اغتيال أبناء هنية.. حماس ومفهوم الدماء المتساوية
تاريخ النشر: 12th, April 2024 GMT
في خطوة انتقامية، لا تخلو من أهداف الضغط وكسر العزيمة، اغتال جيش الاحتلال الإسرائيلي 3 من أبناء رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وعددًا من أحفاده في غارة جوية على سيارتهم، بينما كانوا يتنقّلون في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، خلال أداء زيارات صلة الرحم في اليوم الأوّل لعيد الفطر المبارك.
بحادث الاغتيال هذا، تأكدت قاعدة متجددة لطالما عُرفت حركة المقاومة الإسلامية حماس بها، وهي قاعدة الدماء المتساوية، واندماج قادتها وأبنائها مع أبناء الشعب الفلسطيني، وقد أثبتت الحركة ذلك خلال مسيرة نضالها.
وعلى سبيل المثال، قدّم الدكتور خليل الحية- رئيس مكتب العلاقات العربية والإسلامية في حماس، وقائد فريقها التفاوضي حاليًا – عددًا كبيرًا من أبنائه وأفراد عائلته، وكذلك الدكتور محمود الزهار، والمهندس عيسى النشار، وغيرهم الكثير من الكوادر في كافة المستويات القيادية للحركة.
وتتميز حركة حماس بالتطبيق العملي لمفهوم الدماء المتساوية، وتكاد تبرز كحالة ساطعة حتى على المستوى العالمي، بهذا الكَم الكبير من التضحيات والتي تصل ربما لمئات من قادتها من الصف الأول وأبنائهم دون التراجع عن هذا الطريق. وقد كان نائب رئيس حركة حماس، صالح العاروري الذي استشهد خلال معركة “طوفان الأقصى” يؤكد هذه المعاني، بقوله: ” نحن لا نختلف عن كل أبناء شعبنا، نحن جزء من هذه المقاومة ويمكن أن نكون جزءًا من الثمن”.
إن مفهوم الدماء المتساوية، يعني التساوي في التضحيات من القيادة التي تتقدم المشروع مع بقية فئات الشعب الذي تنتمي له، وهذا أحد مؤهلات القيادة الحقيقية الأساسية، حيث إن التضحيات التي يقدمها القادة من أنفسهم ومن دائرتهم الاجتماعية الأولى، تظهر التزامهم الأساسي بالقضية التي يناضلون من أجلها من جهة، كما أنها تعدّ مصدر إلهام للمناصرين والمتابعين، وتحثهم على مزيد من البذل والعطاء من أجل المشروع السامي. كما أنها تجدد الثقة بين القائد وشعبه.
وهذا ليس كلامًا عاطفيًا، مع أنَّ المشهد في غزة لا يمكن أن ينفصل عن الشعور العاطفي، بل تعززه أيضًا جملة من النظريات القيادية، مثل نظرية القيادة الأخلاقية، حيث يقدم القائد المثل الأعلى للشعب من خلال تضحياته وتحمّله المسؤولية، والتزامه بهذه المبادئ، من خلال تضحياته حتى لو كانت على حسابه وحساب عائلته، ويكسب هذا القائد احترام وثقة الشعب.
لقد رسّخ حديث إسماعيل هنية قائد المكتب السياسي لحركة حماس للجزيرة في الساعة الأولى لاستشهاد أبنائه، والمقطع الذي ظهر له وهو يتلقى الخبر بتسليم كامل ووقار وسمت هادئ، عدّةَ أمور، منها ترسيخ صورة القيادة الملتحمة مع الشعب والتي لا تختلف عنه بقوله: إن “كل أبناء شعبنا وكل عائلات سكان غزة دفعوا ثمنًا باهظًا من دماء أبنائهم، وأنا واحد منهم.. وما يقرب من 60 من أفراد عائلتي ارتقوا شهداء، شأن كل أبناء الشعب الفلسطيني ولا فرق بينهم”.
من زاوية أخرى، أظهر موقف هنية الأوّلي الثباتَ الانفعالي لقيادة الحركة في الأوقات الحرجة، ونضج هذه القيادة وقدرتها على تحمل مثل هذه الأخبار، وهذا مؤشر مهم للحاضنة الشعبية، بأن القيادة لا تخضع للابتزاز، وهذا أمر آخر من شأنه أن يضيف إلى الشعور بالثقة في اتخاذ القيادة للقرارات الصائبة.
