في السادس من أغسطس/آب عام 1945، في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، ألقت الولايات المتحدة قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما، دمرت المدينة وقتلت ربما 100 ألف شخص، ثم أُسقطت قنبلة ثانية على مدينة ناغازاكي بعد أيام قليلة، وكان لها الأثر المدمر ذاته.

وفي مواجهة هذه الصدمة التي شهدتها البشرية للمرة الأولى، تشكلت مجموعة من الاستجابات الأدبية التي أطلق عليها "أدب القنبلة الذرية"، وباعتبار اليابان البلد الوحيد الذي تعرض للهجوم النووي فقد ارتبطت هذه الاستجابات الأدبية بكُتّاب يابانيين في الغالب كتب بعضهم بالإنجليزية، وعبروا عن آثار ثقيلة تركت بصماتها -وما تزال- تاريخيا ونفسيا، عبر الأجيال.

وفي حين أن التقارير العلمية والسجلات التاريخية أوضحت الآثار الملموسة لمآسي القنبلة النووية، فقد تسنى للناس -من خلال الأدب- فهم التأثير العاطفي الأعمق والأطول أمدًا الذي أحدثته هذه الفاجعة بشكل أفضل، وسط الضجيج المحموم لحقبة ما بعد الحرب.

هارا وآوتا

من أبرز رواد أدب القنبلة الذرية تاميكي هارا (1905 – 1951) الذي ولد في هيروشيما وأصبح أحد الناجين من القصف النووي، ولمعرفته المسبقة بالأدب الروسي والشعر الإنجليزي الذي درسه في جامعة كيئو اليابانية جمعت كتابته بين طبيعة نثر الضحايا وأدب عالمي محترف.

مرضت زوجة هارا في عام 1939، وتوفيت عام 1944، وقد قال عنها ذات مرة، "إذا فقدت زوجتي، فسأعيش عامًا واحدًا فقط لأترك وراء ظهري مجموعة من القصائد الحزينة والجميلة"، وبعد مرور عام، قبيل الذكرى السنوية الأولى لوفاتها، تعرضت هيروشيما للقصف النووي بينما كان في منزل والديه لتصبح هاتان التجربتان الصادمتان محوريتين في أعماله الأدبية.

كتب هارا (زهور الصيف)، أشهر أعماله، بحلول أغسطس/آب 1946 ولكن لم يتم نشره حتى يونيو/حزيران 1947. ونُشر قسمان آخران من العمل لاحقًا بعنوانَي "من أطلال" في عام 1947، و"مقدمة للإبادة" في عام 1949 واصفا تجربته المرعبة.

وفيما يبدو نوعا من عجز اللغة عن وصف الكارثة بدا أسلوبه الأدبي كما لو أن الاستياء الذي لا يطاق ضد هذه العبثية يربطنا ببعضنا بعضا ولم نعد بحاجة إلى كلمات تقال.

أعمال أدبية عديدة تصف سطوع ضوء الانفجار النووي وجمال سحابة عيش الغراب الغريبة والمروعة (رويترز)

ويعبر هارا بشكل نموذجي عن أدب القنبلة النووية، فالعدمية والعبثية وفقدان الهدف واضحان تماما بينما يقدم للقارئ مشاهد مروعة، وإذ يظهر نوعا من التسليم الهادئ بما جرى، لكن حقيقة الأمر أن الشعور بالذهول والانفصال واللامبالاة، تقدم تعبيرات عميقة عن اليأس أو تعبر عن شكل من أشكال التخدير النفسي الشديد والطويل الذي يستجيب فيه الناجي لواقعه.

ووسط الضجيج المحموم لحقبة ما بعد الحرب، يتحدث للقارئ بصوت خافت، كما لو كان يهمس مباشرة، من روح إلى روح، ويقول "لم أكتشف أي حقيقة أعمق في الحرب".

ويمكن قراءة عمل هارا الأخير (أرض رغبة القلب 1951) على أنه رسالة انتحاره، فقد انتحر في طوكيو في 13 مارس/آذار 1951، بالاستلقاء على مسار قطار، وقد تفاقمت حالته العقلية الهشة مع اندلاع الحرب الكورية، والتي بدا أنها تؤكد تشاؤمه المستمر بمستقبل مظلم للتاريخ.

