إسرائيل.. هل ينقطع حبل الناس عنها؟
تاريخ النشر: 12th, April 2024 GMT
ارتبطت قوة واستدامة كيان الاحتلال بالعلاقة الإستراتيجيّة، والدعم الأميركي الثّابت له، والمرتبط بقوّة اللوبي اليهوديّ السياسية والاقتصادية، والتغلغل في الحزبَين الحاكمَين، ومن خلال إدماج كينونة ووجود الاحتلال، بخدمة المصالح الأميركية والغربية في المنطقة. وتعزّز ذلك بهيمنة القطب الواحد، ولكنه يميل للتراجع بعد بروز الصين، وسعي روسيا لتحدّي الهيمنة الأميركية.
وفي ظل ذلك، جاء "طوفان الأقصى"؛ ليزعزع المكانة الإستراتيجية لإسرائيل في المنطقة، والمرتبطة بتفوق جيشها (الذي لا يقهر)، وليضرب نظرية الردع المستندة للتفوق النووي والتكنولوجي. أما مجريات العدوان على غزة وتوحش الاحتلال، فقد بدأ ذلك يخلخل قواعد الانحياز الأميركي للكيان، من خلال التأثير على القاعدة الشعبية، وكشف زيف بكائيات الاحتلال وأخلاقية جيشه. هذا فضلًا عن انقلاب صورة الكيان في العالم.
اتّضح كذب الدعاية الإسرائيلية من خلال تدفق الصور والفيديوهات للمجازر الإسرائيلية التي ركزت على الأطفال والنساء ومهاجمة المستشفيات والمدارس وعمال الإغاثة والفلسطينيين الذين يُهرعون لتسلّم المساعدات
فشل الاحتلال وساديّته
تحدثنا في المقال المنشور في الجزيرة نت في 28 يناير/ كانون ثاني عن أن مكانة الكيان الإستراتيجية في المنطقة، تضررت، بعد أن أصبح غير قادر على حماية نفسه، فضلًا عن أن يحمي غيره، الأمر الذي شكل تهديدًا حقيقيًا لمصالح الولايات المتحدة، ودفعها للعودة بقوة للمنطقة لحماية الكيان، بعد أن كانت تعتبره حصنًا متقدمًا لها، وسعت إلى تتويجه على عرش المنطقة، عبر عملية التطبيع والتعاون الأمني مع الدول العربية.
ولذلك، سنركّز هنا على تطورات الحرب التي قطعت حتى الآن أكثر من ستة أشهر، دون أن يتمكن الاحتلال من تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية فيها، ولجوئه إلى إستراتيجية استهداف المدنيين وتجويعهم، واستهداف قوافل الإغاثة بعد الإغلاق شبه الكامل لمعبر رفح، ليصل إلى استهداف طواقم منظمة المطبخ المركزي العالمي، وقتل 7 من موظفيها الأجانب، وهو ما فتح أبواب جهنّم عليه.
ومع أن الدول التي سقط لها قتلى في المجزرة، وهي: بريطانيا، وأستراليا، والولايات المتحدة، وكندا، وبولندا، لم تدِنْ مقتل رعاياها، ولكن كانت لها تصريحات تنبئ عن حجم الضجر والسخط على إسرائيل، بما عزّز مواقف معظمها الداعي لوقف الحرب، بعد أن دعمتها في بدايتها.
هذا التحول كان ملموسًا في المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي جو بايدن مع نتنياهو عقب الحادثة، وقالَ فيها: إنّ "العالم تحوّل ضد إسرائيل، وإن حلفاء لواشنطن أبلغوها بتحوّل في سياستهم". وعندما يصدر هذا التصريح على لسان رئيس أكبر وأهم حليف لإسرائيل، فهذا له مدلول عميق يتركز في التحول في المواقف الأوروبية وعلى الأخصّ الدول الأنجلوساكسونيّة في دعمها للحرب على غزّة.
