بناء الدولة المدنية في إعادة الطريق لبناء الدولة الوطنية
تاريخ النشر: 12th, April 2024 GMT
كتب / وضاح اليمن الحريري
سيظل الحديث مستمرا وجدليا في مسألة بناء الدولة في اليمن، خصوصا بعد أن تعرضت الدولة منذ نشوب الحرب الأخيرة في عام ٢٠١٥م، لضربات عنيفة هزت بنيتها حتى انهارت ولكن ليس تماما، إذ ساعد التدخل الخارجي في الحفاظ على جزء من كيانها الهش، دون أن ينجح في المضي قدما نحو اعادة بنائها، ولأسباب مختلفة حل محلها وقام بإعادة تشكيل توازنات قواها السياسية والاجتماعية، لصالحه هو ونتج عن ذلك الأمر فرزا سياسيا يرتبط بدرجة رئيسية بمدى القرب أو البعد عن الأطراف الخارجية، وقوة الارتباط بها، ولم ينبني الفرز السياسي اطلاقا على أساس المصالح الاجتماعية والاقتصادية لقوى المجتمع وشرائحه والتدافع فيما بين تلك المصالح على المستوى الوطني بآليات سلمية.
اليوم صارت الدولة الوطنية بمفهومها الجيوسياسي خارج الحسبان، لأن الفائدة المبنية على قاعدة الوطن لكل أبنائه لم تعد ذات قيمة بأي حال من الأحوال،لا يجدي أن نتحدث في هذه اللحظات عن دولة وطنية يكون الناس فيها مقسمين على درجات، درجة أولى ودرجة ثانية ودرجة عاشرة، في دولة تتحكم بها جماعات تحكم بمنطق يغلب فيه صاحب القوة وسطوتها، بمبرر الحرب أو بغيره.
هنا بالضبط تثار اشكالية الدولة الوطنية والدولة المدنية، والعلاقة بينهما، لقد صار الفرق بين معنى الدولتين ومفهوميهما في السطوع، في مثل هذه اللحظات الحرجة تاريخيا جليا، لأن الدولة في شكلها الحديث إن لم تكن مدنية، قائمة على قيم المواطنة والحقوق والواجبات والعدالة الاجتماعية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، سيكون لها أي مسمى اخر كالديكتاتورية أو حكم الأقلية أو الشمولية أو غيرها من المسميات الا أن تكون الدولة المدنية، في ذات الوقت فإن مفهوم الدولة الوطنية لا يحمل اي معنى بالمعيار السياسي الراديكالي إذا لم تكن قيمه وتعريفاته تهم كل الناس وليس جماعة منهم فقط.
وعلى هذا المعنى اعلاه، لن تنجح أي دولة وطنية قائمة أو ستقوم في الجنوب أو في اليمن، لم تستوعب اولا بأن عليها أن تستجيب لشروط بناء الدولة المدنية، بل سيكون عمرها قصيرا جدا حتى ولو قامت بالحديد والنار والمزايدات والمكايدات السياسية.
من هذا التبسيط السريع للفارق الجوهري بين الدولة المدنية والدولة الوطنية ودون الدخول في مزيد من الشروحات والتفاصيل، قد تطول هنا، يمكن أن نركز على مجموعة من الملاحظات الأساسية المتعلقة بهذا الشأن وهي:
١. مراكز النفوذ المدني: إن تنامي وترابط المدن اليمنية الكبيرة كعدن والمكلا والحديدة وصنعاء وعواصم بعض المحافظات الأخرى يعزز من فرص نشوء وتطور فكرة الدولة المدنية بالشروط التي ذكرناها، بينما السعي في تمزيق ارتباطاتها والعلاقات فيما بينها يضعف فرص النمو والتخلق، لبرمجة مصالح القوى المجتمعية التي يخدمها مشروع الدولة المدنية، لذلك فإن تصاعد حدة نبرة الانفصال أو الهيمنة السلالية، بالضرورة لن يطيقا وجود هذا المشروع، وإن اختلفت حدة كل منهما ومستويات التعاطي معه، سنلاحظ هنا أن لا وعود ممنوحة من قبل المشروعين للقوى المدنية صاحبة المصلحة، والتي هي متفرقة باي حال من الاحوال، بقدر ما تمنح الوعود لانصار المشروعين الأكثر تشددا، وحدة في المبالغة بأطروحاتهما فكلما كنت حادا مع فكرة الجنوبية ستتحدث عن الدولة الوطنية الجنوبية والتي بالتأكيد لن تكون مدنية، كلما تشددت مع حركة أنصار الله تستطيع أن تبني دولتك السلالية المصطفاة الوطنية دون أن تبني الدولة المدنية، من هنا تظهر أهمية الدولة الاتحادية المدنية التي تقوي من دور المدنية وقواها في مراكزها ولا تضعفها.. هذه هنا جدلية فكرية صريحة بين مسارين لبناء الدولة.