وإلى جانب هارا، اشتهرت اليابانية يوكو آوتا التي عايشت ونجت من القصف النووي لهيروشيما، وبسبب الخوف من أن تصبح ضحية لمرض بسبب الإشعاع الذري، عملت بجد لإكمال روايتها "مدينة الجثث" بسرعة، وهو سرد لتجاربها وقت القصف، وكتبت الرواية في خريف عام 1945، ولكن بعد ذلك تم حظرها ونشرت أخيرًا بعد 3 سنوات مع حذف أجزاء منها.

وكتبت بعد ذلك "الوحوش البشرية"، و"نصف إنسان" عام 1954 التي تصور الصراع مع المرض العقلي لمؤلفة مهددة بالأمراض الإشعاعية والمخاوف من حرب عالمية وشيكة، وتسببت آثار القنبلة في تدهور حالتها الجسدية بالتزامن مع وصولها لحدود الإبداع القصوى في عملها الأدبي.

مزيج الفن والعلم

وفي تقريرها لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أشارت الأكاديمية غابرييل ديكاموس لنماذج من أدب القنبلة النووية الياباني الذي كتبه ناجون من الكارثة، بينها "يوميات عام 1945″ لهاتشيا ميتشيكو الذي كان مدير مستشفى في هيروشيما آنذاك، وعلى الرغم من أن إصاباته العديدة في الوجه والجسم، فقد عمل في المستشفى المدمر والمزدحم وسط الرائحة الكريهة الناجمة عن حرق وتفحم الجثث.

و"برباطة جأش ورحمة" تُظهر كتابات هاتشيا، جنبًا إلى جنب مع الرواية الأدبية للممرضة فوميتسوكي جونكو وغيرها مناقشة أدبية غير معهودة للتقارير العلمية عن القنبلة والنشاط الإشعاعي في "مدينة الجثث"، وتوضح أن مزيج المركب الفني-العلمي حاضر بقوة في الأدب الياباني بعد الحرب.

كتب الفيلسوف الياباني كازاشي نوبو رواية شعرية يعيد فيها النظر في أهمية قبة هيروشيما، النصب التذكاري الذي بقي قائما في قلب المدينة، وحتى بعد إعادة الإعمار مع "مبان حديثة للغاية" تصطف من حوله، معتبرا أن النصب التذكاري ما يزال يتمتع بقوة مهمة رغم موقعه الحالي وسط مباني مدينة متطورة، لكن الشكل المميز لمشهد القنبلة الذرية يمثل تذكيرا مستمرا بأصل العصر النووي، إذا جاز التعبير، و"لديه القدرة على إعادة طرح الأسئلة حول معنى الحضارة الإنسانية، وعن الحياة نفسها وأساسها".

أدب نووي أميركي

وعلى الرغم من عدم ظهور أي نوع أدبي معين نتيجة القصف النووي خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كان هناك العديد من القطع الأساسية في الأدب الأميركي التي عملت على إيصال مدى الدمار الذي تسببه الحرب النووية لأولئك الذين لم يعايشوها بشكل مباشر.

بالنسبة للكتّاب الذين اختاروا الكتابة عن الأزمة النووية، فإن أفضل فرصة لهم للحصول على مصدر أساسي أو شاهد مباشر لهيروشيما وناغازاكي كانت من خلال إجراء مقابلات مع أولئك الذين نجوا، واحدة من أكثر الأعمال الأدبية تأثيرا كانت مقالة مطولة مميزة كتبها جون هيرسي عام 1946 لمجلة نيويوركر بعنوان "هيروشيما".

عندما تم نشرها، بيعت جميع النسخ البالغ عددها 300 ألف على الفور، وأعيد طبع المقال في مجلات وصحف في جميع أنحاء العالم، بل وقُرئ بالكامل على الراديو، وتم بيع 3 ملايين نسخة منه في شكل كتاب، وجمع هيرسي، مراسل الحرب، القصص الضرورية لهذه القطعة من خلال مقابلات مكثفة مع قصص 6 من الناجين.

