سودانايل:
2025-05-01@16:39:36 GMT

الطب في زمن الحرب !!!

تاريخ النشر: 11th, April 2024 GMT

بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان
تدقيق د. عبد الرحمن حمد

" بعض المهن و الحرف تفعل أثراً في أصحابها ، الأطباء مثلاً على وجوههم شيء ما ، كأنهم يعرفون سرّاً لا يعرفه بقية الناس ، ربما لكثرة ما رأوا من تقلبات الحياة و الموت "
مقتطف من كتابات الأديب الراحل الطيب صالح

في سوداننا الحالي نعايش خلال السنوات الخمسة الماضية مخاض ولادة سودان جديد في ألم و معاناة استطالت بعد أن بدأت بثورة عارمة ضد الظلم في ديسمبر 2018 سقط فيها نظام الرئيس البشير بعد اعتصام ساحة القيادة العامة الشهير و الذي استمر عدة أشهر انتهى بمجزرة مؤلمة في صباح يوم عيد الفطر خلّفت ورائها مئات من جثث الشباب الذي قٌتلوا في جريمة نكراء استمرت لعدة ساعات من قبل جنود من الجيش و الأمن و الدعم السريع قضى الكثير من الشباب نحبَهم فيها ليلة آخر يوم من رمضان و هم يتسربلون بأستار القيادة العامة متوسلين لجيشهم أن يذود عنهم ، لكن قادته كانوا يتابعون المجزرة خلال بث مباشرة في كابينة قيادة الجيش الأمر الذي خلق فجوة نفسية عميقة بين جيش البلاد و شعبه الذي شاهد فلذات أكباده تُنحر بدم بارد تحت مرأى و مسمع من المنوط بهم حماية المواطنين و الدولة و الدستور ، هذه القطيعة النفسية في تقديري هي الجدار النفسي الشاخص بين جزء كبير من الشعب لتأييد الجيش في المعركة الحالية ضد بربرية الجنجويد المعروفة بالضرورة ، حيث تقول العرب في وصف الغدر "كيف أعاودك و هذا أثر فأسك !!!".



رغم أن شعبنا لم يستسلم لهذه الجريمة و انتصر في الثلاثين من يونيو 2019 إلا أن ما تلى ذلك من كوارث لم يخطر على بال أكثرنا تشاؤماً ، فلم يلبث العام الجديد أن بدأ حتى هاجمت جائحة الكورونا البلاد مخلّفة الآلاف من الضحايا و خسر القطاع الصحي فيها أعداد كبيرة من الكوادر الصحية المختلفة ، أطباء و ممرضين و الكثير من الكوادر الطبية المساعدة ، و من نافلة القول أن هذه الكوادر لم تطالب الجيش أو أي كتائب مستنفرة للقيام بهذا الواجب المقدّس بل تقدموا الصفوف بشجاعة و نكران ذات ، و قضى الكثيرين نحبهم ، رغماً عن شح الإمكانيات و تربص قوى الثورة المضادة بكل ما تقوم به الحكومة المدنية من مجهودات. تبعت ذلك مأساة السيول و الأمطار فزادت الأمور ضِغثٌ على إبالة و تكالبت المصائب على بلادنا المكلومة و في ظل كل ذلك كان العبء أكثره على المغتربين و القوى المدنية و المهنية ، خاصة المغتربين الذين كانوا يضاعفون الدعم المادي المباشر من مدخراتهم الضئيلة أو عبر المهنيين حول العالم الذي لم يألوا جهداً في إرسال المعينات و فتح المستشفيات في بعض المدن أو إعادة تأهيلها في مدن أخرى. كما قامت بذلك مؤسسة سابا في أمريكا في مدينة مدني بافتتاح مستشفى خيري كامل أو ما قامت به رابطة المهندسين السودانيين في قطر من تأهيل مستشفى مروي بتبرع سخي بتكلفة بلغت 371 ألف دولار مؤخراً و ذلك على سبيل المثال لا الحصر.