ويعود ذلك لسببَين:
الأول: فشل الاحتلال في المهمة الموكلة إليه بالقضاء على حماس، وغرقه في وحْل غزة، دون أن يحقق أهدافه، بل وتكبّده خسائر عالية، تدفعه باستمرار إلى طلب الذخيرة والسلاح من أميركا والغرب، وهو ما يشكل عبئًا على شبكة توريد الأسلحة، وضغطًا على طاقتها الإنتاجية، خصوصًا أنها مستنزفة في توريد الذخائر والأسلحة لأوكرانيا. الثاني: تسبّبت وحشية الاحتلال وساديته في تصاعد الاحتجاجات الشعبية في الدول الغربية، ضد استمرار الحرب، وكان أكثف وأضخم هذه الاحتجاجات في أكبر دولتين داعمتين للعدوان، وهما؛ أميركا وبريطانيا، الأمر الذي أثّر على شعبية الحزبَين الحاكمَين فيهما: (الديمقراطي في أميركا، والمحافظ في بريطانيا)، وتضرر فرصهما في الانتخابات التي ستجري هذا العام فيهما.ولذلك، فإن مجمل المواقف الغربية، الآن، لا يدعم استمرار الحرب، فيما لا تزال إدارة بايدن تدعو لوقف مؤقت لإطلاق النار، مع دعمها استمرارَ الحرب؛ ولكن لأجل محدّد، بحيث يسمح لها أن تخرج منها بثمرة سياسية تقود للتطبيع في المنطقة، تستخدمه كورقة انتخابيّة.
إن هذه المواقف لا تعني زوال الدعم عن الاحتلال، حيث لا تزال ألمانيا -مثلًا- المزوّد الثاني لإسرائيل بالأسلحة بعد أميركا، ولكن من الواضح أن هناك تحولًا في موقف الولايات المتحدة والغرب بالعمل على إضعاف حماس سياسيًا بعد فشل الاحتلال في إنهائها عسكريًا، أو حتى إضعافها لدرجة الإخضاع في مواقفها السياسيّة.
وقد أكّدت تقديرات أجهزة الاستخبارات الأميركية، أن قوّات الاحتلال لم تنجحْ إلا في تدمير ثلث أنفاق حماس، فيما يؤكد الكثير من المحللين الصهاينة أن كتائب القسام لا تزال تحتفظ بالآلاف من قواتها العاملة في غزة، فضلًا استمرار المقاومين في التصدي للاحتلال في كل مناطق القتال التي سبق أن قال الجيش الإسرائيلي؛ إنه قضى على قوة حماس فيها.
تحوّل الرأي العام الغربيإن فشل الاحتلال في مهمته سيضعف قطعًا مكانته الإستراتيجية في المنطقة، بما قد يجعله عبئًا على داعميه، ولكن الجانب الآخر هو أن ممارساته بدأت في إحداث تحول في الرأي العام الغربي، بما يشكل خميرة مستقبلية مهمة لإحداث تغييرات في المواقف السياسية لدى الأحزاب الحاكمة والمعارضة، وهو ما سينعكس بالضرورة سلبيًا على حجم وطبيعة الدعم الذي ستوفره لإسرائيل، ويتيح المجال بشكل أكبر للمقاومة الفلسطينية لاستمرار دورها الذي ينحت في الاحتلال ويضعفه.
كما أن ذلك سيُساهم في إضعاف الأنظمة في المنطقة والتي تتحالف مع الكيان أو تطبّع معه، ويعزز مكانة الحركة الشعبية الداعمة للمقاومة.
ونستدعي في هذا السياق استطلاع "غالوب" الذي أظهر انخفاض التأييد الأميركي للحرب الإسرائيلية في غزة من 50% نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إلى 36% في مارس/آذار 2024.
وكذلك الاستطلاع الصادم لمعهد "بيو" الأميركي للأبحاث الذي جاء فيه أن 58٪ من الأميركيين يرون أنه يجب السماح بالتعبير عن معارضة حقّ إسرائيل في الوجود.
وتكمن أهمية نتائج هذه الاستطلاعات في أنّها تؤشر على تحرر المجتمع الأميركي، ومعه الغربي من قيود القوانين التي تم سنّها؛ لمنع انتقاد إسرائيل، أو إدانتها تحت مسمى: "معاداة السامية"، وانكشاف زيف الدعاية الصهيونية التي استندت إلى البكائيات، ومحاولة إظهار أن إسرائيل تعيش وسط غابة من الإرهابيين.
فقد اتّضح كذب هذه الدعاية من خلال تدفق الصور والفيديوهات للمجازر الإسرائيلية التي ركزت على الأطفال والنساء ومهاجمة المستشفيات والمدارس وعمال الإغاثة والفلسطينيين الذين يُهرعون لتسلّم المساعدات.
