الصحافة الورقية… أوراقٌ في مهبّ الريح
تاريخ النشر: 12th, April 2024 GMT
لم تعد شوارع بيروت وزواريبها تضج ببائعي الصحف والمجلات. مع الأسف نفتقد في عاصمتنا الى المقاهي التي كانت تعج بالمثقفين والطلاب والشعراء والصحافيين والكتاب وهم يطالعون الجرائد والمجلات بشكل يومي، والأرصفة باتت خالية من أكشاك الصحف والمجلات التي ترسخت في أذهان أجيال سابقة صورا لامعة من زمن الماضي الجميل، يوم كان الكثيرون من أبناء هذا البلد يبدأون نهارهم بقراءة عناوين الصحف ويتابعون أخبارها السياسية والأمنية والثقافية والرياضية، بالاضافة الى صفحات التسلية والوفيات.
على مدى أكثر من 150 عاماً والصحافة اللبنانية تسجل ريادة على مستوى المنطقة، فمنذ العهد العثماني مروراً بالانتداب الفرنسي وصولاً إلى الاستقلال وما بعده سنوات من التألق والازدهار كانت الصحف وجه هذا الوطن اللامع وعنوانا لحريته، أما اليوم فهي تواجه مصيرا قاتما، والعديد من المؤسسات الاعلامية الورقية تعاني من ازمات مالية وندرة في الممولين ما ادى الى توقف عدد كبير من أعرق الصحف والمجلات عن الاصدار .
أزمة الصحف الورقية
تتفاقم هذه الأزمة بوتيرة فائقة السرعة، والوضع الحالي كأنه ينبئ بانتهاء عصر الصحافة المطبوعة في لبنان. هذا البلد الذي طالما تميز بحرية التعبير في الشرق وكان يعد ملجأ الاحرار، بات في حال ميؤوس منها تستدعي البحث اليوم قبل الغد عن حلول مبتكرة حديثة وعن وسائل تضمن ديمومة العمل الصحفي الورقي واستمراريته.
وعن الأسباب التي أدت الى اقفال الصحف الورقية، يقول نقيب محرري الصحافة اللبنانية جوزيف القصيفي لـ"لبنان24" إن "الأسباب الاولى هي اقتصادية ومادية، والثانية هي في تضاؤل الموارد الاعلانية والاشتراكات وتوقف التمويل الخارجي الذي كان يعتبر سببا من أسباب صمودها، اما التطور الهائل في وسائل الاعلام ونمو الاعلام الالكتروني المرئي والمسموع بشكل كبير فهو السبب الرئيسي وترك أثارًا سلبية على الصحافة الورقية".
ويضيف: "من أهم الصحف التي أقفلت هي "دار ألف ليلة وليلة"، وكانت تضم صحيفة "البَيرق"، ومجلة "لا روفو دو ليبان" الناطقة باللغة الفرنسية، والمجلة العربية الرائدة "الحوادث"، والمجلة الانكليزية الوحيدة في لبنان "مانداي مورنينغ"، ومجلة الازياء والمنوعات "ستايل" التي كانت تصدر باللغة الفرنسية. وان توقف هذه المؤسسة الاعلامية العريقة عن العمل يعود الى خلاف بين ورثة الصحافي الراحل ملحم كرم صاحب المؤسسة".
الى ذلك، توالى إغلاق "دار الصياد" التي ضمّت جريدة "الانوار" ومجلة "الصياد" ومجموعة كبيرة من المجلات المتخصصة في ميادين السلاح والازياء والسيارات، وكل ما يتعلق بشؤون الحياة، وهي دار كبيرة أقفلها أصحابها بداعي عدم القدرة على الاستمرار .
ويشير القصيفي الى أن "السفير" كانت من أهم الجرائد اللبنانية التي توقفت على الاطلاق في السنوات الاخيرة وعانى صاحبها الاستاذ طلال سلمان من مشكلات وصعوبات مادية كبيرة، مما اضطره الى بيع بعض العقارات العائدة له لاجل استمرار الجريدة، وعندما اقفلت كل السبل المتاحة أمامه قام باغلاقها، والجدير ذكره أن الاستاذ طلال هو الوحيد من بين أصحاب الصحف التي توقفت ومنحت جميع العاملين حقوقهم الكاملة وفق لقانون العمل اللبناني ولم يضطر احد من هؤلاء الى مراجعة القضاء".
وتابع: "بعد اقفال "السفير"، صدرت جريدة "الاتحاد" للمرحوم الزميل مصطفى ناصر وكانت تجربة ناجحة، لكنها للاسف لم تدم سوى بضعة أشهر، وجرت محاولات لاعادة احيائها لكن الموت عجل برحيل الزميل ناصر".
أما صحيفة "صدى البلد" فقد تسبب اغلاقها باضاعة حقوق عشرات العاملين فيها جراء انتقال ملكيتها وعدم القدرة على معرفة المرجعية التي يمكن أن يوكل اليها.
