إذا نحن بحثنا عن تجسيد حقيقى كامل مُكمّل لكلمة (اليقين) كما تجسّدت فى الواقع الإسلامى الفعلى فخيرُ من يجسّدها حقيقةً وفعلاً هو الإمام على رضوان الله عليه، لقد ملأ الإسلام قلبه فإذا الدين الذى ينتمى إليه يملك عليه أقطاره بالكليّة، فلا يفكر فى غيره ولا تُنازع العقائد السابقة قلبه فى شيء، بل الإسلام وكفى على شِرْعة الحُب والجهاد والتبتل وليس قبله ولا بعده دين سابق ولا عقيدة متقدّمة.
قلبُ الإمام الذى ملأه الدين الجديد يقيناً امتلأ كذلك بالحب والعزم والجهاد والتبتل، فكان قلباً فى التّوجُّه للملأ الأعلى خالصاً بكل ما تحمله كلمة الإخلاص من معنى، فكما كان اليقين يشمله ويحتويه فعلاً فكذلك كان الإخلاص النقى عن شوائب الكدورة، الصافى عن أخلاط الشرك وبقايا الزندقة يضمّه ويشمله ويستقر فيه، ويشكّل مع اليقين والحب والجهاد والتبتل شخصية ممتازة فى الخصائص العليا مُثلى فى السجايا الظاهرة والباطنة.
ولم يكن الدين الجديد يعرف قط أصدق إسلاماً من على، ولا أعمق نفاذاً فيه. كان على مع كل صفات الصدق والخير والإخلاص واليقين التى تجسّدت فيه وتكاملت، عابداً يشتهى العبادة كأنها رياضة تريحه وليست أمراً مفروضاً عليه، وتلك أسمى مراقى الجهاد، فبين التصوف والمجاهدة، عُرى وثيقة لا تنفصم أبداً، فلا يكون جهادٌ فى ميادين الحياة الشريفة إلا وقد بذرت فيه بذور التصوف، وقد كان الإمام على يُرى فى كهولته وكأنما جبهته ثُفْنة بعير من إدمان السجود، ومثل هذا كان ظاهر جداً فى الحسين وفى السّجّاد، إذ أُطلق عليه أبو الثُفنات.
العبادة الشديدة والتبَتّل العميق هما شيمة أهل البيت بغير مُنَازَع، وكذلك العلم والفقه، وهى خصائص علويّة بامتياز؛ فلم يكن أقدر من على فى صدر الإسلام علماً وفقهاً، ولم يكن أفضل منه عبادة وتبتلاً وعملاً، يكفى أن يقال أن فتاواه كانت مرجعاً للخلفاء والصحابة فى عهود أبى بكر وعمر وعثمان، وندرت مسألة من مسائل الشريعة لم يكن له فيها رأى وجيهٌ يؤخذ به أو تنهض له الحجة بين أفضل الآراء.
ولم تكن مسائل العبادة والتبتل بأقل من مسائل العلم والفقه وهما أشهر ما اشتهر فيها بالحجة الدامغة والرأى السديد. ولكن العبادة أمر باطن بين العبد وخالقه، ولا رقيب فيه على المرء سوى ضميره، وليس عليه من سلطان سوى ما تقرّر لدينا سلفاً من يقين الإيمان، ولا إيمان مع فراغ الضمير من فحوى اليقين، ولا يقين مع فقدان الدين القيم وفقدان اليقين منه.