كما انكشفت الأكاذيب الإسرائيلية التي اتهمت المقاومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول بارتكاب الفظاعات ضد الأطفال، واغتصاب النساء، ما أحدث ردَّ فعلٍ عكسيًا عند الناشطين الاجتماعيين الذين ساهموا بكشف زيف هذه الروايات!
وقد فنّدت صحيفة "لوموند" الفرنسية كذبة الأطفال مقطوعي الرأس في تحقيق جديد نشر في 3/4/2024 الذي خلَص إلى أن "إسرائيل لم تفعل شيئًا لمحاربة المعلومات المضللة، وفي كثير من الأحيان حاولت استغلالها بدلًا من إنكارها".
وقد حاولت الدولة العميقة الدفاع عن النفوذ اليهودي، حينما استجوب الكونغرس الأميركي رؤساء 4 جامعات أميركية عريقة؛ بسبب عدم ضبطهم للمظاهر المناهضة للكيان في جامعاتهم والتي صنفت ضمن معاداة السامية!!
ومن الأمثلة عن الضجر الغربي من مجازر الاحتلال، هو عدد "الإندبندنت" البريطانية الذي كتب على غلافه :" كفـى! (Enough)، حيث جاء في افتتاحيتها: "لقد أصبح عمال الإغاثة الـ7 الذين قُتلوا في غارة جوية رمزًا للطريقة المتهورة الخارجة عن القانون التي أدار بها نتنياهو هذه الحرب. لقد حان الوقت للقيام بكل ما يلزم لإجبار حكومة إسرائيل على إنهائها".
حبل الناسكانت إسرائيل ولا تزال كيانًا غريبًا في المنطقة، ومنبوذًا من شعوبها. وعلى الرغم من اتفاقات السلام والتطبيع التي تمت معه من قِبل بعض الأنظمة العربية، فإن التطبيع بقي حبيس الأنظمة دون أن يطال الشعوب.
والحقيقة أن قادة الكيان يدركون هذه الحقيقة منذ البداية، ولذلك بقي صمام أمان وجودهم في المنطقة، هو اعتمادهم على الدعم الغربي، وعلى الأخص الأميركي بالمال والسلاح. وقد كشفَ 7 أكتوبر/تشرين الأول هشاشة الجيش الإسرائيلي الذي لم يصمد أمام هجمة مئات من الشبان المسلحين بالأسلحة الخفيفة، فضلًا عن أن مجرى الحرب، أكّد أن الكيان غير قابل للصمود بدون الدعم العسكري والمالي الأميركي، مصحوبًا بتأمينه سياسيًا بالفيتو الذي يمنع إدانته في مجلس الأمن على جرائمه وانتهاكه المواثيق والأعراف الدولية.
ولذلك، فإن تخلخلَ المكانة العسكرية والأمنية للكيان، الذي أكدته الأحداث، واستمرارَ حاجة الاحتلال للدعم الأميركي دون أن يكون مؤهلًا لحراسة المشروع الغربي، سيجعلان هذا الكيان يخسر مكانته الإستراتيجية في المنطقة، وقد يصبح عبئًا على داعميه في المرحلة المقبلة.
وإذا أضفنا لذلك انقلاب صورته -التي سوقها لنفسه بأنه يواجه إرهاب الفلسطينيين- إلى كيان إرهابي متمرد على القيم والمبادئ الإنسانية، فسيؤدي ذلك إلى تغييرات مهمة في الرأي العام الغربي الذي سيضغط بدوره على الأحزاب المختلفة في الغرب لتغيير طريقتها في التعامل معه.
لقد وصل الكيان إلى انحطاط غير مسبوق في مكانته العالمية، حينما أوصلته جرائمه لمحكمة العدل الدولية وانضمام دول إلى جنوب أفريقيا في الدعوى ضده بارتكاب الإبادة الجماعية، وهي حالة لم تمر بالكيان منذ تأسيسه.
كما أنّ رفع نيكاراغوا دعوى مماثلة في نفس المحكمة ضد ألمانيا المصنّفة ثانيةً في دعم الكيان بالسلاح، سيؤدّي إلى تحسّب الدول التي تدعم هذا الكيان من أن توضع في خانة الإدانة الدولية، الأمر الذي قد يفرمل مستوى تعاون أو تحالف أي دولة مع هذا الكيان مستقبلًا.
