كان جدي الأكبر راسم تاباكوفيتش يعمل إماما في مدينة فيشغراد شرقي البوسنة، ويرتدي دائمًا ملابس أنيقة ويضع على رأسه قبعة صلاة بيضاء عندما يغادر منزله، فيما اعتبره الجميع الزعيم الروحي للمجتمع المسلم في هذه المدينة الخلابة الواقعة على نهر درينا.

المسلمون -هنا- أقلية في يوغوسلافيا الشيوعية. وبسبب قمع النظام للدين، أصبح المسلمون المتدينون أقلية داخل الأقلية.

يعد الأشخاص مثل جدي الأكبر بمثابة أعمدة في مجتمعات المتدينين، ورغم وفاته في أواخر الثمانينيات، فإن أهل منطقة فيشغراد وضواحيها ما زالوا يتذكرونه بسبب استقامته.

باعتباره رجلا شديد الالتزام، لم يكن جدي مهتمّا بالسينما، والتي كانت تعرض في ذلك الوقت أفلاما تعكس في الغالب الدعاية الشيوعية، التي لم يكن له أي علاقة بها.

ولهذا السبب، مثّل اصطحاب الإمام راسم لجدتي حفيظة إلى السينما في أواخر السبعينيات -للمرة الأولى والوحيدة حسبما يتذكر الناس- مناسبة خاصة.

لم يكن العرض الذي دعا راسم حفيظة لمشاهدته عاديًا؛ إنه فيلم "الرسالة" (The Message) للمخرج السوري -الأميركي مصطفى العقاد وبطولة أنتوني كوين. يحكي قصة بداية الإسلام ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لنشر الوحي.

اكتظ العرض الذي طال انتظاره في فيشيغراد بالمسلمين من جميع الأجيال. وحتى في سراييفو، حيث كان والداي فكرت وحميدة يدرسان القانون في ذلك الوقت، كانت دور السينما مليئة بالأشخاص المتحمسين لمشاهدة هذا الفيلم الرائع.

كان إصدار "الرسالة" حدثا تاريخيًا بالنسبة لمسلمي البوسنة، الذين يعيشون في ظل الشيوعية، لقد كان ذلك بمثابة بداية عودة الدين إلى الحياة العامة، حيث كان النظام الشيوعي يتبنى نهجا أقل صرامة تجاه الإسلام والديانات الأخرى.

وللمرة الأولى، شاهد مسلمو البوسنة الملتزمون على الشاشة الكبيرة ما تعلموه في منازلهم وفي المساجد عن تاريخ الإسلام. وتعجب الكثيرون من التأثير القوي الذي أحدثه الفيلم وقدرة العقاد على نقل تاريخ الإسلام ورسائله بطريقة اعتبروها مناسبة دينيا باستخدام وسيلة مخصصة عادة للترفيه. الإمام راسم نفسه تأثر بشدة بالفيلم.

وقد أظهر تصوير كوين المثير للإعجاب لعم النبي حمزة على الشاشة ثباته وحسمه. من المحتمل أن كوين المكسيكي المولد -واسمه الحقيقي مانويل أنطونيو رودولفو كوين أواكساكا-، لم يتخيل أبدًا في منتصف السبعينيات إلى أي مدى سيؤدي دوره في هذا الفيلم إلى انتشار اسم حمزة. أصبح الاسم شائعا بشكل خاص في أواخر الثمانينيات والتسعينيات.

ومن غير المستغرب أن يتحول "الرسالة" إلى مصدر تعليمي لمسلمي البوسنة.

أتذكر مشاهدة الفيلم في منزل جدتي هافا في فيشغراد. لقد اعتادت أن تعرضه لنا –أحفادها– على أشرطة فيديو "في إتش إس". كانت يوغوسلافيا شيوعية في ذلك الوقت، ولم يبدأ عرض الفيلم على شاشة التلفزيون إلا بعد انهيار النظام واستقلال البوسنة وتحريرها في أوائل التسعينيات.

عندما انتقلنا إلى ماليزيا في منتصف التسعينيات بسبب وظيفة والدي التعليمية في جامعة كوالالمبور، شاهدت الفيلم معروضا على شاشة التلفزيون أيضا.

