ديلوماسية المساجد.. قوة المغرب الناعمة في أفريقيا
تاريخ النشر: 11th, April 2024 GMT
مراكش- في جمعتين متتاليتين من العشر الأواخر من شهر رمضان، اختار المغرب أن يفتتح مسجدين عظيمين يسعان لآلاف المصلين، وبطابع هندسي ومعماري مغربي فريد، في كل من العاصمة الغينية كوناكري، وأبيدجان عاصمة ساحل العاج، وكلاهما يحمل اسم الملك محمد السادس.
وأعادت هذه المناسبة الحديث عن "دبلوماسية المساجد" التي يسلكها المغرب، بصفتها قوة ناعمة، لتقوية حضوره في القارة الأفريقية، إذ يشرف المغرب على شبكة واسعة من المساجد في أفريقيا، وهو ما يؤكده الأكاديمي محمد بوبوش للجزيرة نت، مما يمنح المغرب نفوذًا كبيرًا بين الجاليات المسلمة، وهو يستخدم هذه الدبلوماسية للتأثير على بعض هذه الجاليات، بما يتماشى مع أجندته الخاصة.
ويؤكد الأكاديمي المغربي خالد الساقي للجزيرة نت أن "اهتمام المغرب ببناء المساجد في البلاد الأخرى، لا يزيد على إحياء العلاقات التاريخية التي بدأت بدخول الإسلام إليها، فهو يمزج الروحي بالتاريخي بحياكة لطيفة متكاملة"، ويضيف أن "مفهوم الدبلوماسية نفسه يصير مبنيا على أركان مقدسة لا تزحزحها الخلافات، وكل خلاف يصير بعد ذلك تافها أمام العَقد الروحي".
يسلك المغرب دبلوماسية تمزج بين الدين والسياسة والاقتصاد، معتمدا على التعاون جنوب- جنوب وسيلة لتعزيز حضوره في القارة الأفريقية، واضعا في أجندته المساهمة في تحقيق التنمية والاستقرار، ومواجهة خطابات التطرف.
ويؤكد الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي محمد اشتاتو للجزيرة نت أن "المغرب يستفيد في ذلك من الزعامة الروحية للملك، وانتماء معظم المسلمين في أفريقيا للطريقة التيجانبية، الذين يعتبرون زيارة مدينة فاس المغربية بمثابة الحج الأصغر، مقارنة مع زيارة الكعبة بمكة المكرمة ومسجد رسول الله بالمدينة المنورة"، مبرزا أن هذا الانتماء يكون حاسما أيضا في المنافسة على تولي الحكم في عدد من البلدان الأفريقية.
وفي السياق ذاته يشرح أستاذ العلاقات الدولية محمد بوبوش أن "المحدد الديني يسهم في تدعيم علاقة المغرب بكثير من الدول الأفريقية، ذلك أنه قد أعاد صوغ علاقته بالتيجانيين الذين ينتشرون في مختلف البلدان الأفريقية على امتداد منطقة الساحل والصحراء، ودفع هذه العلاقة باتجاه بناء علاقة جديدة، تقوم على تمكين أتباع الزاوية التيجانية بأدوار دبلوماسية، تسهم في تقوية الروابط بين المغرب وبلدان أفريقية".
ويعتمد المغرب على عمقه الأفريقي لتقديم تجربته في الأمن الروحي، بإطلاق عدد من المبادرات بهدف تعزيز التعاون المغربي الأفريقي في المجال الديني، ويشرح أستاذ العلوم السياسية محمد بنطلحة الدكالي للجزيرة نت أن من أبرز تلك المبادرات، إنشاء "معهد محمد السادس للأئمة والمرشدين" و "مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة"، والتي تضم 150 عضوا، من بينهم 17 امرأة من 31 دولة أفريقية.
ويفترض أن تشكل هذه المبادرات الأداة الأساسية للقوة الناعمة للمغرب في أفريقيا، وتعزيز مكانته على المستوى الديني والسياسي والأمني، ومساهمته في محاربة التطرف والإرهاب، معتمدا على أمرين أساسيين، أولهما اعتباره نموذجا للأمن والاستقرار، وثانيهما اشتراكه مع دول غرب أفريقيا في هوية دينية مشكلة من الإسلام السني المعتدل.