كل ذلك يؤكّد أن إسرائيل تسير برجلَيها إلى خراب كيانها المصطنع، عبر فقدانها التدريجي حبلَ الناس الذي يبقيها على قيد الحياة. ولو سُمح لمحيطها العربي والإسلامي بالتحرك ضدها جماهيريًا وسياسيًا، فإن ذلك سيعجّل بنهايتها، وذلك بعد أن تصبح عبئًا على أميركا والغرب.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات فشل الاحتلال فی المنطقة عبئ ا على لا تزال من خلال بعد أن دون أن
إقرأ أيضاً:
مسمار في نعش الكيان الصهيوني
حاتم الطائي
◄ القرار التاريخي إدانة دولية غير مسبوقة لمجرمي الحرب الإسرائيليين وداعميهم
◄ 124 دولة مُلزمة بتنفيذ قرار القبض على مجرمي الحرب الإسرائيليين
◄ يقظة الشعوب الحُرّة حول العالم كان لها الفضل الأكبر في استصدار القرار
لم يكن القرارُ التاريخيُّ والشجاعُ من المحكمةِ الجنائيةِ الدوليةِ بإصدار أمر اعتقالٍ بحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي المُجرم بنيامين نتنياهو ووزير حربه السفّاح يوآف جالانت، مجرد إدانة غير مسبوقة لمجرمي الحرب الإسرائيليين وحسب؛ بل إدانة عالمية تاريخية للحركة الصهيونية الإجرامية العنصرية، ولكل داعميها من الأمريكيين والأوروبيين، وكل من تواطأ وصَمَتَ عن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتجويع، ولكل من خَذَلَ الشعب الفلسطيني ولم يقف بجانبه ولو بكلمة!
صدر القرار بعد أكثر من 414 يومًا من العدوان البربري الدموي ضد شعب فلسطين في قطاع غزة، مع تدمير كامل للبنية التحتية والمنازل فوق رؤوس ساكنيها، واستشهاد أكثر من 44 ألف شهيد وإصابة ما يزيد عن 105 آلاف فلسطيني، كثيرٌ منهم يُعانون من إعاقة دائمة أو بتر في الأطراف أو استئصال لأحد أعضاء الجسد، فضلًا عن عشرات الآلاف من المفقودين تحت الأنقاض، وأمثالهم من الأسرى الذين اُعتقِلوا ظلمًا وعدوانًا على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية.
صدر القرار رغم المحاولات المُستميتة من الكيان الفاشي الإسرائيلي لإثناء قضاة العدالة عن قرارهم، وإعلان كثير منهم عن تعرضهم لرسائل تهديد بالقتل والتنكيل، علاوة على ابتزاز المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، من خلال تلفيق قضية أخلاقية بحقه، لا أساس لها من الصحة؛ بل هي محاولة يائسة للانتقام من الرجل الذي قاد جهود استصدار مذكرة الاعتقال الدولية بحق مجرمي الحرب الإسرائيليين.
صدر القرار رغم أنف الولايات المُتحدة المُلطخة يداها بدماء الشعب الفلسطيني، في ظل الدعم العسكري اللامتناهي لإسرائيل، والدعم الاستخباراتي والأمني لهذا الكيان السرطاني البغيض. إذ لم تتوانَ واشنطن منذ اليوم الأول من العدوان عن تقديم كافة أوجه الدعم لدولة الاحتلال؛ عسكريًا من خلال شحنات السلاح والمعدات والطائرات وغيرها، وسياسيًا عبر استخدام حق النقض "فيتو" في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وممارسة الضغوط السياسية وغيرها ضد دول المنطقة من أجل عدم اتخاذ موقف رسمي موحَّد ضد العربدة والإجرام الصهيوني.
صدر القرار ليؤكد للعالم أجمع أنَّ العدالة لا بُد وأن تأخذ مجراها، حتى ولو طال الأمد؛ حيث إننا نعلم أن مثل هذه القضايا ربما تستغرق سنوات طويلة لإصدار حكم فيها، كما إن المحكمة لا تملك أي سلطات تنفيذية لتنفيذ الحكم، باستثناء أن الدول المُوقّعة على "نظام روما الأساسي"، مُلزمةً دون اختيار منها بتنفيذ أي قرار يصدر عن المحكمة الجنائية الدولية، وهذا يعني أن جميع هذه الدول المنضوية تحت "نظام روما" (وعددها 124 دولة) مُلزمة قانونًا بتنفيذ قرار الاعتقال، ولاحقًا قرار الإدانة.
