البورقيبية أو الخطاب الكبير للثورة المضادة
تاريخ النشر: 12th, April 2024 GMT
منذ بناء ما سُمّي بـ "الدولة الوطنية" أو الدولة ـ الأمة اعتبر الراحل بورقيبة تونس "أمّة" برأسها في مقابل المشروع القومي الذي يجعلها إقليما في الأمة العربية وكذلك في مقابل الطرح التراثي الذي يُدمج تونس في الأمة الإسلامية. وكان أساس شرعية النخب الحاكمة هو تحديث البلاد و"اللحاق بركب الأمم المتقدمة". كما كان مشروع التحديث يقوم على خلفية لائكية فرنسية من جهة علاقة الدولة بالدين ومن جهة دور هذا الأخير بالفضاء العام.
رغم الاختلاف المرجعي والعداء التاريخي بين السرديات العلمانية الكبرى في تونس (أي العداء بين السرديتين القومية واليسارية من جهة أولى، وعداؤهما معا ـ من جهة ثانية ـ للسردية البورقيبية الليبرالية التابعة)، فإن دخول الإسلاميين لاعبا أساسيا في الحقل السياسي بعد الثورة كان كفيلا بتذويب تلك الخلافات والدفع بها إلى خلفية المشهد على قاعدة "الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي" و"محاربة الرجعية والظلامية". وقد كان للسلفية "الجهادية" (ذات العلاقات المشبوهة بالأمن وببعض الأجهزة الاستخباراتية الإقليمية والدولية) دور كبير في تبرير هذا التقارب وشرعنته محليا وخارجيا، كما كان سببا في تعميم الموقف من كل التنظيمات ذات المرجعية الإسلامية، خاصة حركة النهضة التي أصبحت فاعلا سياسيا قانونيا ومركزيا بعد الثورة. فالنهضة التي كانت هي نفسها موضع تكفير واستهداف من الفكر السلفي الوهابي (بحكم مرجعيتها الإخوانية أي بحكم قبولها بالديمقراطية "الكفرية" وخروجها من منطق البديل إلى منطق الشريك) ليست عند النخب "اللائكية" إلا مشروعا لأسلمة الدولة وتهديد مكاسب المرأة وضرب منظومة الحريات الفردية والجماعية.
وبحكم العجز عن بناء سردية إصلاحية تشاركية ـ بل بحكم رفض النخب "الحداثية" لبناء هذه السردية بتشريك حركة النهضة (الإصلاحية في سقفها السياسي) أو تشريك غيرها من القوى المعادية جذريا للمنظومة القديمة لأسباب تتجاوز المعطى الإيديولوجي المحض لترتبط بالخوف من دخول نخب وجهات جديدة إلى الدولة وتهديد المنظومة القديمة ذات التركيبة الجهوية-الزبونية-الإيديولوجية المعروفة ـ استطاعت النواة الدولة العميقة أو منظومة الاستعمار الداخلي أن تفصل البورقيبية عن نظام المخلوع في مرحلة أولى، ثم نجحت بعد ذلك في إعادة رسكلة التجمعيين وحلفائهم في اليسار الوظيفي باعتبارهم ورثة البورقيبية وسفينة النجاة التي ستحمل- بقيادة وطنييها وديمقراطييها وحداثييها وكفاءاتها ورجال دولتها- كل من يتهددهم طوفان "أسلمة الدولة" من لدن النهضة (أي عبر ما يسمونه بـ "الاختراق" لأجهزة الدولة والمجتمع المدني) أو الإرهاب السلفي (أي عبر محاربة الدولة وتهديد السلم الأهلية وأسس التعايش بين المواطنين). وهو ما يعني ـ في التحليل الأخير ـ أن الدولة هي مشروع "لائكي" صرف ولا يمكن أن يدار إلا بالتعارض مع الأطروحات الإسلامية بل باستهدافها سياسيا وأمنيا إن لزم الأمر بصرف النظر عن موقفها من الديمقراطية وعن موقعها في السلطة أو على هوامشها أو بالتضاد معها.
