يبدو أن ترهل مؤسسات الدولة فتح أكثر من ثغرة سمحت لجهاز الموساد الإسرائيلي باستباحته للساحة اللبنانية، مستفيداً من تراجع قدرة الأجهزة الأمنية على مواجهته، خصوصاً أن هذه المؤسسات تدفع الثمن الأغلى لفاتورة الانهيار الاقتصادي والمالي.
وكتب يوسف دياب في" الشرق الاوسط": بدا لافتاً تمكّن الموساد في السنتين الأخيرتين من اختراق البيئة المحسوبة على «حزب الله»، ما سهّل عليه تنفيذ عمليات اغتيال عشرات القادة الميدانيين والكوادر منذ اشتعال الجبهة الجنوبية في الثامن من تشرين الأول الماضي، عندما قرر الحزب تحويلها إلى جبهة «مساندة» لغزة، وكان أبرزها اغتيال القيادي البارز في حركة «حماس» صالح العاروري في عمق الضاحية الجنوبية لبيروت.
وأخيراً، طرحت الجريمة الغامضة التي أودت بحياة الصرّاف محمد سرور داخل فيلا في منطقة بيت مري فرضيّة تصفيته على يد المخابرات الإسرائيلية، وهو ما أشارت إليه الصحافة الإسرائيلية أيضاً، ويتقاطع مع ترجيحات مصادر قضائية لبنانية لهذه الفرضية، بالنظر لـ«المعلومات التي تتحدث عن دوره في نقل الأموال من إيران إلى (حزب الله) وحركة (حماس) في لبنان، ولكونه مدرجاً على قائمة العقوبات الأميركية».
وأكدت المصادر لـ«الشرق الأوسط» أن التحقيقات القضائية والأمنية «تضع فرضيات متعددة»، لافتة إلى أن «البحث عن أدلة تبيّن ما إذا كانت جهات خارجية تقف وراء الجريمة التي نفّذت بتخطيط واحتراف عاليين»، مشيرة إلى «تركيز الأجهزة على (داتا) الاتصالات، سواء التي تلقاها الضحية على هاتفه الخاص، أو حركة الاتصالات التي جرت في الموقع الجغرافي للمكان الذي عثر فيه على جثته».
ويعزو كثيرون تنامي هذه الاختراقات إلى تفكّك الدولة وإضعاف مناعتها، ويعدّ الوزير السابق رشيد درباس أن جريمة بيت مري «حصلت بتوقيع من الموساد، وأن أي جريمة تقع في لبنان هي جريمة سياسية ونتاج طبيعي لتداعي الدولة وانهيار بنيتها».
ويؤكد درباس لـ«الشرق الأوسط» أنه «عندما يتفسّخ المنزل وتزيد تشققاته، لا يمكننا أن نستغرب كيف تعصف به الريح». ويقول: «لا يمكن لأي حزب أو كيان أو ميليشيات أن تحلّ مكان الدولة مهما قويت شوكتها»، معدّاً أن «تفكك الدولة سببه ازدواجية السلطة وسيطرة (حزب الله) عليها»، مضيفاً: «عندما حكم الفلسطينيون لبنان، تفككت الدولة وانهارت، واليوم مع تحكّم (حزب الله) بها نشهد على تمزيق شبكة الأمان المتمثلة بالوحدة الداخلية واتفاق الطائف والحماية العربية والدولية للبنان».
واللافت أن شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي تمكنت في السنتين الأخيرتين، من القبض على ما يقارب 20 عميلاً إسرائيلياً بينهم من ينضوي في صفوف «حزب الله»، وبعضهم مسؤولون سابقون وأبناء مسؤولين حاليين وسابقين، وكشفت المعلومات أن جهاز الموساد «كان يغري هؤلاء بالأموال ويتواصل معهم عبر شبكة اتصالات غير مراقبة، ويعقد اجتماعات معهم في دول مثل تركيا واليونان وقبرص وأفريقيا، ويكلّفهم بالمهمات الأمنية المطلوبة منهم».
هذا الاختراق له مبرراته، بحسب الوزير درباس ويرى أن لبنان «تحوّل إلى ساحة مستباحة، والمؤسف أن الحزب وبدل أن يشكّل مصدر قلق لإسرائيل، بات حملاً ثقيلاً على الدولة.
بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان صيف عام 2000، تحوّل الصراع معها إلى حربٍ أمنية وبدأت مطاردة شبكات العملاء. ويشير رئيس المحكمة العسكرية السابق العميد خليل إبراهيم، الذي سبق له وحاكم المئات من هؤلاء العملاء، إلى أن «النشاط الأمني للموساد في لبنان لم يتوقّف أبداً، لكن انحساره لفترة كان بسبب يقظة الأجهزة الأمنية وقدرتها على تفكيك عشرات الشبكات». ويوضح أن إسرائيل «لديها شبكات تجسس تنشط في بلدٍ مفتوح أمنياً، ومشرّعة أبوابه إلى حدّ كبير، خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها السلبية جداً على المؤسسات العسكرية والأمنية وقدرتها الفنية والعملانية والاستخباراتية».
ويؤكد إبراهيم لـ«الشرق الأوسط» أن «العدو الإسرائيلي عزّر قدراته التجسسية، فبات يملك قاعدة معلومات متطوّرة ومتقدمة جداً في استخدام واستثمار الذكاء الاصطناعي إلى الحدّ الأقصى، بالإضافة إلى استثماره في قطاع الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي والبصمات الصوتية وتحديد المواقع والأشخاص بدقّة عالية»، معدّاً أن ذلك كلّه «ترافق مع ضعف لبناني في الوحدة الوطنية وانقسام عمودي وأفقي غير مسبوق».