٢. النخب السياسية المرهقة: هي القوى السياسية التي تقف اليوم على سدة الحكم بأطيافها المختلفة، هي فعليا مرهقة (بفتح الهاء) ومرهقة ( بكسر الهاء) في آن واحد، لأن حالة الفشل المتتالية منذ 2011م وحتى هذه اللحظة ، انتجتها هذه القوى، لا يبرر وجود القوة حضور الفشل، القوة ليست دائما هي من يقدم الحلول، كل الأقوياء اليوم لا ينتجوا لنا أي نجاحات يلتمسها المواطن في تفاصيل حياته التي تعني له جوهر المسألة برمتها، وحقوقه، لا يمكن أن تبني دولة وطنية أو تؤيدها وهي تستلب منك حقوقك، السياسية والمدنية والاجتماعية والثقافية والطبيعية التي وهبها لك الله، يمكن للنخب أن تظل متصارعة، نعم بالتأكيد، لكنها لا يمكن أن تنجح في تقديم الحلول خارج إطار مشروع جامع أو يمكن اللقاء حوله والقيام به..الموضوع ليس أمرا شخصيا ولكنه فرق في الفكرة، الأسلحة ستستبد أو ستوجه لصدور عامة الناس وفي الحالتين سيكون الحل مختلف.
٣. القوى المدنية ومركزتها: بالتأكيد أن لكل مشروع قوى تحمله، وتحف به حفوف الهودج في زيارات الأولياء الشعبيين، المعنى هنا، مبني على قاعدة بسيطة، طالما وان مشروع الدولة المدنية هو أحد أركان بناء الدولة الوطنية المفترضة، إذ لابد من المرور به للوصول اليها، كان لابد أيضا أن تترجم قواه وتتحرك لتلتئم تحت هذا الشعار، ولكي تكون في أفضل حالاتها كان لابد من اتساع نطاقها الجيوسياسي ليشمل كل اليمن، للتعامل بتمكن مع المشاريع السياسية الأخرى الموجودة على الساحة، في البداية يجب أن نعترف بأن هذه المرحلة ليست مرحلة القوى الوطنية لأن مهماتها التاريخية قد زالت وتكاد ان تكون انتهت، وأن الدور قد حان لما يمكن تسميته بالقوى المدنية صاحبة المصلحة الرئيسية بأن يكون الوطن فعلا لا دجلا ولا تنجيما، لكل ابنائه، اقصد الوطن اليمني..وهذه فكرة جدلية اخرى، موضوعة أمامنا.
المصدر: موقع حيروت الإخباري
إقرأ أيضاً:
الطواف العربي في رحاب التغيير : البحث عن دور
الطواف العربي في رحاب التغيير : البحث عن دور
بقلم : د. #لبيب_قمحاوي
التاريخ : 16/03/2025
lkamhawi@cessco.com.jo
يطوف #العرب الآن طوافاً هائماً حائراً بين ما يجري لهم في #فلسطين وما يجري للعالم حولهم من #تغييرات ، في مسعىً عربياً يائساً وبائساً للقفز على مركبة الأحداث ومحاولة التأثير فيها وعليها لما فيه مصلحتهم ، وفي أسوأ الحالات بما يمَكِّنْهم من محاولة صدّ الآثار السلبية لما يجري على #مستقبل العرب والفلسطينيين ،حتى ولو كان ذلك بأسلوب إستجدائي .