أمّا العلم فشواهد وقرائن وأدلة وافية، براهين وأحكام غير أنها ظهرت لدى الإمام لمّا أن استنبط الأصول الأولى لعلوم العقائد والكلام والحكمة، فكان على التحقيق أبو علم الكلام فى الإسلام كما ذكرنا فيما تقدَّم من مقالات؛ لأن المتكلمين أقاموا مذاهبهم على أساسه كما قال ابن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة. ومعلوم من طريق الأسانيد المتصلة أن واصل بن عطاء كبير المتكلمين، تلميذ أبى هاشم بن عبدالله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ على رضى الله عنه. وأمّا الأشعريّة؛ فإنهم ينتمون إلى أبى الحسن على بن أبى الحسن على بن أبى بشر الأشعرى، وهو تلميذ أبى على الجبائى، وأبو على الجبائى أحد مشايخ المعتزلة الذين علّمهم واصل بن عطاء. أمّا الفقه، فإمامه الأكبر أبوحنيفة قرأ على جعفر بن محمد، وجعفر بن محمد قرأ على أبيه. وقد قرأ مالك بن أنس على ربيعة الرأى، وقرأ ربيعة عن عكرمة، وقرأ عكرمة على عبدالله بن عباس، وقرأ عبدالله بن عباس عن عمّه على بن أبى طالب، وهكذا ينتهى أمر الفقه وعلم الكلام، كما انتهى أمر التصوف، إلى على رضوان الله عليه؛ الأمر الذى يتأكد فيه أن جذور العلوم الإسلاميّة الأصيلة ترتد إلى الإمام على وتتأسس على استنباطاته وأذواقه. وعندى أن هذا هو المضمون الدينى الإسلامى ولا ريب، يعتمد الثقافة الذاتية الخاصّة خصوصية القرآن نفسه وخصوصية التعاليم النبويّة الشريفة المنزّهة عن الكذب والمُجرّدة عن التلفيق.
ولن تقوم للمسلمين قائمة ما لم يمتثلوا طريق الأوائل ويتحرّوا مسالكهم فى الفهم والتحقيق ويرتقوا مراقيهم فى المعرفة والإنصاف بعيداً عن الدعوات الممجوجة التافهة التى جهّلتهم بثوابتهم وقدحت فى قيمهم الروحيّة والفكريّة، ولا تزال. (وللحديث بقيّة).
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم بن أبى
إقرأ أيضاً:
بلا مجاملة
#بلا_مجاملة
د. #هاشم_غرايبه
يخطر ببالي أحيانا تساؤل غريب: ترى كم دفعنا من كلف ودماء وعنت في العصر الحديث ثمنا لوجود جماعة الإخوان المسلمين؟.
ليس مبعث سؤالي استنكارا لوجودهم أو تحميلهم مسؤولية الكوارث التي أحاقت بالأمة، بل هو لتبيان مدى كره الجهات المعادية لهم، لدرجة أن ألحقت بالأمة كل هذا الويل والدمار في سبيل التخلص منهم.
لعل السبب في تركز الهجوم عليهم، ليس لأن منهجهم قد يفضي الى نشوء دولة إسلامية، بل لمجرد أنه أحد التنظيمين السياسيين اللذين ينفردان بإعلان السعي لذلك، والتنظيم الآخر الذي يتبنى الفكرة هو حزب التحرير، لكنه محاصر بشكل محكم بشكل يقيد انتشاره وتأثيره، فيما باقي التنظيمات العديدة لا تجد لها عداء، ولا تسمع لها هجاء.
منذ نجاح الغرب بالقضاء على آخر صورة للدولة الإسلامية ممثلة بالدولة العثمانية، كان همُّ الإستعمار الأوروبي منع توحد الأمة ونهضتها من جديد، ولأنه يعلم أن ذلك لن يتم إلا تحت عنوان إسلامي، فقد سعى الى تشجيع تكوين حركات لا تنتهج الإسلام، فَرَعى ثورة الشريف حسين، ودعمها عسكريا، لأنها كانت ترفع شعارات قومية عروبية، كما قامت البعثات التبشيرية برعاية حركات القومية العربية، فترعرعت الأحزاب العربية التي ترفع شعارات قومية في كنف الجامعة الأمريكية، ومن ناحية أخرى حاولت القوى الإستعمارية السيطرة على حركة الإخوان المسلمين من خلال الأنظمة العربية بالضغط لتحويل المنهج السياسي الى دعوي.