ومؤخرًا، أغلقت جريدة "نداء الوطن" الورقية، وهي تصدر اليوم في صيغة الكترونية، ويشير القصيفي الى أن "هناك مفاوضات مكثفة يجريها مسؤولون في الجريدة مع عدد من رجال الاعمال ليوفروا تمويلا لها، لكي تتمكن الصحيفة الورقية من استئناف الصدور".
مصير الصحف الورقية الصامدة
وعن مصير الصحف الورقية الصامدة، يقول النقيب جوزيف القصيفي: "الامر يتوقف على طريقة التصدي للمشكلة ومعالجتها، وكيفية العمل على تجاوز الظروف، على سبيل المثال صحيفة "النهار" مرت بفترة عصيبة واستطاعت تجاوز الصعوبات من خلال خطة تولت وضعتها ادارة الجريدة وتمكنت من تجاوز هذا القطوع".
ويضيف: "من المفترض أن يكون هناك خطة رشيدة وبعيدة المدى من أجل توفير مصادر تمويل متعددة وللاستفادة من التطور في الصحافة الرقمية والالكترونية، وتوظيفها في مصلحة دعم الصحافة الورقية مثلما يحصل في عدد كبير من بلدان العالم". المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: الصحف الورقیة
إقرأ أيضاً:
صحافة «الوجبات السريعة»!!
تناولنا في المقالين السابقين التحول الرقمي في الصحافة العالمية بشكل عام، ومتطلبات تحقيقه في الصحافة العمانية على وجه الخصوص، حتى تستطيع البقاء في السوق لأطول فترة ممكنة، وذلك عبر تسخير القفزات الرقمية التكنولوجية لخدمة صناعة الصحافة، والاستفادة منها، وعدم استنفاذ الوقت المتاح في مقاومة هذا التحول.
نختم اليوم هذه السلسلة من المقالات بتقديم تجربة إحدى أهم الصحف العالمية البارزة التي استطاعت مواكبة التكنولوجيا الرقمية وتحويلها من نقمة، كانت تهدد استمرارها، إلى نعمة أدت إلى بقائها في سوق عالي التنافسية الإعلامية، مثل السوق الأمريكي.
الصحيفة التي نتحدث هي صحيفة «يو إس آيه توداى» أو «الولايات المتحدة الأمريكية اليوم» التي أطلق عليها حين ولادتها في عام 1982 لقب ساخر هو «صحيفة ماك» تشبيها لها بمطعم الوجبات السريعة المعروف «ماكدونالدز»، نتيجة ما تميزت به وقتها من استخدام واسع للألوان الزاهية، والرسوم البيانية، والقصص الإخبارية السريعة والقصيرة، والعناوين التلغرافية اللافتة، مما جعلها تبدو مختلفة عن الصحف التقليدية التي كانت تعتمد على نشر النصوص الإخبارية الطويلة والتفاصيل الدقيقة، كما جعلها عرضة للنقد الشديد من الصحفيين التقليديين الذين اعتبروها صحيفة سطحية تخاطب العامة، ووصفوها بوجبة «ماك» الشهيرة.
الصحيفة التي ظهرت قبل سنوات قليلة من ظهور شبكة الويب وتحويلها إلى وسيلة اتصال جماهيرية ومنصة لنشر الأخبار والصحف الإلكترونية، أصدرتها شركة «جانيت» المتخصصة في إصدار الصحف منذ 42 عاما تقريبا، لتكون صحيفة قومية توزع في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، ولكي تنافس التلفزيون في تقديم الأخبار بطريقة سريعة وسهلة القراءة.
وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة لأسلوبها في تقديم الأخبار، فقد نجحت «يو اس ايه توداي» خلال سنوات قليلة في جذب جمهور واسع من القراء الذين كانوا يريدون خدمة صحفية سريعة ومختصرة، وأصبحت واحدة من أكبر الصحف من حيث التوزيع في الولايات المتحدة، وهو ما أكد أن هناك طلبًا جماهيريًا على هذا النوع من الصحافة. وما تزال هذه الصحيفة واحدة من الصحف الرائدة في الولايات المتحدة، تقدم تغطية شاملة للأخبار الوطنية والمحلية، بالإضافة إلى الرياضة، والترفيه، والمال، والتكنولوجيا. ورغم التحديات التي تواجهها صناعة الصحافة الورقية، منذ ظهور منصات النشر الرقمية، تمكنت الصحيفة من الحفاظ على مكانتها بفضل مواكبتها المستمرة لتقنيات التحول الرقمي، وحرصها على تقديم محتوى متنوع وجذاب عبر منصاتها الإلكترونية.
واقع الأمر أن نموذج «يو إس آيه توداى» يمكن أن يحتذى في صحفنا الورقية التي ما زالت تناضل للبقاء على قيد الحياة. الصحيفة التي كانت الأولى في التوزيع على مستوى الولايات المتحدة تراجعت إلى المركز الخامس في السنوات الأخيرة، وبعد أن كانت توزع أكثر من مليوني نسخة يوميًا انخفض توزيعها الورقي إلى نحو 113 ألف نسخة فقط، وخسرت بذلك أعدادًا هائلة من قرائها الذين تحولوا مع التحول الرقمي، الذي شمل جميع مجالات الحياة، إلى منصات الأخبار الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي. ومن هنا اتجهت الصحيفة إلى سوق الصحافة الإلكترونية لجذب جمهور جديد عبر منصاتها الرقمية، وتواصل العمل على تحسين هذه المنصات وتقديم محتوى متنوع لجذب القراء الجدد والحفاظ على مكانتها في السوق.