وقد تابعت عشرات التعليقات من نشطاء وشباب في عدة دول من المنطقة حول موقف هنية الأوّلي والذين أشادوا بهذا الثبات، وهذه المتانة، وأكدوا أن مثل هذا الموقف لا يؤكد إلا أن هذه المقاومة وهذا الشعب على حقّ ولا يمكن أن يُهزم.
لقد قام الاحتلال باختيار التوقيت والهدف والمكان من أجل تحقيق جملة من الأهداف، أولها التأثير على قرارات قيادات حركة حماس، وضرب الحالة النفسية للقيادة والشعب، وكذلك اختار الزمان في يوم عيد الفطر الذي يُعتبر عيد فرح وسكينة في الوعي الجمعي للفلسطينيين والمسلمين جميعًا، وقد اختار هذا التوقيت لإلحاق هزيمة معنوية وحزن محبط للحالة الفلسطينية التي شعرت بالانتشاء والافتخار قبل يوم واحد فقط، مع نشر مقاطع كمين خان يونس الذي أظهر براعة المقاومة وقدرتها على إيقاع خسائر كبيرة في الاحتلال، وبشكل احترافي حتى بعد 180 يومًا من الحرب.
ومع ذلك فرّغ حديث إسماعيل هنية هذه الأهداف من مضمونها، أولًا بمشهد تلقي خبر استشهاد أبنائه بهذا التسليم، كما أن الحدث أثبت أن العدو لا يفهم مكنون الهوية الفلسطينية التي تزداد قوة وإصرارًا ومكانة بالشهداء من دوائرها الأولى.
إن حركة يقدم قائدها الأول حاليًا جزءًا من عائلته شهداء، كما يستشهد نائبها في هذه المعركة، ومن قبل كان الشهيد أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة، وإسماعيل أبوشنب، وغيرهم، لا يمكن أن يُستغرب تسليم قادتها بتلقي هذه الأخبار، فهم مستعدون نفسيًا وعمليًا لها.
من زاوية أخرى لم يزد حادث الاغتيال هذا، صورةَ العدو الإسرائيلي إلا قتامة واشمئزازًا في ظل عدم احترامه ولا رعايته لحرمة زمانٍ ولا مكانٍ ولا عيدٍ ولا أطفال أو مدنيين.
أما المعنى الأهم؛ فهو وهْم الاحتلال في ظنه بأن مثل هذه الحوادث يمكن أن تحدث تغييرًا في السلوك التفاوضي لحركة حماس، بل على العكس تشكل شلالات الدماء المراقة على طريق التحرير عنصر ثبات لا يضاهيه عنصر آخر في تصليب الموقف التفاوضي لأي حركة تحرر. وقد أكد هنية ذلك بقوله: إن “الاحتلال يعتقد أنه باستهداف أبناء القادة سيكسر عزيمة شعبنا.. نقول له إن هذه الدماء لن تزيدنا إلا ثباتًا على مبادئنا وتمسكًا بأرضنا”.
إن الاحتلال الإسرائيلي مثله كمثل نظرائه من الاحتلاليين عبر التاريخ يعيش نفس المأزق، حيث لم يتورعوا عن ارتكاب الجرائم بحق الشعوب، بينما لا تزيد هذه الجرائم الشعوب إلا إصرارًا على إكمال الطريق، ولا تقصر هذه الأحداث إلا من العمر الافتراضي لهذه الكيانات الاحتلالية.
قبل أيام قليلة أظهر استطلاع رأي، أجراه المركز الفلسطيني للدراسات المسحية، أن هنية سيحصل على 70% من الأصوات إذا ترشح مقابل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كما أظهر الاستطلاع تأييدًا كبيرًا لـ “طوفان الأقصى”، حيث اعتقد ثلاثة أرباع الفلسطينيين أن عملية “طوفان الأقصى” وضع القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمام.
وأكاد أجزم بشكل قاطع أن مفهوم الدماء المتساوية الذي ترافق مع مسيرة حماس، وأكده الحادث الأخير، سيرفع من شعبية الحركة ودعمها داخليًا وخارجيًا بشكل كبير، وسيضيف لها رصيدًا أكبر مما أظهرته الاستطلاعات السابقة.
* باحث وكاتب فلسطيني
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية (5-6)
مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، "ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)"، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.