فيما يوضح الأكاديمي اشتاتو، معتمدا على مشاهداته خلال زيارته لعدد من البلدان الأفريقية، أن المغرب اعتمد على نشر المدارس القرآنية والمعاهد الدينية، والخط المغربي الذي وصل إلى حد استعماله في كتابة لغات أفريقية محلية، ونشر الطابع المعماري المغربي استمرارا لحضوره التاريخي في القارة، ويضيف أن "زعماء قبائل وعشائر محلية، مازالوا يحافظون بصفة رمزية على خروج السلطان الى العامة راكبا جواده كتقليد مغربي أصيل".
محاربة التطرفيُجمع المحللون والمراقبون أن المغرب يستعمل دبلوماسيته الدينية من أجل مواجهة التطرف الديني في أفريقيا، إذ تشكل خطة المغرب لتصدير تجربته في "الأمن الروحي" إلى أفريقيا جزءًا من رؤية إستراتيجية أوسع، تهدف للمساهمة في جهود مكافحة التطرف، وتعزيز السلام في منطقة الساحل والصحراء، وفي نهاية المطاف ترسيخ الحضور الإقليمي للمملكة على المستوى الدولي.
ويوضح الأكاديمي بوبوش أن "الأمن الروحي للمغرب لا ينحصر داخل حدوده الجغرافية، وإنما يمتد إلى دول الجوار، كما أن التطرف الديني هو وباء ككل الأوبئة التي تتطلب مكافحتها التصدي لها خارج الحدود الوطنية، والمغرب يعي مسؤوليته الدينية والروحية تجاه دول أفريقية، التي يجمعها بالمغرب إسلام متشبع بنفس القيم المبنية على الوسطية والاعتدال، وبنفس تعاليم التسامح والانفتاح على الآخر".
بدوره يقول الأكاديمي المغربي بنطلحة إن "التاريخ المشترك بين المغرب وغرب أفريقيا يؤهله -بحكم مرجعيته الدينية- لتحقيق الأمن الروحي، عبر دبلوماسية دينية تستقي أنموذجا لإسلام سني وسطي ومعتدل، وذلك من أجل تحصين المجتمعات الأفريقية من كل مظاهر التطرف".
ويؤكد على "وظيفة المسجد السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ صدر الإسلام وبداية الدعوة المحمدية، مما يقوي توظيفها اليوم في كل تلك المجالات، ومنها الترويج لخط سياسي معين، لتوجيه السياسة العامة للأمة وخطها السياسي المتزن".
كان من اللافت سياسيا وإعلاميا أن يقوم الملك محمد السادس بزيارات متكررة إلى أفريقيا، تهدف بشكل رئيس إلى تعزيز علاقات المغرب السياسية والاقتصادية، وأن يحضر أيضا صلاة الجمعة في عدد من عواصم القارة، كما حرص على توزيع آلاف النسخ من المصحف الشريف، ولقاء عدد من الزعماء الدينيين ومشايخ الصوفية.
علاوة على ذلك، يستفيد المغرب من الاستثمار في السياسة الدينية المتطورة والموجهة نحو أفريقيا، لتقوية مجالات التعاون الاقتصادي وزيادة حجم الاستثمارات والتبادل التجاري، وتنويع شراكاتها الثنائية مع الدول الإفريقية، كما أن طموح المغرب في أن يكون زعيما دينيا في أفريقيا يحظى بدعم وتشجيع من قبل القوى الإقليمية والدولية، خاصة الولايات المتحدة وفرنسا ودول أوروبية أخرى.
ويبرز اشتاتو أن "هذه الدول تعتبر المغرب جسر عبور إلى القارة الأفريقية، والتي تعتبر بحق مستقبل العالم، بتوفرها على مناجم متنوعة أصبحت معادنها ضرورية في مجال التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي" وفق تعبيره، ويبرز أن المؤشرات واضحة لهذا التوجه، بتصاعد استعمال معبر الكركرات من قبل العربات والشاحنات القادمة من أوروبا، والمتوجهة الى العمق الأفريقي أو القادمة منه.
ويضيف أن "المغرب يعتبر اليوم أن التعاون الروحي الأمني ركيزة من الركائز الداعمة والمكملة لسياسته العملية، التي تعزز تعاون جنوب جنوب، وتنويع شراكاته الإستراتيجية في المجالين الاقتصادي والتنموي مع نظرائه الأفارقة، مستدلا بالوجود القوي لمؤسسات اقتصادية متنوعة، تستثمر في مجالات حيوية مثل البنوك وقطاع المواصلات".
