلد غزَوه، وتمنوا أن يبقوا فيه محتلين قرونًا، لكنهم لم يلبثوا أن غادروه مجبرين بعد سنوات ثلاث فقط، تاركين خلفهم لأهله دراساتهم العلمية، التي استفاد منها المصريون في السنوات التالية.
تكرر الأمر بطريقة أخرى مع "الخطط التوفيقية" التي قام بها علي باشا مبارك، وهو يضع تصوراته حول النهوض بالبلاد، لاسيما في مجال التعليم. وهذا العمل وإن كان فيه ظلال لعلم الاجتماع، فإن هدفه الرئيسي انصبّ على وضع أطلس يصف مدن مصر وقراها منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث، فيصف الشوارع والحارات، والمنشآت من مساجد وكنائس ومدارس وزوايا، والآثار منذ الفراعنة، علاوة على تراجم للأعيان والأدباء والأولياء.
ملامح عامةهذه الدراسات الشاملة الثلاث صارت جزءًا أصيلًا من "تاريخ المجتمع" و"تاريخ العلم الاجتماعي"، يمكن العودة إليها كخلفيات لدراسات معاصرة، لكنها لا تغني عن وجود دراسات جديدة لمجتمعنا، تراه في تداخله وتفاعله، أو في التأثيرات المتبادلة للظواهر والمواقف والوقائع والأحداث، التي تتعانق في الواقع، ولا تنفصل إلا على سبيل الدراسة الصغيرة أو النووية، التي تنشغل بشيء محدّد، وتتعمق فيه بعيدًا، لتسبر أغواره.
وهناك دراسات كلية قام بها باحثون مستقلون، نظروا إلى المجتمع من عل، وانشغلوا أساسًا بتقديم التصورات العامة، أو الخلاصات العمومية، فقدموا استبصارًا لم يخلُ من الانطباعات، ولم ينشغل بالدراسات الميدانية، وإن كان قد استفاد من بعضها. وتطل هنا برأسها موسوعة "شخصية مصر" لجمال حمدان، التي انطلقت من الجغرافيا لتحلل الجوانب السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية والحضارية لمصر.
وهناك كتاب "في أصول المسألة المصرية" لصبحي وحيدة، و"الشخصية الوطنية المصرية" لطاهر عبدالحكيم، و"الدولة المركزية في مصر" لنزيه نصيف الأيوبي، ونظرة الطائر التي قدّمها جلال أمين في كتابه "ماذا حدث للمصريين؟".
نحن إذًا أمام ثلاث حالات: دراسات جزئية متناثرة؛ لخدمة المعرفة الاجتماعية، أو تلبية احتياج صنّاع القرار ومتخذيه، ومسح شامل تقادم عليه الزمن، ودراسات كلية رسمت الملامح العامة، ولم تنشغل بالتفاصيل، وإن انشغل بعضها، مثل كتاب جمال حمدان، فإن الجغرافيا كانت فيه الغالبة، وهو يحلل عبقرية المكان.
قيود عديدةلكن المسح الشامل لمجتمعنا يواجه قيودًا عدة، أولها موقف السلطة الحاكمة، التي قد لا تفضل – لأسباب تقول إنها أمنية – دراسة كليةً للمجتمع في صورته الراهنة، وإتاحة مادتها العلمية لـ "العلم العام". وربما تجد السلطة – فيما تقوم به بعض المؤسسات أو الجهات العلمية والإدارية التابعة لها من دراسات متتابعة – ما يغني عن اللجوء إلى العلماء الأكاديميين في الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث.
ففي مصر لا تكفّ جهات مثل: "المعهد القومي للتخطيط"، و"جهاز التعبئة العامة والإحصاء"، و"الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة"، و"الجهاز القومي للسكان"، و"مركز دعم واتخاذ القرار"، التابع لمجلس الوزراء عن القيام بدراسات جزئية، كل فيما يقع في نطاق اختصاصه، وحسب ما يُطلب منه. لكنها دراسات داخلية.
وتقوم "المجالس القومية المتخصصة" بدراسات متنوعة بلا توقف. لكن كل هذا لا يطلع عليه الرأي العام، ولا يكون متاحًا للباحثين من خارج هذه الجهات إلا بشق الأنفس، وكان بعضه يتسرّب إلى الصحافة، فتعرضه في اختزال أو اجتزاء، لكن هذا لم يعد قائمًا في هذه الأيام مع القيود الشديدة المفروضة على الصحف.
ولا يجد القائمون على هذه الأجهزة الباب مفتوحًا أمامهم لإطْلاع الرأي العام على الحقائق، فكثير من الإحصائيات يتم الضنُّ بها، أو إخفاؤها عن آذان الناس وعيونهم، اللهم إلا إذا كان الإعلان تراه السلطة الحاكمة في مصلحتها، أو تنزل على ضغوط عليها أثناء الأزمات للإفراج عن هذه المعرفة الحبيسة. وينطبق الأمر نفسه على بعض الباحثين الذين تستعين بهم السلطة لإعداد تقارير في غرف مظلمة، لا يطلع عليها إلا عدد قليل.