كانت هذه المقالة مهمة لأنها شكلت طريقة فهم المشاهدين الغربيين وردهم على هذا التهديد النووي الجديد، وشكلت هذه المقالة الطريقة التي تم بها تصوير الحرب النووية بعد ذلك، وبينما تسنى للصور الفوتوغرافية وروايات الصحف أن تظهر الأضرار المادية التي لحقت نتيجة القصفين النوويين لهيروشيما وناغازاكي، كشفت الآداب التي تولدت عن هذه الهجمات حجم الصدمة النفسية والمعاناة الهائلة، ليس فقط للناجين وأقربائهم، ولكن أيضًا لأمة بأكملها من الناس.

وتعتبر المقارنة بين الأدب الياباني والأدب الأميركي حول الهجمات النووية مثيرة للاهتمام، لأن كليهما نجح في نقل تجارب فردية فريدة إلى قاعدة واسعة من القراء، ومع ذلك فقد تحقق ذلك بطرق مختلفة بشكل كبير، إذ يركز الأدب الياباني حول القنبلة الذرية بشكل واضح على المؤلف أو "التجارب الخاصة"، في حين أن الأدب الأميركي عن هيروشيما وناغازاكي يميل بدلاً من ذلك إلى استخدام عدم الإفصاح عن هوية الراوي، خاصة أن هذه الروايات كتبها كُتاب لم يختبروا آثار الكارثة النووية بشكل مباشر.

في النهاية، كان الهدف من الأدب الياباني والأميركي حول القنابل الذرية خلال هذا الوقت هو التأكيد على مدى القدرة التدميرية للحرب النووية على نطاق عالمي، بحسب ورقة للأكاديمية صوفيا شياو نشرتها جامعة ستانفورد الأميركية.

ومع ذلك، يقول تقرير معهد ماساتشوستس إن الأدب الياباني النووي ما يزال غير معروف إلى حد كبير للغرب وترجم القليل منه فقط، وأشارت الشاعرة اليابانية ساداكو كوريهارا (1913 – 2005) إلى مدى انتشار أدب الهولوكوست مقارنة بأدب القنبلة الذرية.

وإذ يقف أدب القنبلة النووية لهيروشيما أيضًا كأرشيف نووي متوهج أو "نصب مجازي هائل مثل القبة في المدينة" متضمنا شهادات الناجين، لسوء الحظ، لا يوجد ما يعادل نصف قبة القنبلة النووية في ناغازاكي، وربما بسبب ذلك، فإن أدب ناغازاكي أقل شمولاً ويجذب اهتمامًا أقل.

ومع ذلك، فإن ناغازاكي تستحق المزيد من الأضواء بعد قصف هيروشيما فقد كان الهدف من قصفها ليس كسب الحرب ولكن الإفصاح عن موقف وبيان، لقد كان -حسب ما جاء في كتاب "كتابة الأرض صفر" الذي يستعرض الأدب النووي حول العالم- استعراضا بعد الحرب للقدرة العسكرية والقوة!

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: بعد الحرب

إقرأ أيضاً:

ماذا بعد الحرب: اليوم التالي

كثيرون ينتقدون رئيس حكومة المستعمرة نتنياهو، سواء من داخل المجتمع الإسرائيلي من قبل قوى المعارضة، أو من قبل دول قريبة أو داعمة للمستعمرة، ينتقدونه لأنه لا يملك برنامجا، أو خطة، لليوم التالي بعد توقف القتال ومعركته ضد شعب قطاع غزة وأهله.

نتنياهو صاحب المشروع والقرار في الحرب على قطاع غزة، محق وكل منتقديه غير محقين، فهو الذي يعرف الحال، وهو يعرف ماذا يريد، قبل حلفائه ومعارضيه، وهو الذي يدرك أنه لم ينل مراده بعد، رغم الجرائم التي قارفها بقتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وتدمير مدن وقرى وأحياء قطاع غزة، وأنه أخفق في معركته وفي برنامجه، ولا زال غارقا في أجواء المعركة وجوفها، ولم تتضح نتائجها بعد، فالنتائج معلقة بنهاية الحرب التي لم تنتهِ، ولم تتوقف.

معركة غزة الشرسة والهجوم الهمجي ضد أهلها وسكانها المدنيين لم تتوقف، ولا زالت متواصلة، فكيف سيضع نتنياهو خطته بعد الحرب، والحرب لم تنتهِ، ووقائعها دالة إلى الآن نحو الإخفاق والفشل، وتوقفها إذا لم يحقق أهدافه في القضاء على قيادات المقاومة واجتثاث حركة حماس، ولم يتم إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين بدون عملية تبادل، ستكون الحصيلة عنوانها الهزيمة له، فكيف سيفرض اليوم التالي وقد واجه الهزيمة، سيكون ولا شك اليوم التالي عنوان هزيمته، وإذا تحقق له ما يريد من الحرب وأهدافها، سيكون اليوم التالي انعكاساً لنتائج أهدافه، فاليوم التالي هو نتاج الحرب، نتاج الانتصار أو الهزيمة.