أدركت أنه من البلقان إلى جنوب شرق آسيا، أصبح فيلم "الرسالة" هو الفيلم المفضل للمجتمعات الإسلامية. لم يكن هذا النجاح بسبب مهارة العقاد الرائعة كمخرج فحسب، بل أيضا لأنه ببساطة لا يوجد الكثير من الأفلام التي تتناول موضوعات إسلامية بنفس الجودة والنطاق.

والفيلم الآخر الذي يُعرض بانتظام خلال شهر رمضان والأعياد هو "أسد الصحراء" (Lion of the Desert)، وهو من إخراج العقاد أيضًا ويشارك فيه كوين.، ويحكي قصة الزعيم الليبي الإمام عمر المختار الذي قاوم الغزو الاستعماري الإيطالي لبلاده في عشرينيات وأوائل الثلاثينيات.

ملحمتا العقاد كانتا استثنائيتين لدرجة أن الإنتاجات الأخرى لم تتمكن من مضاهاتهما. أتذكر كيف أنه خلال إحدى عطلات العيد الطويلة بماليزيا في التسعينيات، لم تعد هناك أفلام تتناول الإسلام في إحدى المحطات التلفزيونية، فقررت عرض الفيلم الاستشراقي المثير للجدل "لورانس العرب" (Lawrence of Arabia)، وهو ما دفع أحد الأساتذة الأتراك (يُدرس في إحدى الجامعات الماليزية) إلى كتابة شكوى للقناة.

وبالفعل فإن موهبة العقاد في تصوير تاريخ الإسلام وسرد قصة عمر المختار لا مثيل لها. ولم يحقق أي مخرج آخر ما حققه. واصل العقاد إنتاج أفلام أخرى وكانت مسيرته المهنية في هوليوود ناجحة بكل المقاييس.

فقد المخرج السوري الكبير حياته بشكل مأساوي مع ابنته ريما، في تفجيرات عمّان عام 2005 التي نفذها تنظيم القاعدة. ومن المثير للسخرية أن المخرج الذي فعل الكثير لنشر رسالة الإسلام من خلال الفيلم قد قُتل على يد الإرهابيين.

إن تأثير أهم أعماله قد تجاوزه. من فيشيغراد إلى كوالالمبور وخارجها، كان تأثير "الرسالة" لا يُقاس. الفيلم هو مساهمة العقاد الفريدة وإرثه الدائم. وهو وقفه الأكثر أهمية.

* أستاذ مشارك في كلية العلوم السياسية بجامعة سراييفو.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات لم یکن

إقرأ أيضاً:

عراقجي: رسالة ترامب إلى إيران جاهزة لكنها لم تُسلَّم بعد

أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي يوم الأربعاء أنه من المتوقع أن تصل رسالة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى طهران قريبًا. وقال عراقجي بعد اجتماع حكومي إن الرسالة قد تم كتابتها بالفعل، ولكن لم يتم تسليمها بعد.

اعلان

ومن المقرر أن يتم تسليم الرسالة عن طريق مبعوث من دولة عربية إلى طهران في الأيام القليلة المقبلة. وتعد هذه الرسالة جزءًا من جهود دبلوماسية أوسع للتفاوض على صفقة جديدة مع إيران تهدف إلى تقييد برنامجها النووي المتقدم بسرعة.

وتأتي رسالة ترامب في إطار سعيه لاستبدال الاتفاق السابق الذي انسحبت منه الولايات المتحدة خلال ولايته الأولى. وقد جاءت هذه الرسالة في وقت تتزايد فيه المخاوف بشأن تقدم برنامج إيران النووي والحاجة إلى تجديد المفاوضات.

وتناقلت وسائل الإعلام الإيرانية الرسالة بعد أن كشف ترامب عن تفاصيلها في مقابلة مع شبكة "فوكس بيزنس". ومع ذلك، لم يصدر أي تأكيد رسمي من مكتب المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي بشأن استلام الرسالة.

وتم عرض مقاطع من المقابلة التي بثت يوم الجمعة، حيث اعترف ترامب بمحاولته التواصل مع خامنئي، فيما ينتظر بث المقابلة كاملة يوم الأحد.

المرشد الإيراني، خامنئيAP/AP

ورغم الغموض الذي يحيط بتفاصيل بالرسالة، يترقب الكثيرون رد خامنئي، البالغ من العمر 85 عاما، على هذه الخطوة. وتعكس مبادرة ترامب نهجا مشابها لما اتبعه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي تواصل سرا مع خامنئي قبل الاتفاق النووي الذي تم توقيعه عام 2015. ومع ذلك، يبقى من غير الواضح كيف ستستقبل هذه الرسالة الجديدة.

