حاتم سعيد حسن يكتب: ما بين الأساطير والتاريخ والكوميديا والتراجيديا.. الدراما المصرية تنتصر
تاريخ النشر: 12th, April 2024 GMT
بات من الصعب فى هذا الزمن الذى نعيشه أن يقول أحد إن الأعمال الفنية محض ترفيه فقط، ولا سبيل لتلك الأعمال سوى تسلية الجمهور فقط، أصبح هذا الكلام قديماً نوعاً ما، فنحن نعيش بعصر أصبحت كافة الدول تتنافس فيما بينها لنشر ثقافتها ولإعلان قوتها الناعمة، ولكل دولة الحق فى ذلك على وجه الأرض، ولكن تبقى القوة الناعمة المصرية والفن المصرى ذا مذاق وهدف ومعنى خاص.
دوماً ما كان الفن المصرى بالوطن العربى صاحب السطوة الكبرى، ومن خلال العديد من الأعمال الفنية ونجوم الفن من تربينا على أعمالهم كانوا سُفراء لمصر بكل بيت عربى، وكانت المسلسلات بشكل خاص هى التى تنشر ثقافتنا وأفكارنا وعاداتنا، وبالطبع يبقى شهر رمضان الموسم الأبرز لتنافس المسلسلات التليفزيونية وعرضها للجمهور بكافة أرجاء الوطن العربى، ليختاروا ما يشاءون منها، ومع تعدد مصادر المشاهدة فى السنوات الأخيرة أصبح أمام الجميع أن يرى ما يُريد.
إلا أن موسم دراما رمضان هذا العام شهد انتصاراً حقيقياً للدراما التليفزيونية المصرية، حيث تم تقديم أعمال فنية تُناسب كافة الأذواق، وتم تقديمها بحرفية وجودة عالية، والأهم من ذلك أن تلك الأعمال تعدت حدود ترفيه المشاهد، ولكنها تأكيداً وتوثيقاً للريادة المصرية وعودة لمكانة الفن المصرى الحقيقى. شاهدنا جميعاً هذا العالم مسلسلات تليفزيونية تنوعت ما بين الأعمال المستوحاة من التاريخ مثل مسلسل «الحشاشين»، والذى لا يختلف على براعة وجودة تنفيذه أحد، كما تمت أيضاً الاستعانة بالتراث والأساطير فى واحدة من أشهر تلك النوعية من الأعمال، وهى «ألف ليلة وليلة»، ليأتى مسلسل «جودر» الذى يستحق المنافسة بشكل عالمى. وبالطبع استكمالاً لنجاح موسم درامى استثنائى كانت هناك العديد من المسلسلات الاجتماعية التى ناقشت العديد من القضايا الاجتماعية، ولاقت صدى كبيراً لدى الجمهور، مثل «أعلى نسبة مشاهدة، مسار إجبارى»، وكان للكوميديا الهادفة مكان بـ«بابا جه»، تلك الكوميديا التى تستطيع أن توصل معانى تعجز آلاف المقالات عن إيصالها، ولم تغفل الدراما المصرية الحديث عن القضية الفلسطينية، وتأكيد حق الشعب الفلسطينى بـ«مليحة»، والعديد من الأعمال الفنية التى أكدت ريادة الدراما المصرية.
نستطيع أن نقول إن شهر رمضان عام 2024 شهد عودة الفن والدراما المصرية لمكانتها الحقيقية وبقوة لتظل هى المُعبر، وإن القوة الناعمة المصرية قادرة على تحقيق الكثير وليس الترفيه فقط، لتأكيد أن الفن الحقيقى هو الباقى وهو لسان حال الشعوب.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: دراما رمضان المتحدة
إقرأ أيضاً:
محمود مرزوق يكتب: الخواجة جرانجر وسرقة التاريخ
عندما بدأت الثورة الصناعية فى أوروبا كانت صناعة النسيج هى أبرز الصناعات التى أنتجتها هذه الثورة الفاصلة فى التاريخ الحديث.
وفى هذه الأثناء كانت فرنسا وإنجلترا فى حالة تنافس محموم بغية النهوض بصناعة المنسوجات ومن ثم الاستغناء عن الاستيراد من الهند وحواضر الشرق الأوسط مثل القاهرة وحلب وديار بكر والانتقال لمرحلة الإنتاج والاكتفاء الذاتى والتصدير، لكن هذا الطموح كان يواجه عقبة كبيرة تتمثل فى التقنيات المصاحبة لعملية التصنيع، وتحديداً عملية صباغة المنسوجات، فكانت فرنسا تضطر لإرسال أقمشتها لتُصبغ فى هولندا ثم تكتمل عملية تصنيعها فى فرنسا من جديد.