"كما أن المغرب يستقطب عددا من الطلبة الأفارقة، ويقدم لهم المنح الجامعية، ليصبح العديد منهم سفراء للمغرب في بلدانهم، بل منهم من تقلد مناصب سياسية، كان لها الأثر الإيجابي على الوجود المغربي في أفريقيا" حسب قول اشتاتو.
المملكة المغربية الشريفة ???????? ، و الدبلوماسية الدينية في القارة الأفريقية.
صور من افتتاح مسجد محمد السادس في عاصمة كوت ديفوار الشقيقة ، ابيدجان pic.twitter.com/kmhpqBWfNo
— هشام السنوسي (@Pirana_dusahara) April 5, 2024
تحدياتوعلاوة على ذلك، يقول الأستاذ الباحث خالد الساقي إن "دبلوماسية يعضدها البعد الروحي، هي دبلوماسية تغتنم ركنا ذا بال إضافي، علاوة على ما تذهب إليه أي دبلوماسية أخرى".
ويشير إلى أن "المساجد المغربية تمتاز بهالة خاصة، نتيجة جمال المعمار وإبداع الصانع وبهاء الصنعة، وفوق كل ذلك الوقع الروحي على الناظر وعلى كل زائر، سواء كان مسلما أو غير مسلم، فالعابد يلج عالما تسوده السكينة الروحية، والزائر السائح يهيم في عالم الجمال بما تلذ عينه من أشكال وألوان وتناسق لا يمله، حتى تكاد روحه تلامس روحانية المشهد، ولكل نصيبه من هذه الصروح".
وبالرغم من كل المقومات التي يقدمها المغرب للحفاظ على مصالحه في أفريقيا باستعمال دبلوماسيته الدينية، معتمدا على تنظيم نفسه جيوسياسيا، ورفع مكانته في العلاقات مع حلفائه من الدول الغربية، فإنه يواجه تحديات أخرى ذات بعد محلي أو إقليمي، لعل أهمها المنافسة مع المرجعيات الدينية الأخرى، ومواجهة القوى المناوئة لوحدته الترابية، علاوة على مصارعته من أجل تحقيق نموذجه التنموي الجديد وترسيخ العدالة الاجتماعية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات القارة الأفریقیة محمد السادس فی أفریقیا للجزیرة نت معتمدا على فی القارة عدد من
إقرأ أيضاً:
أمريكا تطرد الحقيقة.. إبراهيم رسول جريمة دبلوماسية بلا عقاب!
#سواليف
#أمريكا تطرد الحقيقة.. #إبراهيم_رسول #جريمة_دبلوماسية بلا عقاب!
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
في عالم تدّعي فيه أمريكا أنها مهد الديمقراطية وعرّابة حقوق الإنسان، يظهر الواقع بشكل مغاير تمامًا عندما يتعلق الأمر بمن يجرؤ على قول الحقيقة، وخاصة إن كان مسلمًا لا يخضع لإملاءاتها. لقد قررت واشنطن، وبمنتهى “الشفافية الديمقراطية”، أن تطرد سفير جنوب أفريقيا في واشنطن، إبراهيم رسول، وتعتبره شخصًا غير مرغوب فيه. لماذا؟ لأنه تجرأ على قول الحقيقة، ولأنه لم يرقص في حفلات التملق السياسي التي تعشقها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ولأنه لم يصفّق لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، بل فضح انحياز أمريكا الأعمى للكيان الصهيوني.
إبراهيم رسول ليس دبلوماسيًا تقليديًا جاء من خلفية مترفة، بل هو مناضلٌ حقيقي ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. نشأ في بيئة مسلمة، وتعلم في جامعة كيب تاون، حيث بدأ مسيرته في مقاومة الظلم، غير آبهٍ بالاعتقالات والتضييق، مؤمنًا بأن الحق لا يُقهر حتى لو اجتمع العالم ضده. انضم رسول إلى “حركة الوعي الإسلامي” و”المؤتمر الوطني الأفريقي”، ولعب دورًا محوريًا في إسقاط نظام الأبارتهايد، وأثبت أن النضال الحقيقي لا تحدّه الجغرافيا، ولا يمكن إسكات أصحابه مهما طال الزمن. شغل عدة مناصب قيادية في جنوب أفريقيا، منها وزارة الصحة ورئاسة وزراء مقاطعة كيب الغربية، حيث عمل على تعزيز المساواة والعدالة الاجتماعية. وعندما عُيّن سفيرًا لبلاده في الولايات المتحدة بين عامي 2010 و2015، لم يكن مجرد دبلوماسي يمارس المجاملات السياسية، بل كان صوتًا للحق في قلب واشنطن، يواجه سياسات التمييز، وينتقد بشجاعة انحياز أمريكا الأعمى لإسرائيل، وهو ما لم تستطع الإدارة الأمريكية تحمله.