و لكن الكارثة الكبرى كانت حرب 15 إبريل 2023 و التي ستكمل عامها الأول بعد عدة أيام من الآن ، ذلك أنها خلقت أكبر حالة نزوح داخلي و خارجي في العالم الحديث ، بسبب الحرب حيث ارتحل حوالي ربع سكان البلاد (عشرة مليون شخص) نصفهم من العاصمة الخرطوم إلى مدن أخرى ، و ترك 19 مليون تلميذ مقاعد الدراسة ، و يتعرض الآن ربع مليون شخص لخطر الموت جوعاً خلال أسابيع ، خلّفت هذه المأساة ضغوطاً كبيرة على كل الخدمات خاصة الصحية منها ، ففي أول أسابيع الحرب مات حوالي 60 شخصاً من مرضى الغسيل الكلوي في مدينة الجنينة وحدها ، و لا نعلم عدد من فقدوا أرواحهم بسبب تلف مخزون الإنسولين في معظم مخازن العاصمة خاصة إنسولين الأطفال الذي فُقد معظمه في الأسابيع الأولى لهذه الحرب جراء دمار أنظمة التبريد ، لقد تصدّى المهنيون و في مقدمتهم الكوادر الصحية و على رأسها الأطباء بكل ما يملكون من طاقات و تبرعات و علاقات لوجستية في رفع المعاناة عن كاهل أهلنا في البلاد ، بمشاريع متعددة في المعابر الحدودية أو دعم الكوادر الصحية في المستشفيات الولائية.

و بالطبع فإننا هنا لسنا (مشحودين على أهلنا و بلادنا) و ما قمنا به كأطباء و مهنيين سواء في قطر أو حول العالم مسئولية لا نتهرّب منها لكن ينبغي إدراك الآثار العميقة للعمل لساعات طويلة تحت ضغوط عمل متعددة لحل مشاكل معقدة و أخرى غير قابلة للحل ، لأنه ليس دور المهنيين أن يقوموا بأعمال الدولة ، و الروابط المهنية هي روابط دعم فني و ليست منظمات خيرية في الأساس ، كل تلك الضغوط تترك جراح غائرة على الأطباء السودانيين النفسي و المهني ، ذلك أن مواصلة الطبيب للعمل لساعات طويلة حتى بعد إنتهاء ساعات عمله الرسمية عبر العيادات الإلكترونية التي تصل إليها آلاف الاستشارات لهو أمر جلل و يكثّف الضغوط النفسية على الكوادر المتطوعة في هذا العمل و قد يؤدي إلى حالات إكتئاب حادة قد تصل إلى مرحلة الاحتراق المهني ، في ظل كل ذلك يظل الطبيب السوداني في المهجر عنوان أسئلة دائمة من محيطه الاجتماعي و الأسري ، وقلّما يأتيك اتصال يسأل عن حالتك النفسية أو الصحيّة بل أن البعض قد يطلق العنان لابتسامة متهكمة أن أخبرته أنك كنت مريضاً قائلاً " حتى أنتو بتمرضوا !!! " ، في واقع الأمر تفيد الإحصائيات العالمية أن عُمر الأطباء المتوقع أقل من متوسط عمر السكان بعدة سنوات حسب البلد المعين و قد يشكل نقصاً بحوالي 10 سنوات في الهند مثلاً ، هذا و يختلف العمر المتوقع للطبيب إحصائياً حسب التخصص ، فالتخصصات الأكثر توتراً و المرتبطة بمناوبات ليلية متواصلة لها آثار أكثر سلبية عن التخصصات التي لا تتطلب تدخلات طارئة.