عبد الله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.com
لقد رسب القادة القانونيون في امتحان محكمة الردة، إذ ليس هناك وضع أمثل للقانونيين والمشغولين بالحقوق، لإسهامهم في بناء دولة القانون وترسيخ الثقافة القانونية وتمكينها ونشرها في المجتمع، من أن يكونوا في مواقع سيادية وفي ظل نظام ديمقراطي، بيد أن هذا لم يحدث.
أما مواقف زعماء الأحزاب التقليدية من محكمة الردة في نوفمبر عام 1968، فقد عبر عنها كل من الصادق المهدي وحسن الترابي. ففي نوفمبر من عام 1968، علَّق الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، على آراء الأستاذ محمود محمد طه ومحكمة الردة الأولى، قائلا: "إن أفكار رئيس الحزب الجمهوري خارجة عن نطاق الدين والشريعة الإسلامية وإن التفكك والانحراف الذي تعيشه بلادنا هو الذي سهل من قبل لدعاوي الكفر والإلحاد أن تتفشى وإذا أردنا حقاً القضاء على الردة والإلحاد فيجب أن نسعى جميعاً لإقامة دولة الإسلام الصحيحة". وأضاف الصادق المهدي وهو يعلق على آراء الأستاذ محمود: "إن الوضع الحالي كله خارج الشريعة الإسلامية وهذا ما مهد قبلاً لإعلان مثل هذه الأفكار والدعاوي الغريبة دون أن تجد من يردعها". كما كتب حسن الترابي، الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامي، في يوم 29 نوفمبر عام 1968 مقالاً بعنوان: "السياسة الصحيحة نحو محمود محمد طه واضرابه"، يقول فيه: "إن الانحراف الفكري لمحمود يوافق الاتجاه العام للحركات الشاذة في تاريخ الفكر الإٍسلامي وحاضره فهي نزعة للانفساخ من التزامات الدين وواجباته من الصلاة إلى الجهاد وهي جنوح لتحكيم الهوى وجعله فوق الرسالة بإنكار السنة والتصرف بالتفسيرات الذاتية في آيات القرآن. وبها لا يعدو الدين أن يكون أداة لتسخير الاتباع لأهواء القائد وتقديسه بصورة عمياء كما نشاهد". ثم تناول الترابي في نفس المقال حكم المحكمة الشرعية الذي صدر يوم 18 نوفمبر 1968، بردة الأستاذ محمود عن الإسلام، قائلا: "أما حكم المحكمة الشرعية فقد اقتضاه اختصاص المحاكم بالأحوال الشخصية للمسلمين وضرورة الفصل في الصفة الدينية للمواطن لتنبني على ذلك أوضاعه القانونية الشخصية وهو حكم قد صدر في إجراءات قضائية رسمية". وأضاف الترابي قائلا: "ولعل ردة الفعل الهوجاء التي ظهرت من محمود خير دليل على أن الحكم قد كان له آثاره الفعالة في حصر المرض الذي يحاول محمود وأشياعه أن ينشروه. والذين تولوا مع محمود الحملة على القضاء الشرعي لا يقصدون أشخاص القضاة وإنما يهدف أغلبهم للنيل من الإسلام في كل مظهر من مظاهره بصورة منافقة ماكرة".
مثَّلت هذه المواقف أكبر دليل على غياب الورع الأخلاقي والخيانة لمبادئ ثورة أكتوبر. ويكفي أن نلفت انتباه القارئ للاطلاع على رأي الزعيمين المهدي والترابي اليوم بشأن الردة. فالآراء قد تبدلت تماماً، والمواقف قد اختلفت كلية. الشاهد أن في رأي الترابي والمهدي بشأن الردة عام 1968 مقروناً برأيهما اليوم دليل قوي عن أزمة الأخلاق في الفكر الإسلامي ودليل قوي كذلك عن محنة أهل السودان في زعمائهم ومفكريهم. إن تبديل الآراء وتغيير المواقف، كما تجلى في موقفي المهدي والترابي تجاه حكم الردة، يعبر بجلاء عن حالة اليتم الفكري واليتم القيادي التي تعيشها شعوب السودان والإسلام. بيد أن العزاء والمراهنة ستكون على تطور الوعي والذي هو في اندياح الآن، ونمو الحس العدلي لدى الشعوب، الأمر الذي يؤدي إلى بناء الرأي العام الجديد، وبعث المعايير الأخلاقية في قراءة المواقف والوقائع، والمناداة بالحقوق الإنسانية، وتحرير الشعوب من الأوصياء على العقول، عندها سنكون نحن في قلب "الثورة الكبرى، ثورة العقول".
