توالي "الهيئة الوطنية للصحافة" (مصرية، حكومية تدير شؤون الصُحف)، إعدامَ "الصحافة الورقية المصرية".. آخر قراراتها- قبل أيام-، دمج مجلة "نصف الدنيا" الأسبوعية (صدرت عام 1990 عن مؤسسة الأهرام الصحفية)، مع مجلة أخرى، ليكون الإصدار شهريًا. "نصف الدنيا"، كانت واسعة الانتشار عربيًا.. حققت شعارها (لكل الدنيا)، منذ صدورها، حتى سنوات قليلة مضت، برئاسة تحرير الكاتبة الصحفية المرموقة مهنيًا وإداريًا سناء البيسي (86 سنة).

تميزت المجلة مع "البيسي" بالتفرّد الصحفي والجودة العالية، وتنوع محتواها، ليشمل كل ما يهمّ المرأة من صحة، وجمال، وموضة، وأسرة، وحقوق.. دون إهمال لتنوع القضايا الثقافية والاجتماعية والجوانب الإنسانية، فكان محتواها ماتعًا، جاذبًا للجميع رجالًا، ونساءً، وشبابًا على السواء.

الكواكب والصحف المسائية

هيئة الصحافة، ذاتها، كانت قد أغلقت (عام 2022)، مجلة الكواكب الفنية الأشهر (صدر عددها الأول عام 1932)، وأدمجتها مع مجلتين غيرها.. كما ألغت (يوليو/ تموز- 2021)، الإصدار الورقي للصحف المسائية الثلاث التي تصدر في مصر.  الصحف المسائية المغلقة؛ هي: "المساء"، أول جريدة مسائية مصرية، وأوسعها انتشارًا.. أسسها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (عام 1956)، وتولى رئاستها عضو مجلس قيادة الثورة (يوليو/ تموز 1952)، خالد محيي الدين (1922- 2018)، والأهرام المسائي (صدرت عام 1991)، والأخبار المسائي (عام 2015). هذه الحملة الممتدة على الصحافة الورقية؛ تتعلل بتراجع التوزيع، ونقص الموارد الإعلانية، وزيادة كُلفة الإنتاج والطباعة، وانصراف الجمهور إلى الإعلام الإلكتروني مع انتشار الإنترنت.

الخديوي.. وندرة المتابعة للفضائيات

المُشكل، أن حال "الصحافة المصرية" بالعموم- إلا قليلًا-، لا يسرُّ الخاطر. سواء كانت ورقية (الخديوي هي أول جريدة مصرية صدرت عام 1813، بخط اليد)، أو رقمية إلكترونية، أو مرئية (التلفزيون بدأ إرساله عام 1960)، أو مسموعة (الإذاعة بدأت البث عام 1934). تلاشى بريق، وتأثير، هذه الصحافة العريقة؛ سواء محليًا أو عربيًا. فالفضائيات ومحطات الإذاعة، والمواقع الإلكترونية، على كثرتها، وضخامة الإنفاق عليها.. تفتقد الإقبال، وندرة المتابعة (المشاهدة للفضائيات، والاستماع للإذاعات)، وتهاوي توزيع الصحف الورقية إلى أرقام مُخجلة. هذا بعد الريادة التي ميزت صحافة مصر منذ نشأتها.

أهرام المليون نسخة

صحيفة "الأهرام اليومية" العريقة التي أسسها اللبنانيان بشارة وسليم تقلا عام 1876م.. صدرت لها طبعات يومية (عام 1984)، في دول عربية، ودولية في بلدان أوروبية وأميركا. احتضنت طوال مسيرتها المزدهرة (سابقًا)، عمالقة الأدب والصحافة، أمثال: نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وسلامة موسى، وطه حسين، وإدوارد سعيد، وإحسان عبدالقدوس، ومحمد حسنين هيكل، وغيرهم ممن يصعب ذكرهم حصرًا.

وصل توزيع الأهرام، إلى مليون نسخة في العدد الأسبوعي (يوم الجمعة)، عندما كان تعداد سكان مصر، نصف تعدادها الحالي (100 مليون نسمة تقريبًا). مثلها كانت "أخبار اليوم" التي أسسها التوأم مصطفى، وعلي أمين عام 1944م.. الآن، توزّع كل منهما، آلافًا أو عشرات الآلاف من النسخ (ليس هناك إحصاءات موثوقة). هذا، بخلاف اندثار صحف عديدة، خاصة، ومُعارضة.

محنة الصحافة المصرية

هل إغلاق الجرائد والمجلات الورقية.. صواب.. يحل أزمة الصحافة المصرية؟. الإجابة بالنفي، تأكيدًا، فكما سلف القول؛ فالأزمة أو المحنة تطال الصحافة المصرية كلها، مطبوعة ورقمية ومرئية ومسموعة. السؤال الجوهري: لماذا؟. هناك تراكمات، انتهت بالصحافة المصرية إلى هذا الحال المُحزن على ماضيها المُشرق، تحت الرقابة على الصحف في "العصر الناصري" الموصوف بالدكتاتورية والاستبداد.