لقد تنبّهت المؤسسات المهنية المختلفة لطبيعة الضغوط النفسية المصاحبة لمهن معينة ، ففي بعض الدول يسمح للإطفائيين بالتقاعد المُبكر بسبب طبيعة الإرهاق الجسدي و السهر المتواصل ، كما تعتني الجيوش العالمية بمنسوبيها عبر برامج إعادة تأهيل نفسي متطورة خاصة لأولئك العائدين من المعارك العنيفة ، حتى لا يتحولوا إلى مدمنين أو مجرمين ، لذا بزغ إلى الوجود تخصص الصحة المهنية ، كما ظهر مفهوم دعم من يقدمون الدعم ، إذ بات واضحاً أن وجود المرء في الخطوط الأمامية في الكوارث و الحروب قد يشكل عليه ضغوطاً قد تفقده حتى القدرة على التمييز و التحليل ، من الأمور الصعبة على ممارسي المهن الصحية خاصة الأطباء طبيعة الالتزام المهني الذي يفرض على الأطباء التعامل مع سرّية معلومات المرضى بدقة شديدة لأن الجهات الرقابية للمهنة قد تفصل الطبيب من السجل المهني لو أفشى بالخطاء معلومة طبية خاصة بالمريض حتى و لو من باب التنفيس عن الضغوط المهنية ، و قد عبّر لي أستاذي في طب الأسرة في هولندا د. فريتس فان أكستر في بدايات العام 2012 بقوله " نحن كأطباء أسرة نعيش حالة نفسية أشبه بالانفصام الشخصي أو الحياة بشخصيتين منفصلتين" ، لذا نجد أن المستشفيات في العالم الأول تشكل لجان من الأخصائيين النفسيين لدعم هؤلاء الأطباء في حالات الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب الحاد ، الاحتراق المهني ، أو الخوف.

أختتم قائلاً إن المهنيين السودانيين و من بينهم الأطباء هم المنوط بهم إعادة بناء بلادنا بعد محنتها هذه ، لكننا نحتاج أن نتفهم الظروف المهنية و النفسية المعقّدة التي يمر بها الأطباء حالياً جراء تراكم الضغوط عليهم بوصفهم في الخطوط الأمامية لتخفيف تداعيات الحرب على أهلهم و بلدهم ، لذا فرفقاً بمزاولي هذه المهن الحساسة ، و الرجاء تفهم الطلب المتزايد على خدماتهم و نصائحهم المهنية فمعظمهم يستقبل ما لا يقل عن عدة مكالمات يومياً تتعلق بقرارات صحية كبيرة ما يجعل توازنه المهني و الأسري على المحك. لكنهم بالطبع شيالين تقيلة خاصة في وقت الحوبة.

بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان
ملحوظة قام الدكتور عبد الرحمن حمد استشاري الطب الباطني بتنقيح هذا المقال فله مني كل الشكر و الامتنان.

amjadnl@yahoo.com

11 إبريل 2024

   

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

عندما تغفو العدالة.. الحرب المنسية على المدنيين في اليمن (ترجمة خاصة)

منذ عام 2015، ينفذ تحالف تقوده السعودية، ويضم الإمارات العربية المتحدة، عمليات عسكرية ضد الحوثيين في اليمن. وقد اتُهم هذا التحالف من قبل محققي الأمم المتحدة بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك قصف مناطق مدنية كالأحياء السكنية والأسواق والجنازات وحفلات الزفاف والسجون والقوارب والمرافق الطبية، مما تسبب في مقتل آلاف المدنيين.

 

علاوة على ذلك، اتُهم التحالف أيضًا بفرض حصار على الموانئ والمجال الجوي اليمني، مما أدى إلى تقييد شديد لوصول الغذاء والوقود والمساعدات الإنسانية، مما ساهم في انتشار المجاعة وأزمة إنسانية كارثية. ووُصف هذا الحصار وما نتج عنه من مجاعة بأنه أفعال ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.

 

من الأخطاء إلى المجازر

 

لقيت الغارات الجوية التي يشنها التحالف بقيادة السعودية في اليمن إدانات متكررة لانتهاكها القانون الدولي الإنساني. لا سيما مبدأ التمييز، الذي يتطلب تجنب الأهداف المدنية، ومبدأ التناسب، الذي ينص على أن الميزة العسكرية يجب أن تفوق الضرر اللاحق بالمدنيين. تشير الأدلة التي جُمعت على مر السنين إلى نمط ثابت من الخسائر المدنية وتدمير البنية التحتية، مما يثير مخاوف قانونية وأخلاقية خطيرة.