ولذلك يبقى السؤال بكل الأحوال ما هي الاحتمالات المفتوحة على اليوم التالي:

أولاً تشكيل فريق فلسطيني يقبل بنتائج الهزيمة والرضوخ لمصالح ورؤى الاحتلال وسياسته، وهذا أمر مستبعد إلى الآن.

ثانياً أن تعود السلطة الفلسطينية إلى غزة، وهذا لن يتم إلا بتوافق فلسطيني بين فتح وحماس وهي نتاج الموقف الوسطي بدون هزيمة وبدون انتصار.

ثالثاً الإقرار بدور حماس وانتصارها والاعتراف بها، كما حصل مع الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي كان عنواناً «للإرهاب» في نظر الإسرائيليين والأميركيين، وهو على أثر الانتفاضة الأولى وقّع مع اسحق رابين يوم 13/9/1993 اتفاق أوسلو في حديقة الورود في البيت الأبيض، ولذلك لن يكون مستبعداً أن تصل تل أبيب وواشنطن إلى تفاهم واتفاق مع حركة حماس، والإقرار بسلطتها على قطاع غزة.
الاحتمالات الثلاثة مفتوحة للتحقق، وكل طرف في الصراع له مصلحة في فرض ما يراه مناسباً، ولكن ذلك لن يتحقق إلا بوضوح نتائج المعركة التي ما زالت مشتعلة، بين الصمود الفلسطيني والإخفاق الإسرائيلي.
المنتصر هو الذي يفرض نتيجة انتصاره على المهزوم، فكيف يستطيع نتنياهو أن يفرض اليوم التالي وهو ما زال يواجه الإخفاق والفشل
الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يخرج عن أي من قوانين الصراع، وتداعيات نتائج أي صراع، حيث لا يستطيع المهزوم أن يفرض سياسته ورؤيته على المنتصر، بل إن المنتصر هو الذي يفرض نتيجة انتصاره على المهزوم، فكيف يستطيع نتنياهو أن يفرض اليوم التالي وهو ما زال يواجه الإخفاق والفشل، والفلسطيني كيف يستطيع فرض ما يراه وطنياً وهو لم ينتصر بعد، فالصمود غير كافٍ لفرض الهيمنة، ولكن الصمود لا شك وفر للفلسطينيين أن لا يقبلوا بالصيغ التي تتحدث عنها واشنطن، ونتنياهو حينما يقول لن تسكت المدافع إلا بتحقيق الانتصار الحاسم، ويعمل على إدامة الحرب واستمراريتها، لأن توقفها يعني هزيمته، وتحقيق الانتصار للفلسطينيين رغم الكلف الباهظة التي دفعوها، وهي كلف واجهها الشعب الفلسطيني وقياداته من ياسر عرفات إلى أحمد ياسين إلى أبو علي مصطفى وغيرهم من القادة الشهداء.

مقالات مشابهة

  • ماذا بعد الحرب: اليوم التالي
  • لهذا السبب.. استدعاء عدد من مركبات "مازدا"
  • ما هي التغيرات المتوقعة في إيران بعد انتخاب إصلاحي رئيسا للبلاد؟ (تحليل)
  • بيزشكيان يمد يد الصداقة للجميع بعد انتخابه رئيسا جديدا لايران
  • المفاعل النووي ‘‘المنوي’’.. الذي ابتلع اليمن!
  • بيزشكيان رئيسا لإيران ويتعهد بمد يد الصداقة للجميع
  • تمرد على الدكتاتورية.. قادري رحل دون أن يحني رأسه (بورتريه)
  • مِنَ الزُّهد إلى الأدب
  • الإيرانيون يختارون رئيساً بين الإصلاحي بيزشكيان والمحافظ المتشدد جليلي
  • «الثقافة» تحتفي بتسعينية «حجازي» في بيت الشعر الأحد المقبل