تراجع النفوذ والفاعلية، لهذه الصحافة بوسائلها العديدة، يمكن إجماله في أسباب أربعة. أولها: غياب حرية التعبير، والإبداع، وتداول الأفكار.. مما انعكس تضييقًا على الصحافة بوسائلها (مكتوبة ومسموعة ومرئية)؛ تحكُمًا، فيما يُنشر، ويتداول من أخبار. رغم سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي، المُصطلح على تسميتها "الإعلام الجديد"، الذي صار- مع ما عليه من مآخذ-، متقدمًا على الإعلام التقليدي (صحافة وتلفزيون).

نسخ مُكررة

ثانيها: غياب الجودة، فكثيرٌ مما يتداول من أخبار أو تقارير، ينقصه معلومات ضرورية.. يتساوى في هذا، إن كانت هذه الأخبار والتقارير، منشورة في جرائد، أو مُذاعة في محطات الراديو، أو تبثها فضائيات تلفزيونية. فمن البديهيات التي غابت، أن "الخبر (أو التقرير)، عليه توفير إجابة للأسئلة "مَنْ، وماذا، وأين، ومتى، ولماذا؟".. قد لا تتوفر إجابة السؤال "لماذا"، دائمًا.. كما في الحوادث الغامضة، والجرائم، وتقاعس الجهات الإدارية عن إتاحة المعلومات.. لكن يجب المتابعة واستكمال ما هو ناقص أو غامض.

هذا، بدوره أدى بـ "وسائل الإعلام" (على تنوعها)، إلى التشابه في محتواها، دون فوارق تُميز كلًا منها. فالخبر أو التقرير يُنشر أو يُبث في وسائل الإعلام، بصيغة موحدة، فإن تنقلت بينها جميعًا باحثًا، عن معلومة ما، غائبة، فلن تجد ما يشبع فضولك. وتكتشف أنها "نُسخ مكررة"، من أصل واحد. ثالث الأسباب: هروب الجمهور إلى الإعلام الجديد؛ نتيجة للقيود المفروضة على "الإعلام التقليدي"، كون المتابع له، لا يجد ضالته لديه، فهذا الهروب نتيجة، وليس سببًا.

غياب الميول للقراءة

رابعها: وآخرها، افتقار طائفة واسعة من الأجيال الجديدة، الميل إلى القراءة، على خلفية تدهور التعليم، وعدم وعي الأُسر، واهتمامها بتنمية ميول أطفالها للقراءة، بواسطة جلب مطبوعات متخصصة مناسبة لأعمارهم، تحتوي صورًا للحيوانات والطيور، والأشياء (ربما بسبب الغلاء).. مع تطور قدرات الطفل التعليمية، فإنه ينشأ مُحبًا للقراءة، يألف المطبوعات كُتبًا وصُحفًا. آية ذلك، أن كثيرين من مرتادي مواقع التواصل، يكتفون بـ "العناوين"، التي قد تكون مُضللة، بعيدة عن محتوى الخبر، ومضمونه، دون الولوج إلى التفاصيل، بما يؤدّي لانتشار أخبار زائفة، تفتقر للدقّة.

الركون إلى علل واهية، للإغلاق، ليس حلًا، فالصحافة المصرية (مقروءة ومسموعة ومرئية)، تستحقّ جهدًا لتطويرها؛ بغية استعادة مجدها الضائع، بعلاج الأسباب. فالصحافة الورقية، لم تندثر في الغرب الذي اخترع الإنترنت، ومنصات التواصل، لأنّ القائمين عليها هناك، سارعوا بتطوير محتواها، لتتفرّد، بمعالجات استقصائيّة، ومتخصّصة، تميّزها عن النسخ الرقمية، وتتكامل معها.. في كل الأحوال، يتعيّن تقديم الكفاءات المهنية والإدارية على أصحاب الولاءات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الصحافة الورقیة الصحافة المصریة

إقرأ أيضاً:

مؤمن الجندي يكتب: مراد الانفراد

ذات مساء في غرفة الأخبار.. جلست على مكتبي في غرفة الأخبار، حيث ينبض العالم بأصوات الهواتف وصفير الإشعارات، متكئة على الحواسيب التي باتت وكأنها أوتار تعزف عليها أيدي المحررين.. نظرت حولي لأرى زملائي منشغلين بمتابعة الأخبار المتداولة على وكالات الأنباء ومنصات التواصل الاجتماعي، وكأنهم عازفون يتسابقون على عزف النوتة ذاتها، لكن شيئًا ما كان ينقص هذا المشهد؛ ذلك البريق الذي كان يُشعل عيون الصحفيين حين كانوا يتحدثون عن "السبق الصحفي".