في مصر كانت الحركة الإسلامية هي الأقوى، لذلك لم يكن لدى عبد الناصر من خيار سوى استيعابهم في مجلس قيادة الثورة، فسكت عن ترؤس “محمد نجيب” الإخواني مؤقتاً الى حين تمكنه من الانقلاب عليه بعد سنة، تماما كما حدث مع مرسي الإخواني بعد ستين عاما، لكن عبد الناصر عندما عجز عن محاصرة فكر “سيد قطب” الرامي لاستعادة نموذج الدولة الإسلامية أعدمه، ثم أعلن حظر العمل السياسي للحركات الإسلامية، وحافظ كل من خلفه على نهجه هذا.
في سوريا، ظل القاسم المشترك لأنظمة الحكم المتغيرة هو منع الإسلام السياسي، وما كان انتهاج العلمانية بمفهوم حرية الرأي والمعتقد، بل بجزئية ضيقة، وهي ما يتعلق باستئصال الفكر الإسلامي فقط.
لم يختلف الوضع في العراق عن ذلك ولا في كافة أقطار العربية الآسيوية والإفريقية، فرغم التباينات بين ملكية وجمهورية، تقدمية ورجعية، وأنظمة تعلن ولاءها للغرب أو تخفيه، كان الثابت الوحيد الذي لا يتغير هو حظر الفكر الإسلامي.
بالطبع، ولأن ولي أمر كل الأنظمة في الأقطار الإسلامية هو ذاته، فقد مورس ذلك التضييق أيضا في الأقطار الإسلامية غير العربية :تركيا وإيران والباكستان ..الخ، وحتى تلك التي كانت في الاتحاد السوفياتي، سمح لجميعها بالاستقلال ما عدا الإسلامية منها.
هذا يثبت أمرين: أولهما أن القرار بالعداء للإسلام الحركي (يسمونه الإسلام السياسي) خارجي مفروض وليس من اجتهادات محلية، والثاني أن الصراع بين الأحزاب اليسارية والإسلامية مصنوع، وليس بين العروبيين والإسلاميين.
حاولت الأنظمة إيجاد وعاء منافس لحركة الإخوان بتشجيع تنظيمات صوفية بهدف تحويل التدين الى الطقوسية بدل السياسي، وتنظيمات سلفية تدعو الى التبتل والتنسك وطاعة الحاكم بدلا من العمل الحركي، والإنكباب على الصلاح الفردي بديلا عن إصلاح المجتمعات، فأنشأت المخابرات المصرية حزبا سلفيا ما زال الى اليوم مرتبطا بأحد مكاتب الداخلية، والبريطانية- السعودية أسست السلفية الوهابية، وفي بلاد الشام حركة الأحباش والصوفية.
هكذا نتوصل الى فهم أساس أزمات المنطقة، فهنالك صراع دائم، يسخن أو يبرد بحسب إقتراب الفكر الإسلامي من الوصول الى السلطة، فعندها تستنفر كل شياطين الإنس، حتى لو استدعى الأمر من مدّعي حماة الديمقراطية (الغرب) التدخل السافر عسكريا أو تدبير إنقلاب.
في التقييم العام نجد أن تجربة جماعة الإخوان المسلمين لم تكن ناجحة، إذ أنها لم تحقق ولو جزءا يسيرا من الهدف، لذلك ينبغي على مفكريهم المراجعة وإعادة تقييم المسار، لأن في التجمد عند رؤية حسن البنا قبل قرن خسارة وإعاقة للمشروع الإسلامي برمته.
وأعتقد أن هذه المراجعة ضرورية، وأهم العناصر المستهدفة الخروج من ضيق الأنانيات التنظيمية الى رحابة الإتساع الجبهوي، بالإنفتاح على كفاءات وأفكار كل العناصر المخلصة للهدف الجليل، وتأسيس تحالف عريض، يتجاوز التجمد عند إرث البنا، بل يجمع كل الساعين الى نهضة الأمة.