مقالات ذات صلة 5 شهداء بينهم صحفي بقصف إسرائيلي شمال قطاع غزة 2025/03/15كم هو مثير للسخرية أن الولايات المتحدة، التي لا تملّ من بيع خطابات الديمقراطية، قررت فجأة أن هذا الرجل يشكّل “خطرًا” على أمنها القومي! هل كان رسول يدبّر لانقلاب في البيت الأبيض؟ هل كان يقود حركة تحرر داخل الكونغرس؟ لا، كل ما فعله أنه رفض المشاركة في مسرحية الصمت الدولي على جرائم الاحتلال الإسرائيلي. بل الأكثر سخرية أن التهم الموجهة إليه كانت “التحريض العرقي”، وكأن أمريكا – التي قامت على إبادة السكان الأصليين واستعباد الأفارقة – هي آخر من يحق له الحديث عن العنصرية!
إن هذا القرار ليس مفاجئًا، بل هو جزء من السياسة الأمريكية المعتادة التي تقوم على ازدواجية المعايير. فبينما تدّعي دعم الحريات، تمارس أشد أنواع القمع ضد كل من يجرؤ على تحدي هيمنتها، وخاصة إذا كان مسلمًا، أو ينتمي لدولة لا تسبح في فلكها السياسي. لقد دعمت أمريكا نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حتى اللحظة الأخيرة، وها هي اليوم تطرد أحد أبطال النضال ضده، وكأنها لم تتغير إلا في خطاباتها الدعائية. كما أنها لا تزال تساند الأنظمة القمعية التي تخدم مصالحها، وتفرض عقوبات وحصارًا على الدول التي تحاول أن تكون مستقلة في قرارها السياسي.
لم يكن سفير جنوب أفريقيا في واشنطن دبلوماسيًا “مدجّنًا” كما تحب واشنطن، بل كان مناضلًا حقيقيًا ضد الفصل العنصري، رجلًا لم يعرف سوى طريق النضال، منذ أن كان شابًا يكافح ضد الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وحتى أصبح سياسيًا بارزًا حمل راية العدل والمساواة. شغل مناصب وزارية، ورأس حكومة مقاطعة كيب الغربية، ثم أصبح سفيرًا لبلاده في الولايات المتحدة. لم يكن ذلك السفير الذي يجيد الابتسامات الدبلوماسية الفارغة، بل كان صوتًا حيًا ضد الظلم، وهذا ما لم تستطع واشنطن تحمله.
الرسالة التي توجهها واشنطن من خلال هذه الفضيحة الدبلوماسية واضحة تمامًا: “نحن نؤمن بحرية التعبير، لكن فقط إن كنتم تعبرون عما نريده. نحن نؤمن بحقوق الإنسان، لكن فقط إن كان هذا الإنسان ليس فلسطينيًا أو مسلمًا أو مناضلًا ضد الاحتلال”. أما من يجرؤ على تحدي هذه القواعد، فمصيره الطرد، العزل، والتشهير، وربما لاحقًا “العقوبات”.
لكن إن كانت أمريكا تعتقد أنها بقرارها هذا أسقطت إبراهيم رسول، فهي لم تفعل سوى أنها أسقطت القناع عن وجهها الحقيقي. لقد كشفت مرة أخرى أنها ليست سوى دولة بوليسية على نطاق عالمي، تتحدث عن الحريات بينما تمارس القمع، تدّعي أنها ضد العنصرية بينما تطرد دبلوماسيًا فقط لأنه مسلم، وترفع راية الديمقراطية بينما تدعم الاحتلال والاستعمار بكل أشكاله.
سفير جنوب أفريقيا في واشنطن قد يكون قد غادر منصبه، لكن الحقيقة التي نطق بها لن تغادر، وصوته الذي أزعج أمريكا لن يُخمده قرار طرد. ربما لم تعد واشنطن ترغب في سماع هذا الصوت، لكنها لا تستطيع محو أثره، ولا تستطيع خداع العالم إلى الأبد. أما إبراهيم رسول، فقد خرج من هذه المواجهة أكثر شرفًا، وأكثر صدقًا، وأكثر احترامًا، بينما بقيت أمريكا مجرد إمبراطورية كاذبة، تخشى كلمة الحق أكثر مما تخشى أي شيء آخر.