مؤمن الجندي يكتب: مقادير صناعة الأسطورة مؤمن الجندي يكتب: ما الذي لا يستطيع المال شراؤه؟ مؤمن الجندي يكتب: بالونة مزدوجة مؤمن الجندي يكتب: وصفة للفوضى

تذكرت تلك الأيام مع أستاذي الذي علمني أن الصحافة ليست مجرد نقل الأخبار، بل هي فن اكتشاف المجهول.. كان يردد دائمًا "السبق الصحفي هو روح المهنة"، ويدخل الأزقة ويجلس مع الغرباء لساعات بحثًا عن حقيقة واحدة! ففي يوم فارق، عملنا على تحقيق! ورغم الشكوك، قادني أستاذي إلى منزل بسيط حيث تحدث بحميمية مع رجل مسن، ليخرج بعد ساعات بوثائق تكشف القصة كاملة، معلمًا إيّاي أن الانفراد الحقيقي يولد بالصبر والبحث العميق والرغبة في نقل المعلومة بأمانة.

لكن الزمن تغير.. مع صعود الإنترنت، وانتشار الأخبار بسرعة البرق، أصبح السبق الصحفي عملة نادرة! باتت الصحف تتسابق لنقل ما هو متاح بالفعل، بدلًا من البحث عن ما هو مخفي! وهذا الشيء حقيقة يحزنني بشدة على مهنتي وزملائي.. أصبحنا نعيش في عصر التشابه، حيث كل وسيلة إعلامية تقدم النسخة ذاتها من القصة.

ومع ذلك، أؤمن أن الانفراد الصحفي لم يمت، بل هو ينتظر من يحييه.. يحتاج إلى قلوب شجاعة وعقول متقدة لا تخشى التعب، ولا تستسلم للإجابات السهلة! يحتاج إلى من يؤمن بأن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل هي رسالة تكشف الحقائق وتُعيد للناس الثقة بأن هناك من يسعى خلف الحقيقة، مهما كان الثمن.

حين غادرت غرفة الأخبار تلك الليلة، قررت أن أبحث عن ذلك الانفراد المفقود.. قررت أن أكون صوتًا في زمن الصمت، وأن أقدم شيئًا مفيدًا يُذكر لي بعد رحيلي.. وأعيد للصحافة بريقها الذي تلاشى تحت ضغط العناوين المتكررة والشائعات المتداولة.. فما زال في القلب شغف، وما زالت في الميدان قصص تستحق أن تُروى.

انتصار القلم المصري

في لحظة فارقة، كسر محمد مراد الناقد الرياضي بجريدة اليوم السابع القواعد السائدة وأعاد للصحافة الرياضية مكانتها التي افتقدتها طويلًا.. حين أعلن مراد عن انتقال عمر مرموش إلى مانشستر سيتي الإنجليزي، كان الخبر بمثابة صدمة إيجابية للجميع، خاصة بعدما سارعت الصحف الألمانية لنفيه.. لكن مراد، مسلحًا بمصداقيته وثقته بمصادره، ظل ثابتًا أمام العاصفة! خلال ساعات قليلة، انقلبت الطاولة، وأكدت كبرى الصحف العالمية صحة الخبر، ليتحول انفراد مراد إلى حديث العالم أجمع، تلك اللحظة لم تكن مجرد سبق صحفي؛ بل كانت إعلانًا جديدًا بأن الصحافة الرياضية في مصر قادرة على أن تكون في قلب الحدث، تقود المشهد بدلًا من الاكتفاء بالمتابعة والنقل المباشر.

في النهاية، المصداقية هي جوهر الصحافة، والطريق الوحيد لصناعة انفراد حقيقي يترك أثرًا لا ضجيجًا.. الصحفي المتميز لا يلهث خلف "عاجل" بلا قيمة، بل يسعى وراء الحقيقة، مهما كان الطريق طويلًا.. الانفراد ليس عنوانًا لافتًا، بل رسالة عميقة تُعيد الثقة بين القارئ والصحافة، وتُثبت أن المهنة لا تزال تحترم عقل الجمهور وتقدر دورها في كشف الحقائق، لا بيع الأوهام.

للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا

مقالات مشابهة

  • الدعم النقدي والعمل.. لماذا تحاصر الحكومة المصرية عمالها بقوانين مجحفة؟
  • مؤمن الجندي يكتب: مراد الانفراد
  • ذكرى رحيل فاتن حمامة..أيقونة السينما المصرية التي خلدت تاريخها بفن راقي
  • أحمد حسن الزعبي… خارج القضبان…!
  • بالفيديو .. صحفي يقاطع بلينكن بقوله:لماذا ارسلت قنابل وانت تعلم انه كانت هناك اتفاقية لوقف اطلاق النار .. لماذا تهين الديانة اليهودية من خلال دعمك للابادة؟
  • جمال عبدالرحيم: الصحافة المصرية تودع الكاتب الصحفي زكي مصطفى
  • البرهان يصدر قراراً بتشكيل لجنة للتحقيق في الأحداث التي وقعت بكمبو طيبة بولاية الجزيرة
  • القوة الناعمة المصرية في فضاءات الصالونات الثقافية
  • يديعوت أحرونوت: حماس ستظل فاعلة ومتجددة بعد صفقة الأسرى
  • شاهد بالفيديو والصور| هكذا تمت عملية تطهير منطقة حنكة آل مسعود من “داعش” والأماكن التي كانت تتمترس فيها العناصر التكفيرية وطريقة تعامل رجال الأمن مع الأسرى