وبدأ الفرنسيون يفكرون فى إيجاد طريقة اقتصادية لتلوين أقمشتهم ومنسوجاتهم تسهم فى النهضة بمشروعهم الصناعى الناشئ، غير أن محاولاتهم لم تُكلل بالنجاح، فبدأوا جولة جديدة من التجسس الصناعى بعدما تواترت لديهم معلومات تؤكد أن أفضل ما يمكنهم فعله هو اقتباس التقنية المصرية فى تبييض وصبغ الأقمشة والمنسوجات، وقد كانت مصر وصُناعها لديهم خبرة متراكمة عبر الزمن فى معالجة الألوان واستنباط الجديد والطريف والمركَّب منها بدراية هائلة وخبرة تناقلوها من عصور ما قبل الأسرات.
وفى الوقت الذى كانت تتطلع فيه فرنسا لطرف خيط يسهم فى نجاح صبغ وتبييض الأقمشة كانت القاهرة تعج بطوائف الصُناع المهرة المدربين على التقنيات التقليدية فى صبغ المنسوجات، فكانت هناك طائفة الصباغين بالأحمر وطائفة البصمجية الموكلين بوضع الألوان الزاهية المتداخلة على الأقمشة.
اقتضى نظام طوائف الحرفيين آنذاك أن تكون الطائفة مغلقة على نفسها ولا تسمح إطلاقاً بوجود دخلاء على المهنة ومن يمارس المهنة دون تصريح من شيخ الطائفة يُعرِّض نفسه للمساءلة القانونية أمام المحاكم الشرعية، والتى كانت تحكم بالقانون الداخلى لكل طائفة.
ولضمان الجودة ومنع التنافسية كانت أسرار الصنعة حكراً على كل طائفة، وهو ما ضمن ربحاً كبيراً للطائفة التى لا ينافسها أحد وتحتكر أسرار الصنعة، غير أن القائمين على صناعة النسيج فى فرنسا كانوا يتطلعون لإنجاح تجربتهم الخاصة بصنع النسيج، وكانت الحلقة المفقودة التى يبحثون عنها هى تقنية إنتاج ملح النوشادر، وهى مادة كيميائية يتم إنتاجها بطريقة تقليدية وتسهم فى ثبات الألوان واستمرارها زاهية فترة طويلة بعد الصباغة والاستعمال، وهنا قرر الفرنسيون استخدام مهارتهم فى التجسس الصناعى فأرسلوا قناصل وتجاراً ورهباناً بهدف جمع معلومات عن تقنية صناعة ملح النوشادر، وجاء النجاح واقتناص المعلومات على يد طبيب يُدعى جرانجر تنكَّر فى زى رجل عربى وبدأ التجول حول ورش صناعة هذه المادة الكيمائية بغية تحصيل أى معلومات تكشف له سر الصنعة، إلى أن سنحت الفرصة عندما فقد الوعى فجأة أحد صُناع ورش ملح النوشادر، وهنا اندس جرانجر وسط الجموع التى تحاول إسعاف الرجل ونجح فى علاجه بحكم عمله كطبيب، وأثناء جلسة ودية أعقبت إسعاف المريض انحلت عقدة لسان معلمى الملح وتباسطوا مع الخواجة جرانجر وشرحوا له من الألف للياء طريقتهم السرية فى تحضير ملح النوشادر، وبسرعة البرق أرسل جرانجر ما تراكم لديه من معلومات ثمينة لفرنسا فاعتبروا ذلك نصراً كبيراً وعلقوا: «الناجحون هم الذين لا تشيع أسرارهم»، وهكذا فقدت مصر أحد أوجه تميزها وتفردها بفعل خديعة أتقنها الخواجة جرانجر.
هذه الواقعة وغيرها من وقائع كثيرة تُعد حلقة من حلقات ممتدة لسياسات الاستيلاء الثقافى التى شملت سرقة الأفكار والآثار، وتؤكد أن لحظة الاصطدام بالغرب وقت الحملة الفرنسية ما هى إلا لحظة مهمة ولكنها ليست فريدة.
* كاتب وباحث فى الآثار المصرية