بعد 25 يوليو 2021، يبدو أن "تصحيح المسار" لم ينجح هو الآخر في اتخاذ مسافة نقدية حقيقية من البورقيبية. فالرئيس سعيد الذي قال يوما إن" من يذهبون إلى قبر بورقيبة ليس حبا فيه وإنما بحثا عن مشروعية في رفاتل الموتى" قد اضطر هو الآخر إلى الذهاب إلى ضريح "الزعيم" في إطار التنازع حول "الأصل التجاري البورقيبي" مع بعض منافسيه المحتملين في الاستحقاق الرئاسي القادم.كان هذا الطرح عائقا بنيويا يحول دون استدماج النهضة أو الاعتراف بها بصورة مبدئية في الحقل السياسي. ورغم حرص الحركة على مراجعة موقفها من "البورقيبية" ودخولها مرحلة التوافق مع وريثها الأبرز (المرحوم الباجي قائد السبسي)، ورغم نجاح النخب اللائكية في استضعاف النهضة وابتزازها بصورة ممنهجة جعلتها تمرر مشاريع كان المخلوع نفسه يرفض تمريرها (مثل رفع الاحترازات عن اتفاقية سيداو والسماح بنشاط منظمة مثلية وتعميم نقاط بيع الخمر في أغلب الجهات الخ)، فإن هذا "التخفف" من المرجعية الإسلامية لم ينفعها أمام النخب "الحداثية" التي ظلت تُعرّف نفسها بالتقابل مع الإسلاميين. فهم وحدهم "العائلة الديمقراطية" وهم المستأمنون على المشروع التحديثي "البورقيبي" وعلى مقاومة كل ما يتهدده. وبصرف النظر عن إنجازات البورقيبية في مسألتي التعليم والصحة وما يسمى ب"تحرير المرأة" (وهي جميعا مسائل سجالية جعلها "الحداثيون" من "المقدسات العلمانية" التي يُمنع التشكيك فيها أو نقدها)، فإن التراث البورقيبي في المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية أُخرج هو الآخر من دائرة المراجعة والمساءلة النقدية بحكم انتقال الانقسام السياسي من دائرة التضاد مع المنظومة القديمة إلى دائرة التضاد مع الإسلاميين.
كان وجود الإسلاميين ـ خاصة حركة النهضة ـ في الحقل السياسي القانوني وفي أجهزة الدولة بعد تطبيع هذه الحركة مع المنظومة القديمة وقبولها بالمشاركة في الحكم وفق شروطها، يمنع النخب الحداثية من محاورة البورقيبية محاورة عقلانية عميقة هدفها التجاوز الجدلي. فمن اللامفكر فيه أو مما مُنع التفكير فيه قضية بنية نظام الحكم البورقيبي في مرحلتيه الدستورية والتجمعية، أي البنية الجهوية-الزبونية (داخليا) والتابعة (خارجيا) التي تحكم النظام (بصرف النظر عن واجهاته السياسية المتغيرة) وتهيمن على خطابات نخبه الوظيفية (بصرف النظر عن سردياتها الكبرى واداعاتها الوطنية المشكوك فيها).
كما كان من اللامفكر فيه عملية "التَّونَسة" المشوّهة التي قام بها "الزعيم" لمبادئ الجمهورية الفرنسية وقيم ثورتها اللائكية. فبورقيبة "المتخيل" أو الذي يراد إحياؤه بطيقة "مُؤمثلة" لتوحيد القوى "الحداثية" لم يكن هو بورقيبة التاريخ، أو في أفضل الأحوال كان هو بورقيبة المتلاعب بتاريخه وتراثه القابل للضبط والتحقيق التاريخي العلمي. ولكنّ جهوية بورقيبة أو تصحيره للحياة السياسية أو منطق الاقتصاد الريعي الذي أرساه أو تفويته في مقومات السيادة وراء مجاز "الدولة الوطنية" الحرة المستقلة، لم يكن يعني "الحداثيين" في شيء بحكم تثبيتهم الفكري والنفسي على الإسلاميين لا على منظومة الفساد والاستبداد، كما لم يعد التراث البورقيبي (تراث عبادة الزعيم واحتكار السلطة وتكريس التفاوت الجهوي والطبقي والتبعية الاقتصادية والثقافية والتربوية لفرنسا) سببا كافيا للنهضة كي تستصحب منطق التعارض معه بعد أن اختارت استراتيجيا أن تدخل "الدولة" بدل مواجهتها وبالتالي مواجهة سرديتها التأسيسية.
بعد 25 يوليو 2021، يبدو أن "تصحيح المسار" لم ينجح هو الآخر في اتخاذ مسافة نقدية حقيقية من البورقيبية. فالرئيس سعيد الذي قال يوما إن" من يذهبون إلى قبر بورقيبة ليس حبا فيه وإنما بحثا عن مشروعية في رفات الموتى" قد اضطر هو الآخر إلى الذهاب إلى ضريح "الزعيم" في إطار التنازع حول "الأصل التجاري البورقيبي" مع بعض منافسيه المحتملين في الاستحقاق الرئاسي القادم.