 

ومن أبرز الأمثلة الصارخة على استخفاف التحالف بقيادة السعودية بحياة المدنيين ما حدث في يناير/كانون الثاني 2022، عندما أسفرت ثلاث غارات جوية منفصلة عن مقتل 80 مدنيًا وإصابة 156 آخرين، حيث أصابت سجنًا في صعدة، ومنشأة اتصالات، ومحطة وقود في الحديدة - وهي مواقع أفاد شهود عيان بعدم وجود عسكري فيها.

 

والجدير بالذكر أن هذه ليست حادثة معزولة، بل هي جزء من نمط أوسع من الاستهداف العشوائي الذي ميّز سلوك التحالف طوال فترة النزاع. وبحلول عام 2017، ارتبطت نسبة مذهلة بلغت 60% من إجمالي 16,700 ضحية مدنية موثقة بغارات التحالف الجوية، وهي إحصائية تشير بقوة إلى انتهاكات منهجية للقانون الإنساني الدولي، ولا سيما مبدأي التمييز والتناسب.

 

على سبيل المثال، اعتبرت هيومن رايتس ووتش قصف حافلة مدرسية في ضحيان عام 2018، والذي أودى بحياة 26 طفلاً، "جريمة حرب واضحة". وبالمثل، أودى هجوم عام 2016 على قاعة عزاء في صنعاء بحياة 140 مدنياً، وهي جريمة فظيعة اعترف التحالف لاحقاً بأنها "خطأ".

 

تُبرز هذه الحوادث مجتمعةً نمطاً مُقلقاً يُشير إلى تكرار خطأ تحديد البنية التحتية والتجمعات المدنية أو تجاهلها كأهداف عسكرية مشروعة، مما يثير مخاوف جدية بشأن بروتوكولات الاستهداف وآليات المساءلة التي يعتمدها التحالف.

 

الوقود والمجاعة وتبريرات واهية

 

إن تبرير التحالف بقيادة السعودية لإبقاء حصاره على اليمن، متذرعاً بضرورة منع تهريب الأسلحة الإيرانية إلى الحوثيين، مُقوّض بشكل خطير من خلال نتائج الأمم المتحدة المستقلة والتحليلات الإنسانية، وخاصةً من آلية الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش (UNVIM)، التي لم تعثر على أي أسلحة في 90% من السفن التي تم تفتيشها والمتجهة إلى الموانئ التي يسيطر عليها الحوثيون مثل الحديدة.

 

على الرغم من ذلك، يواصل التحالف تقييد الواردات الحيوية من الغذاء والوقود، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في اليمن، حيث يتم استيراد 90% من الضروريات، وحيث ارتبطت أكثر من 131,000 حالة وفاة، بحلول عام 2020، بأسباب يمكن الوقاية منها مثل المجاعة ونقص المياه النظيفة وعدم كفاية الرعاية الصحية.

 

تصف منظمات مثل المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب (OMCT) الحصار بأنه "تعذيب بطيء"، مسلطة الضوء على كيفية شل قيود الوقود للمستشفيات وشبكات المياه. وبينما يزعم التحالف أن الحوثيين يستخدمون المناطق والموانئ المدنية لأغراض عسكرية، فإن عمليات التفتيش التابعة للأمم المتحدة لا تجد باستمرار أي دليل على عسكرة الموانئ بشكل منهجي، وتفتقر تحقيقات التحالف نفسها في ضحايا الغارات الجوية المدنية إلى الشفافية والمساءلة.

 

أدى الحصار، الذي دُفِعَ به من خلال قرار مجلس الأمن رقم 2216 (2015)، إلى أضرار جسيمة بالمدنيين، حيث انخفضت واردات الديزل إلى مناطق الحوثيين بنسبة 75% بين عامي 2015 و2017، مما أدى فعليًا إلى شلل البنية التحتية الأساسية.