الشاهد أن محكمة الردة في نوفمبر 1968، والتي تمت في عقد الستينيات، عقب ثورة أكتوبر، بتآمر واضح ومكشوف، مثلت سابقة خطيرة أسست لعدم الاستقرار وغياب الحرية في السودان. فقد تم استدعاء تلك المحكمة، في ظل قوانين سبتمبر 1983 (ما سمي بالشريعة الإسلامية) والتي أدت إلى انهيار اتفاقية أديس أبابا 1972، إلى محاكمة يناير 1985 وتنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه في صبيحة يوم الجمعة 18 يناير 1985. لقد ساهمت تلك السابقة وتنفيذ حكم الاعدام فيما بعد، في أن يخسر السودان وحدته واستقراره منذ ذلك الوقت، وحتى يوم الناس هذا.
الكبوة الدستورية: الدستور الإسلامي 1968
على الرغم من أن أشواق الجماهير في ثورة أكتوبر، كانت تُعبر عن الخروج من الذات لملاقاة الآخر، وهي تحمل أماني الوحدة من خلال رفضها للحسم العسكري لقضية الجنوب، كانت الأحزاب التقليدية تعمل على النقيض تماماً، حيث العمل على ما يفتت البلاد من خلال الدعوة للدستور الإسلامي. فقد طرح مشروع الدستور الإسلامي وقد أيدته حينها كل الأحزاب الطائفية وجبهة الميثاق (الإخوان المسلمون)، وتحمست له جميعها. فبعد إجراء الانتخابات العامة في أبريل 1968 أقرت الجمعية التأسيسية الجديدة الاقتراح بتكوين لجنة للدستور من أربعين عضوا من أعضاء الجمعية، يترك لها تحديد اختصاصاتها على أن تكون مسودة الدستور التي تم وضعها سنة 1967 هي الأساس للمناقشة. وإذا ما نظرنا في مداولات اللجنتين كما أوردهما يوسف محمد علي في كتابه: السودان والوحدة الوطنية الغائبة، نجد أن هناك جهوداً كبيرة بذلت من قبل بعض أعضاء اللجنتين في سبيل أن يكون دستور السودان دستورا إسلامياً على النحو الذي أرادته الأحزاب التقليدية. وقد تصدى فيليب عباس غبوش وأبل ألير وعبد الخالق محجوب وغيرهم، لبنود مشروع الدستور الإسلامي وقدموا اقتراحات بتعديل البنود بما يتسق مع مكونات السودان وتركيبته المتنوعة وينسجم مع أشواق الجماهير التي فجرت ثورة أكتوبر، ولكن اقتراحاتهم سقطت، وكان لابد لها أن تسقط أمام الأغلبية التي كانت تمثل الأحزاب التقليدية. أخيرا تم وضع مشروع الدستور الإسلامي، وتم تقديمه للجمعية التأسيسية التي أقرته في القراءة الأولى والثانية. يقول عبد الماجد أبو حسبو، "عندما وُضع مشروع الدستور الدائم وكنت وزيراً للعدل، كانت وزارة العدل بحكم وظيفتها مسئولة عن الصياغة وعن مشروعات القوانين. وقبل تقديم مشروع الدستور للجمعية التأسيسية رأيت أن نعرض ذلك المشروع على العالم الدستوري الأستاذ العلامة السنهوري في مصر، وكونت وفدًا يمثل مختلف وجهات النظر من الأساتذة المختصين، والسياسيين والقضاة، لحمل مشروع الدستور وعرضه على العلامة الأستاذ السنهوري الذي درس المشروع وأبدى عليه ملاحظات قيِّمة. عرض الدستور على الجمعية التأسيسية لدراسته ومناقشته وإقراره وتمت بالفعل القراءة الأولى والثانية وأُجيزتا، وقبل القراءة الثالثة والأخيرة وقع انقلاب 25 مايو سنة 1969".
الشاهد أنه ليس هناك فرصة في مجتمعات التنوع الثقافي كحال السودان سوى اعتماد مبدأ المواطنة، حيث يتساوي جميع المواطنين من حيث هم مواطنون والأخذ في الدستور بالأصول الإنسانية التي يلتقى فيها الناس.
نلتقي في الحلقة السادسة وهي الأخيرة.