كما أن كل منافسيه "الجديين" إلى هذه اللحظة لا مشكلة لهم مع البورقيبية، بل إن أغلبهم يدعي وصلا بها، خاصة ورثة المخلوع. وهو ما يعيدنا إلى الإشكال المطروح في مقدمة المقال. فإذا كانت البورقيبية قد عجزت عن بناء مقومات السيادة قبل الثورة وعجزت عن إرساء مناخ ديمقراطي حقيقي بعد الثورة (بتوظيفها في تكريس الانقسام بين العلمانيين والإسلاميين وفي تغذية قضايا الهوية الملهية عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية)، فكيف يمكنها أن تكون قاعدة لبناء مشروع ديمقراطي غير إقصائي أو أداة للتحرير الوطني سواء أتبناها النظام الحالي (لاسترضاء "الحداثيين" وفرنسا التي تعلم جيدا أن سقوط البورقيبية هو سقوط مؤكد لهيمنتها في تونس) أم التجأ إليها خصومه من ورثة التجمع وغيرهم (وكل ما في تواريخهم ومواقفهم قبل الثورة وبعدها يقول إنهم مجرد وكلاء لمنظومة الاستعمار الداخلي)؟ إنها أسئلة لا يبدو أنها ستجد إجاباتها في المدى المنظور، أو لنقل إنها أسئلة لا يمكن للفاعلين الجماعيين تحت سقف الدولة العميقة أن يجيبوا عنها لأنها تفقدهم علة وجودهم ذاتها.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه بورقيبة تونس التاريخي تونس تاريخ بورقيبة سياسة رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بعد الثورة هو الآخر النظر عن من جهة
إقرأ أيضاً:
المنتخب الكبير لليمن الكبير
ما قدمه المنتخب الوطني لكرة القدم في خليجي ٢٦ بالكويت خلال مباراتي العراق والسعودية، وخسارته في النصف الثاني من الشوط الثاني بهدف أمام العراق، وفي الوقت بدل الضائع أمام المنتخب السعودي، أظهر ردود فعل متباينة بين الجماهير اليمنية وبين الجماهير من حق الجماهير الخليجية.
من حق الجمهور اليمني أن يغضب، لضياع فوز طال انتظاره على مدى عقدين من المشاركات الخليجية، ولكن هذا الغضب ينبغي ألا يلغي أحقية اللاعبين والمدرب بالإشادة، فما قدموه كبير، وإن كانت النتيجة ليست منصفة لهم.
هنا أثناء تواجدي في الكويت ضمن الوفد الإعلامي الرسمي لاتحاد كرة القدم، كنت قريبا من الجماهير، وأقرب إلى الزملاء الإعلاميين في دول الخليج، وما سمعته من الثناء، ليس مجاملة، فالمنتخب اليمني -فعلا كما يقولون- حبس أنفاس العراق والسعودية في المباراتين وأحرجهما كثيرا.
المدرب الجزائري نور الدين ولد علي، يستحق أيضا الإشادة، فقد قدم منتخبا يحترم، وإن غلب عليه الطابع الدفاعي خشية ولوج أهداف كثيرة، إلا أن الأداء مرضٍ، والدليل أننا جميعا متحسرون على ضياع الفوز، بمعنى أننا لم نكن اقرب لتحقيق الفوز في كل الدورات من هذه البطولة .
المنتخب أمامه مباراة أخيرة أمام البحرين متصدرة المجموعة بست نقاط، وأمام منتخبنا فرصة كبيرة لتعويض ما فاته في المباراتين السابقتين، فالبحرين بحكم تأهلها قد يريح المدرب بعض اللاعبين استعدادا للدور الموالي، كما أن دافعية الفوز منخفضة مقارنة ما إذا كان بحاجة إلى نقاط المباراة.
اليوم نحن أمام فرصة كبيرة لتحقيق الفوز الأول في بطولات الخليج، وقياسا على ما قدمه اللاعبون فهم يستحقون ذلك.
نتمنى لمنتخبنا الوطني الكبير الذي يمثل الوطن الكبير تحقيق الانتصار الأول.. وللاعبين والمدرب : شكرا لكم.. لعبتم بصورة ممتازة وحبستم أنفاس منافسيكم.