 

ويجادل الخبراء القانونيون وجماعات حقوق الإنسان بأن الحصار يُشكل عقابًا جماعيًا وتجويعًا كأسلوب حرب، مما يُشكل انتهاكًا للقانون الإنساني الدولي، وقد يرقى إلى جرائم حرب وتعذيب بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب.

 

وبالتالي، فإن ادعاءات التحالف لا تدعمها أدلة موثوقة، ويعمل الحصار في المقام الأول كحرب اقتصادية أكثر منه للسيطرة على الأسلحة، مما يجعل آليات المساءلة الدولية، مثل تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية وحظر الأسلحة، ضرورية بشكل عاجل لوقف المزيد من الانتهاكات ومنع المعاناة الجماعية.

 

من الناحية القانونية، يدّعي التحالف بقيادة السعودية أنه يستهدف مواقع عسكرية مشروعة، ويبرر الحصار بالإشارة إلى أسلحة إيرانية مُعتَرَضة، مثل صواريخ كورنيت الروسية وبنادق صينية. ومع ذلك، يُصبح هذا التبرير إشكاليًا من الناحيتين القانونية والأخلاقية عند مقارنته بمبادئ القانون الدولي الإنساني، وخاصة مبدأ التناسب.

 

وفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2018، غالبًا ما أخفقت غارات التحالف الجوية في إظهار أي جهد واضح للحد من الأضرار المدنية، مع توثيق هجمات على الأسواق والجنازات وغيرها من التجمعات غير العسكرية.

 

يثير استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المكتظة بالسكان مخاوف جدية بشأن استخدام القوة العشوائية وغير المتناسبة. وبموجب القانون الدولي الإنساني، حتى لو كان للهدف قيمة عسكرية، يجب ألا يتسبب الهجوم في أضرار مدنية مفرطة مقارنةً بالميزة العسكرية المتوقعة.

 

في هذا السياق، تتفوق الخسائر المدنية المستمرة والخطيرة على القيمة العسكرية للأهداف المزعومة بشكل كبير. ويؤدي الحصار المستمر للتحالف إلى تفاقم الأزمة، مما يحد من وصول الوقود والمساعدات، مما يؤدي إلى انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي. وبالتالي، فإن تجاهل هذه الانتهاكات يهدد بتطبيع الإفلات من العقاب في الحروب، وتقويض حماية المدنيين، وإضعاف أسس القانون الإنساني الدولي في النزاعات المستقبلية.

 

خطاب حقوق الإنسان مقابل الواقع

 

إن الخسائر المدنية المستمرة في اليمن هي نتيجة سلوك التحالف والدعم المُمكّن الذي تقدمه جهات فاعلة دولية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. على الرغم من برامج التدريب الهادفة إلى الحد من الأضرار المدنية، لا تزال غارات التحالف الجوية تُسبب وفيات وإصابات جسيمة في صفوف المدنيين.

 

فمنذ عام 2015، قُتل أو شُوِّه أكثر من 19200 مدني، من بينهم أكثر من 2300 طفل، جراء غارات التحالف الجوية وحدها. وقد وُثِّقت استهدافات التحالف الممنهجة للبنية التحتية المدنية، مثل المستشفيات والأسواق ومحطات المياه.

 

قدّم الداعمون الدوليون، وتحديدًا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أسلحةً، بما في ذلك قنابل MK-82 وذخائر دقيقة التوجيه، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية عسكرية ودعم لوجستي. وقد مكّن هذا الدعم التحالف من مواصلة حملته الجوية، التي انتهكت القانون الدولي الإنساني مرارًا وتكرارًا.

 

ويشير استمرار سقوط الضحايا المدنيين، رغم التدريب والرقابة، إلى درجة من التواطؤ من جانب هذه الدول الغربية في جرائم حرب محتملة. فعلى سبيل المثال، في عامي 2024 وأوائل 2025، كانت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مسؤولة عن حصة متزايدة من الخسائر المدنية الناجمة عن الغارات الجوية، مع زيادة بنسبة 71٪ في الأضرار المدنية في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025 وحده.