إن قوة وخطورة ما يجري من أحداث وتغييرات قد تكون في واقعها وآثارها أكبر من قدرة العرب بوضعهم الحالي على الاحتمال والفلسطينيين على القبول . العالم الجديد أصبح الآن عالم الأقوياء بالمفهوم الحديث للقوة ، والتغييرات القادمة هي بالتالي من انتاجهم ولمصلحتهم مما يعني أن القوي سوف يزداد قوة والضعيف سوف يزداد ضعفاً. إن هذا الوضع سوف يقلب العالم الحالي إلى عالم للأقوياء ليس بالمنظور التقليدي والمتعارف عليه من خلال امتلاك ترسانة من الأسلحة النووية غير القابلة عملياً للإستعمـال ، ولكن بمنظور جديد يستند إلى إمتلاك التكنولوجيا المتطورة والسيطرة على الموارد الطبيعية ووسائل الانتاج ، علماً أن المفهوم الحديث للقوة ومعناها وأهدافها سوف يرتكز تماماً على المصالح الفردية للدول القادرة والشركات الكبرى المالكة للتكنولوجيا المتقدمة ، دون أي إعتبار للبعد الإنساني وترابط مصالح المجتمع البشري كما هو متعارف عليها في النظام الدولي السائد حتى الآن .
لم يعد نهج الاستجداء والاستعطاف والتدثر بالضعف صالحاً ضمن مفاهيم النظام الدولي الجديد (قيد التشكيل) كخيار مفتوح أمام دول مثل الدول العربية في تعاملها مع الآخرين . أما إذا تحوَّل ذلك الخيار إلى واقع فإن ذلك من شأنه أن يعيد صياغة العلاقة بين الطرفين الأقوى والأضعف إلى ما يشبه العلاقة بين السيد والعبد أو الحاكم والمحكوم والتي تسمح للكيان الأقوى أن يمتص ثروات الكيان الأضعف وأن يُخْضِعَه لإرادته ولمصالحه . أساس العلاقات في النظام الدولي الجديد يستند بشكل واضح وأساسي إلى إلتقاء المصالح أو تعارضها سواء جزئياً أو كلياً، وأدواته لن تكون عسكرية بقدر ما ستكون تكنولوجية واقتصادية .
البحث عن دور يعني أن الدولة أو الدول المعنية هي في أضعف حالاتها عندما يأتي البحث عن دور كإستجابة أو كرد فعل لتحديات مفروضة من الخارج وليست نابعة من داخل الدولة المستهدفة أو إنطلاقاً من مصالحها . إن قوة الدور الذي يمكن لأي دولة أن تلعبه يتوقف على مصدر أو مصادر التحدي وأهمها ما ينبع من داخل الدولة المعنية نفسها مستنداً إلى مصالحها وأولوياتها . وهذا الأمر هو ما يحدد فيما إذا كانت الدولة المعنية بمجابهة التحدي لاعباً سياسياً أصيلاً أو لاعباً ثانوياً أو متطفلاً يلهث وراء رَكْبِ الآخرين . وفي هذا السياق ، فإن إرتباط أولويات الدولة مثلاً بأولويات الحاكم ورغباته يعكس في الواقع ضعف أو غياب المؤسسات الفاعلة وحكم القانون عن مسار الدولة المعنية ويجعل من أولوياتها أمراً مشكوكاً به وبعيداً في معظم الأحيان عن رغبات الشعب ومصالحه .
إن الإبتعاد عن نهج المجابهة في التعامل مع الخصوم الأقوياء واستبداله بنهج المقاربة وذلك بالإقتراب من أولويات أولئك الخصوم ما أمكن ومحاولة خلق علاقة عمل أو روابط إيجابية تحظى بقبول وتقدير الخصم القوي هي مؤشر على نمط العلاقات التي ستسود في النظام الدولي الجديد . وهذا سوف يفرض على الطرف الأضعف إعادة تشكيل سلم الأولويات الخاصة به أو تطويعها بما قد يجعل من نهج التنازل المسار الوحيد الممكن ومثالاً على ذلك الحالة العربية والتي تتميز بإستمرار وضع الضعف العربي السائد والتي لم يتم العمل الجدي على تلافيها .