والقيد الثاني مفروض على الباحثين المستقلين، الذين لا يتاح لهم بسهولة إجراء دراسات ميدانية للنشر في دوريات أكاديمية أو إعداد أطروحات جامعية. فالباحث عليه أن يحصل على موافقات عديدة قبل الشروع في بحثه، ومنها بالقطع جهاز الأمن، الذي لديه سلطة رفض بعض الموضوعات، وطلب تعديل أخرى.
غياب الوسيط الواعيويوجد قيد ثالث يخصّ إجراء البحوث الشاملة الجماعية، يتمثل في ضعف التمويل. فالميزانية المخصصة للبحث العلمي عمومًا ضعيفة، إذا قُورنت باحتياجات الدولة والمجتمع. والميزانيات المرصودة لمراكز البحوث، يذهب أغلبها إلى الرواتب والمكافآت، ليبقى نصيب البحث فيها ضئيلًا.
يأتي القيد الرابع المتعلق بالباحثين أنفسهم، فالأغلبية الكاسحة منهم، ينحصر اهتمامها وانشغالها وخبرتها في التخصصات الفرعية، ما يحرم أيّة دراسة يقومون بها لظاهرة اجتماعية من عطاءات العلوم الأخرى، التي يجب أن تكون حاضرة، على قدر تعقد هذه الظواهر الإنسانية، وتدخل جوانب عديدة سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، ودينية، ونفسية، وتاريخية، وجغرافية، وفلسفية، ولغوية، وأنثروبولوجية في تشكيلها. كما يغيب عن الجماعة العلمية، في الغالب، روح الفريق، الذي يمكن أن يعوّض هذا النقص، ويسدّ هذا العجز، ويستجيب لهذه الحاجة الضرورية.
كما تغلب على هذه الدراسات النزعة الأكاديمية البحتة، من حيث الصياغة ومسار البرهنة والإحكام المنهجي أحيانًا، ما يحرم المجتمع العام من الاستفادة منها، لاسيما مع غياب الوسيط الواعي الذي بوسعه أن يهضم ما ينتجه الأكاديميون من دراسات، ثم يعيد صياغتها وعرضها؛ لتكون في متناول القارئ العادي، وليست حكرًا على المختصين في أي فرع علميّ اجتماعي.
لقد بتنا في حاجة ماسّة إلى نظرة شاملة لمجتمعنا، تُشارك فيها عطاءات علوم عدة، وتُصاغ بلغة قابلة للتداول على نطاق واسع. ونحن بحاجة أيضًا إلى من يقومون بمهمة الوسيط بين الأكاديمي والمتلقي العادي باقتدار، وعن طيب خاطر، ليعرف أهل مصر المعاصرون ما آل إليه مجتمعهم الذي هبّت عليه عواصف كثيرة، كنست في طريقها الكثيرَ من الأفكار والتصرّفات، وأتت في ركابها بالجديد، الذي لم يُرصد ويُدرس، إلى الآن، على نحو سليم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
خبير يكشف سبب تراجع البورصة المصرية والفرص الاستثمارية الواعدة (فيديو)
علق الخبير الاقتصادي، أحمد طعيمة، محلل أسواق المال، على أداء البورصة المصرية، مشيرًا إلى أنها تحمل فرص كبيرة وواعدة، وخاصة في قطاعات البنوك التي تشهد انطلاقة وصعود قوي.
البورصة تتراجع بخسائر 3 مليارات جنيه بنهاية تعاملات اليوم البورصة تعقد النسخة التاسعة من مؤتمر البورصة للتنمية بالشرقية
وقال الخبير الاقتصادي، خلال مداخلة هاتفية ببرنامج أرقام وأسواق، إن التراجعات الحالية التي تشهدها البورصة هي طبيعية ومتوقعة في ظل عمليات جني الأرباح، في ظل حالة الترقب لاجتماعات لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي غدًا.
وأشاد بتوقيع مذكرتي تفاهم بحضور الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، اليوم، بمقر مجلس الوزراء بالعاصمة الإدارية الجديدة، بين جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة، وشركة أبوظبي لطاقة المستقبل «مصدر» الإماراتية، بشأن التعاون في تطوير وإقامة مشروع للطاقة الشمسية العائمة بقدرة 5 جيجاوات ببحيرة ناصر، وكذا مشروع تطوير وإقامة مشروع للطاقة الشمسية بقدرة 2.8 جيجاوات بنجع حمادي.
الاستثمارات المشتركة في مجالات الطاقة النظيفةوشدد على أن هذه الخطوة ستعزز الاستثمارات المشتركة في مجالات الطاقة النظيفة، وخاصة الشمسية وطاقة الرياح كمصادر متجددة تنتج الكهرباء، بجانب تبادل الخبرات التقنية بين الجانبين، بما يسهم في تعزيز القدرات الوطنية في تصميم وتنفيذ وإدارة مشروعات الطاقة المتجددة، بما سيدغع أسهم قطاعات الطاقة بالبورصة للصعود.