وبشهادة من عاصروا التحول الرقمي للصحيفة يمكن القول إن إعادة تشكيل الصحيفة كانت عملية رقمية ناجحة نسبيا، على الأقل من وجهة نظر القراء. فقد اجتذب الموقع الإلكتروني للصحيفة نحو 64.1 مليون زائر متفرد في مايو الماضي، وهو ما يضعها بين المؤسسات الإخبارية الرائدة في العالم وليس في الولايات المتحدة فقط. صحيح أن عدد المشتركين الرقميين الذين يدفعون للحصول على خدمات الموقع، قليل نسبيا بالمقارنة بمواقع صحف أخرى مثل «نيويورك تايمز: و«واشنطن بوست» و«وول ستريت جورنال»، ولا يتخطى حاجز الـ 150 ألف مشترك، ولكن عدد الزوار الكبير يمنحها فرصًا أكبر في جذب الإعلانات التي تحقق دخلًا جيدًا.
السؤال المهم الذي يطرح نفسه الآن هو: هل نجحت صحيفة «يو إس آيه توداى» في مواجهة تحديات التحول الرقمي؟ وكيف تستفيد صحفنا العربية والعُمانية من هذه التجربة الثرية؟
يمكن القول بدرجة ثقة كبيرة: إن الصحيفة الأمريكية نجحت بمعايير السوق الصحفية في البقاء على قيد الحياة، بينما تعثرت وتوقفت صحفا ومجلات أخرى كثيرة لم تستطع إدارة هذا التحول. وأعتقد أن البقاء والاستمرار في السوق معيار مهم من معايير الحكم على نجاح التحول الرقمي خاصة في أسواق الصحافة التنافسية التي لا تدعم فيها الحكومات الصحف ووسائل الإعلام. ومع ذلك لم تكتف «يو إس آيه توداى» بالبقاء في السوق فقط، ودعمت مكانتها من خلال العمل على تنويع مصادر الدخل، وعدم الاعتماد على مصدر واحد، لتشمل إلى جانب البيع الورقي، الاشتراكات الرقمية، والإعلانات الرقمية. إن الدرس المستفاد هنا هو أن تنوع صحافتنا منصات النشر ومن ثم يأتي تنويع مصادر الدخل. ويمثل هذا التنويع المزدوج أحد أهم الحلول التي يجب على صحافتنا بحثها وتبنيها، حتى لا تبقى رهينة الدعم الحكومي.
الدرس الثاني الذي يمكن تعلمه من تجربة الصحيفة الأمريكية هو سرعة التكيف مع التغيرات التي تشهدها صناعة الصحافة على مستوى التكنولوجيا، وعلى مستوى جمهور القراء الجدد الذي لم يعد قانعا بالأساليب التقليدية في تقديم الأخبار ويحتاج إلى أساليب جديدة تقوم على تقديم الأخبار السريعة والقصيرة والملخصات الموجزة وليس التقارير الطويلة والمفصلة. لقد نجحت «يو إس آيه توداى» في العصر الورقي ثم في العصر الرقمي لأنها آمنت بحق القراء الجدد في الحصول على ما يريدون من الصحيفة، وهو أن تقدم الأخبار لهم في وجبة صحفية سريعة مثلما تفعل مطاعم الوجبات السريعة.
في تقديري أن مستقبل صحافتنا الحالية لا يرتبط فقط بقدرتها على تحقيق الجانب التقني من التحول الرقمي، فما أكثر التقنيات التي لدينا، وإنما أيضا بمواكبة هذا التحول على مستوى تحرير وتقديم وتوزيع الأخبار والتحول إلى صحافة «وجبات سريعة» عبر جميع منصاتها الرقمية.
لقد أثبت نموذج «يو إس آيه توداى» أن القراء مهما اختلفت أجيالهم وأماكن وجودهم وأعمارهم مستعدون لدفع تكلفة محتوى صحفي جيد يتوافق مع احتياجاتهم ويلبي متطلباتهم في الحصول على صحافة سريعة وخاطفة، تقدم لهم الأخبار في وجبات سريعة مثل «سندويشات الهامبرجر»، بشرط أن تكون، على عكس هذه الوجبات، آمنة وصادقة ومغذية!
لقد كانت صحيفة «ي واس ايه توداى» كما يقول مؤرخو الصحافة «واحدة من أكثر الإبداعات الإعلامية تأثيرًا في الخمسين عاما الماضية، وكان ما قدمته من أساليب تحريرية للأخبار النموذج الذي تم استخدامه في صحافة الويب والصحف الرقمية بعد ذلك. ولذلك تستحق قصتها في التحول الرقمي أن تروى، عسى أن تستفيد منها صحافتنا الجادة لضمان البقاء في السوق الإعلامية.