ويقول العميد إبراهيم: «لا شكّ أن انهيار الوضع الاقتصادي سهّل على إسرائيل تجنيد العملاء بإغراءات مالية، كما أن الموساد استخدم برامج إلكترونية معقدة وغير معروفة حتى تاريخه، مما يصعّب على الدولة اللبنانية عمليتي المراقبة والاختراق».
وعن إمكانية وقوف إسرائيل خلف جريمة قتل الصرّاف محمد سرور، رأى العميد إبراهيم، أنه «من المبكر الحكم على هذه الحادثة، قبل إجراء تحقيق جدّي، وتوفّر معلومات قاطعة عن هوية منفذيها وأسبابها».
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: حزب الله
إقرأ أيضاً:
يحدث في أرقى العائلات: لا يوجد عالم بلا جريمة
خلال هذا الأسبوع تناقلت وسائل الإعلام خبرًا أثار الانتباه، مفاده أن وزيرة الأمن الداخلي الأمريكية، كريستي نويم، تعرضت لسرقة حقيبتها الشخصية من داخل مطعم، وكانت تحتوي على بطاقة دخول حساسة ومبلغ مالي كبير. هذه الحادثة، رغم بساطتها، تفتح بابًا واسعًا للتأمل في حقيقة راسخة: لا توجد بيئة في العالم، مهما بلغت من الرقي والتنظيم وقوة مؤسسات الدولة، تخلو من الجريمة.
قد يظن البعض أن الجريمة ظاهرة ترتبط بالفقر أو الفوضى أو ضعف الدولة، لكن التاريخ والواقع والعلوم الجنائية تثبت العكس. منذ أن كانت الأرض لا يسكنها سوى سيدنا آدم و أمنا حواء وأبناؤهما، وقعت أول جريمة في التاريخ، حين قتل قابيلُ أخاه هابيل. هذا يعطينا قاعدة ثابتة: لا يوجد عالم بلا جريمة، والجريمة جزء من التجربة البشرية منذ نشأتها.
من هذا المنطلق، فإن النقاش حول الجريمة لا ينبغي أن يكون عاطفيًا أو انطباعيًا، بل علميًا وموضوعيًا. فوجود الجريمة في حد ذاته ليس فشلًا، لكن الفشل الحقيقي يكمن في طريقة فهمها، إدارتها، والتعامل معها. هنا يبرز دور الأداة الأهم في التقييم الأمني والجنائي التقرير الجنائي السنوي.
التقرير الجنائي السنوي، الذي تعده الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية، يُعَد خلاصة عام كامل من الرصد والتحليل والتوثيق. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يُستفاد من هذا الجهد في صناعة القرار الأمني والعدلي؟ هل يُحوّل إلى سياسات واقعية وبرامج للتصدي للجريمة أو تعديل في القوانين الإجرائية و العقابية؟
إنّ التقرير الجنائي ليس مجرد سجل لتوثيق عام مضى، بل هو مرآة لما جرى، وبوابة لعام قادم. ويمكن تعظيم فائدته بتحويله إلى قاعدة بيانات قابلة للتحليل الذكي، واستخدام نتائجه في التخطيط الأمني والمالي والبشري، ورفعه إلى صناع القرار السياسي لإبراز التحديات الأمنية الحقيقية. صحيح أن بعض تفاصيله تتطلب درجة من السرية، حمايةً للتحقيقات أو لخصوصية الضحايا، لكن مشاركة بياناته الإحصائية العامة تعزز الشفافية، وتزيد ثقة المواطنين، وتشجع المشاركة المجتمعية في منع الجريمة.
بالتالي، فإن أي تقييم موضوعي للحالة الأمنية والجنائية وأداء الشرطة السودانية يجب أن يستند إلى ما يحويه التقرير الجنائي السنوي من معلومات وإحصائيات وأرقام، لا إلى منشورات وسائل التواصل الاجتماعي أو جلسات تجاذب أطراف الحديث، حيث تسود الانطباعات وتغيب الموضوعية.
قد يرى البعض أن الحديث عن هذه القضايا الآن ضربٌ من الترف، في ظل ما تمر به البلاد من تحديات. لكن العكس هو الصحيح. فنحن في مرحلة إعادة بناء مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الشرطة، ولا يمكن لهذا البناء أن يكتمل إن لم يستند إلى تحليل علمي ومعطيات دقيقة، تنطلق من تقارير موضوعية لا من اجتهادات شخصية.
نحن بحاجة إلى الانتقال من ثقافة الأرشيف إلى ثقافة التحليل، ومن الورق إلى البرمجيات، ومن السرية المفرطة إلى الشفافية الذكية. فالتقرير الجنائي السنوي يمكن أن يصبح حجر الأساس لبناء أمن مجتمعي مستدام، وسياسة جنائية فاعلة تستشرف المستقبل.
ختامًا، الجريمة، كما بدأنا، تحدث في أرقى العائلات. ولكنها ليست نهاية العالم، بل دعوة للتفكير والعمل من أجل بيئة أكثر أمنًا، ومجتمع أكثر وعيًا، ومؤسسات أكثر قدرة على التعامل مع هذا التحدي الأزلي.
عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
٢٤ أبريل ٢٠٢٥م