المطلوب الآن من العرب إعادة تعريف أهدافهم وتقرير فيما اذا كانوا يريدون أن يبقوا على هامش الأحداث أو أن يكونوا جزأً من صناعتها . وهذا الأمر يتطلب تَمَلُك الرغبة والقدرة على إعادة تنظيم البيت العربي وتقوية مؤسسات العمل العربي المشترك وجعلها أكثر فعالية وقدرة على الإنجاز وبما يسمح لمجموعة الدول العربية أن تدافع عن مصالحها كوحدة واحدة سواء أمنياً أو اقتصادياً أو سياسياً . وعلى أية حال ، فإن مثل ذلك التحول يتطلب توفر الإرادة والشجاعة على التغيير من خلال إعادة بناء هيكلية الدولة الوطنية العربية والانتقال بها من كونها دولة الحاكم المطاع لتصبح دولة القانون والتعددية السياسية التي تنصاع لحكم القانون وتقبل بتداول السلطة سلمياً ، بالإضافة إلى تطوير وإعادة بناء سُلَّم الأولويات العربية التي تراعي الحالة الوطنية والحالة القومية معاً وذلك على النمط الفدرالي الأوروبي الذي يراعي كلا المصلحتين ويوفق بينهما في حال وجود أي تعارض يتطلب التوفيق . لا خلاص للعرب دون إعادة بناء أنفسهم ودُوَلِهِمْ وأولوياتهم ومؤسساتهم ومنظومة القيم التي تهدي سلوكياتهم والإبتعاد الجديّ والمُخْلِص عن نهج الاقصاء أو الانفراد الأناني في عالم لا يحترم الكيانات الصغيرة والضعيفة .
إن هذا الوضع العربي البائس فيما لو قُدَّرَ له أن يستمر سوف يؤدي إلى إخضاع العرب لإرادة إسرائيل وإلى تَحَوُّل العالم العربي إلى مجموعة من الدول أو الدويلات التي تدور في الفلك الإسرائيلي وتخدم مصالحه . إن إعادة بناء القدرات العربية تصبح بذلك أمراً مصيرياً وحاكماً لمستقبل العرب ومصالحهم وليس خياراً يمكن تجاهله أو وضعه في أدنى سلم الأولويات لكل دولة عربية .
إسرائيل عقب الحرب على إقليم غزة الفلسطيني وما تم تزويدها به من أسلحة وتكنولوجيا رقمية متقدمة قد أصبحت على أرض الواقع وبدعم أمريكي غير مسبوق ، جزأً من العالم الجديد القوي المتحكم بمجريات وأهداف التغييرات القادمة خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط . وعلى الرغم من أن هذه الحالة قد تكون مؤقتة بحكم اعتمادها على الدعم الأمريكي وعلى تدفق المساعدات والسلاح والتعاون التكنولوجي من أمريكا، إلا أن واقع الضعف والتشتت العربي قد يجعل من التفوق الإسرائيلي حتى ولو كان مؤقتاً، أمراً خطيراً على المصالح العربية . الحل لن يكون في التنافس مع إسرائيل على التبعية لأمريكا ، ولكن في خلق واقع عربي متماسك وجديد وقادر على فرض إحترامه واحترام مصالحه على الآخرين ، بما في ذلك أمريكا .
وعلى أية حال ، فإن قضية فلسطين سوف تبقى قضية ضميرية تتعارض في واقعها المرير مع القانون الدولي والإنساني في اطارهما العام ، وقضية شعب محتل ووطن محتل في جوهرها ، مما يجعلها بعيدة كل البعد عن قضايا العالم التقليدية سواء السياسية أوالإقتصادية أوالتكنولوجية أو البيئية أو شح الموارد الطبيعية ، وهي قضايا متأرجحة في واقعها وتسمح بالمساومة والتنازل والأخذ والعطاء في عالم المصالح الجديدة المتغيرة .