ورغم أنَّ الولايات المتحدة ليست عضوًا في "نظام روما" أي أنها غير مُلزمة باعتقال نتنياهو وجالانت، إلّا أنها استشاطت غضبًا من صدور قرار الاعتقال، وأطلقت نيران هجومها على المحكمة، في موقف يعكس مستوى الانحطاط السياسي الذي بات يُهمين على السياسات الأمريكية، الدولة التي يُفترض بها أن تكون نصيرًا للعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، والتي لطالما تشدقت بها وابتزت بها جميع دول العالم، وتفاخرت بما يُسمى بـ"العدالة الدولية"، لكن عندما يأتي الأمر إلى إسرائيل تنقلب الموازين، وتتكشف العورات السياسية القبيحة، وتتجلى ازدواجية المعايير في موقف مُخذٍ يؤكد أننا ما زلنا نعيش في عالم يسوده قانون الغاب؛ حيث القوي بإمكانه التهام الضعيف دون مُحاسبة.. لكن هيهات هيهات.. لقد انتهى زمن إفلات إسرائيل من العقاب، وولَّت حقبة الهروب من المساءلة بلا رجعة.
لا شك لديَّ أن المحكمة الجنائية الدولية استندت في قرارها العادل والمُنصف، على حقيقة الوضع الكارثي وغير الإنساني في قطاع غزة، في تأكيد دولي لا مثيل له على الجرائم البشعة التي ارتكبتها دولة الاحتلال المُجرمة في غزة، وهو ما يُفنِّد الأكاذيب الصهيونية التي ظلّت تُشكك في أعداد الشهداء والمصابين وضحايا هذا العدوان طوال فترة الحرب وحتى الآن.
ومن المُؤكد أنَّ يقظة الشعوب الحرة حول العالم كان لها الفضل الأكبر في الضغط على جميع المؤسسات الدولية ودعم قضاة المحكمة في قضيتهم العادلة، فلقد شاهدنا- وما نزال- المظاهرات الحاشدة حول العالم المُندِّدَة بهذا العدوان الدموي الإجرامي على قطاع غزة، واعتصامات الطلبة الأحرار في أكبر جامعات أمريكا وأوروبا، إلى جانب التنديد الشديد بكل ما يمُت لدولة الاحتلال بصلة، حتى لفرق كرة القدم الإسرائيلية التي باتت منبوذة في كل البطولات والمنافسات. أضف إلى ذلك العزلة الدولية لهذا الكيان المُجرم، وفرار مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الخارج، فيما بات يُعرف بـ"الهجرة العسكية"؛ حيث عاد هؤلاء إلى أوطانهم التي قدموا منها للاستيطان في فلسطين المحتلة، بعدما زيّنت لهم حكومة الاحتلال الأوضاع ومنحتهم الأموال والمنازل والأراضي.
لقد قيل على لسان بعض المسؤولين إنهم أنشأوا المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الديكتاتوريين والمستبدين في العالم الثالث، لذلك يستنكفون أن يمثل مجرمو الحرب الإسرائيليون أمام هذه المحكمة صاغرين، ما يؤكد أنَّ النظام العالمي القائم حاليًا على أحادية القطب بقيادة الولايات المتحدة أثبت فشله، وتأكد الجميع من حجم الظلم الواقع على عاتق الشعوب المُستضعفة.
ويبقى القول.. إنَّ القرار التاريخي للمحكمة الجنائية الدولية باعتقال مجرميْ الحرب نتنياهو وجالانت بمثابة مسمار غليظ في نعش الصهيونية البغيضة، وهو ما يُبشِر بزوال هذا الكيان المُجرم قريبًا، ويُؤكد للعالم أجمع أنَّ دماء الشعب الفلسطيني لن تذهب سُدى، وعلى حُكام وقادة العالم أن يدعموا ويؤيدوا قرار المحكمة الجنائية الدولية، وذلك بالتوازي مع المُحاكمة الجارية في محكمة العدل الدولية؛ إذ لأول مرة في التاريخ تُحاكم إسرائيل على إجرامها أمام أكبر مؤسستين للعدالة الدولية في العالم، وما من ريبٍ أنَّ العدالة ستأخذ مجراها، وإذا ما أخفقت عدالة الأرض، فإنَّ عدالة السماء نافذة ولا رادَّ لها، وهذا يقينُنا في الله عزَّ وجلَّ.
رابط مختصر