Relatedبعد تهديدات ترامب.. خامنئي يطالب بزيادة دقة الصواريخ الإيرانية ويؤكد: التقدم العسكري يجب ألا يتوقف بعد هبوط الريال إلى مستوى قياسي.. البرلمان الإيراني يعزل وزير الماليةعراقجي يلتقي لافروف ويؤكد: "إيران لن تتفاوض تحت الضغط والعقوبات"

ويوم الثلاثاء، أعلن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان عن رفضه وبشكل قاطع أي مفاوضات مع الولايات المتحدة، مؤكدًا أنه "من غير المقبول أن تصدر الولايات المتحدة الأوامر وتهددنا. لن أتفاوض معكم على الإطلاق. افعلوا ما تشاؤون"، وفق ما نقلته وكالة "فارس" الإيرانية.

Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان لترامب: "لن أتفاوض معك وافعل ما شئت" إيران تنفي تلقي رسالة من ترامب وترفض التفاوض تحت العقوبات ترامب يوجه رسالة إلى إيران: التفاوض أو التصعيد العسكري محادثات - مفاوضاتالولايات المتحدة الأمريكيةدونالد ترامبالسياسة الإيرانيةاعلاناخترنا لكيعرض الآنNext أوروبا ترحّب بقبول كييف للمقترح الأمريكي للهدنة... والأنظار على موسكو يعرض الآنNext فرنسا بين العجز المالي والطموح العسكري: كيف سيموّل ماكرون خططه الدفاعية؟ يعرض الآنNext تقرير صادم: الغالبية العظمى من سكان العالم يتنفسون هواءً ملوثًا يعرض الآنNext الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان لترامب: "لن أتفاوض معك وافعل ما شئت" يعرض الآنNext تحول لافت.. مشروع قانون أوروبي لبناء مراكز احتجاز لطالبي اللجوء خارج دول التكتل اعلانالاكثر قراءة تصعيد جديد... ترامب يهدد كندا ويزيد الرسوم على الصلب والألومنيوم القضاء الفرنسي يحاكم معلّمة بتهمة التحرش بتلميذة أقدمت على الانتحار لافروف: العنف في الساحل السوري "غير مقبول" والحل سياسي "لن يكون الأخير".. ترامب يعلّق على اعتقال الناشط الفلسطيني محمود خليل بروكسل تقر حزمة إجراءات انتقامية ردا على الرسوم الأمريكية على الصلب والألومينيوم اعلان

LoaderSearchابحث مفاتيح اليومدونالد ترامبالاتحاد الأوروبيإسرائيلروسياأوروباالرسوم الجمركيةسورياغزةالسعوديةأوكرانيادفاعالمفوضية الأوروبيةالموضوعاتأوروباالعالمالأعمالGreenNextالصحةالسفرالثقافةفيديوبرامجخدماتمباشرنشرة الأخبارالطقسآخر الأخبارتابعوناتطبيقاتتطبيقات التواصلWidgets & ServicesAfricanewsعرض المزيدAbout EuronewsCommercial ServicesTerms and ConditionsCookie Policyسياسة الخصوصيةContactWork at Euronewsتعديل خيارات ملفات الارتباطتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2025

مقالات مشابهة

  • المحكمة تبحث في تهديد زوجة بعيوي في حاجز للدرك
  • ولد الرشيد: الإستثمارات حسنت جودة الحياة في العيون
  • قاصرون يعترضون سبيل مهاجرين من دول جنوب افريقيا بالقليعة
  • الخارجية الإيرانية: رسالة ترامب قيد المراجعة
  • «تعليم الطائف» يكرم المتأهلين لنهائي «إبداع 2025»
  • أهالى اللوتس يشكرون محافظ أسوان لافتتاح رافع العقاد لتدفق مياه الشرب
  • نيابة البوسنة تأمر باعتقال زعيم الصرب ومساعديه
  • "الناتو" يؤكد التزامه باستقرار دول غرب البلقان
  • عراقجي: رسالة ترامب إلى إيران جاهزة لكنها لم تُسلَّم بعد
  • في ذكرى وفاته.. كيف كانت وظائف عباس العقاد سجنًا له؟