 

يثير هذا السلوك المزدوج للتحالف، المتمثل في المسؤولية المشتركة، وتمكين الدعم الخارجي، تساؤلات جدية حول مصداقية خطاب حقوق الإنسان الغربي عالميًا. فمن جهة، تدافع هذه الدول علنًا عن حقوق الإنسان والقانون الدولي. ومن جهة أخرى، تُسهم مبيعاتها من الأسلحة ومساعداتها العسكرية بشكل مباشر في الانتهاكات على أرض الواقع.

 

 ويُقوّض هذا التناقض سلطتها الأخلاقية ويُضعف الجهود العالمية لإنفاذ المساءلة. كما أن عدم وقف مبيعات الأسلحة أو ربط الدعم بالامتثال الصارم للقانون الدولي الإنساني يُقوّض الثقة في التزامات الغرب بحقوق الإنسان والعدالة الدولية.

 

وفي الختام، لم تُلحق الحملة العسكرية والحصار الذي فرضه التحالف بقيادة السعودية على اليمن معاناةً شديدةً بالمدنيين وانتهك القانون الإنساني الدولي فحسب، بل زعزع أيضًا استقرار مستقبل اليمن. ومن الناحية السياسية، أدى الصراع المطول إلى تعميق الانقسام وتمكين الفصائل المتنافسة مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، مما قوض آفاق الوحدة الوطنية.

 

كما غذّت الأزمة الإنسانية، التي اتسمت بالمجاعة والمرض والدمار، التطرف، مما هيأ الظروف المناسبة لتجنيد المتطرفين. ومن الناحية الاقتصادية، أدى الحصار إلى شلل البنية التحتية، مما أخر إعادة الإعمار والتنمية لعقود. ولعكس هذا المسار، لا بد من اتخاذ خطوات فورية تشمل رفع الحصار، ووقف الغارات الجوية، وفرض المساءلة الدولية لتمكين السلام المستدام والتعافي.

 

من الأقوال إلى الأفعال

 

أدت أفعال التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، من غارات جوية عشوائية وحصار متواصل، إلى انتهاكات واسعة النطاق للقانون الدولي الإنساني، مع استهداف متكرر للبنية التحتية المدنية، وتفاقم المجاعة والأمراض بسبب الحصار.

 

ولمعالجة هذا الوضع، لا بد من تفعيل الآليات القانونية الدولية: ينبغي على المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم حرب محتملة بموجب المادة 8 من نظام روما الأساسي، بينما يتعين على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فرض حظر على توريد الأسلحة وفقًا للمادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة. إن عمليات نقل الأسلحة المستمرة من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تنتهك معاهدة تجارة الأسلحة، ويجب وقفها.

 

كما يجب رفع الحصار، الذي يرقى إلى مستوى العقاب الجماعي بموجب المادة 33 من اتفاقيات جنيف، لاستعادة وصول المساعدات الإنسانية الأساسية. وعلى الصعيد الدبلوماسي والإنساني، يجب على الدول المانحة تلبية نداء الأمم المتحدة للمساعدات بقيمة 4.3 مليار دولار، بينما ينبغي على الجهات الفاعلة الإقليمية، مثل مجلس التعاون الخليجي وسلطنة عمان، الاستفادة من انفراجة العلاقات السعودية الإيرانية في عام 2023 لبدء مفاوضات سلام مستدامة مع الحوثيين.

 

يجب دعم منظمات المجتمع المدني، مثل "مواطنة"، في توثيق الانتهاكات والسعي لتحقيق العدالة، مع تقديم تعويضات للضحايا، بما يتماشى مع مبادئ الأمم المتحدة، بتمويل من أرباح مبيعات الأسلحة المُعاد توجيهها. يتطلب تحقيق السلام والاستقرار طويل الأمد في اليمن إنهاء الإفلات من العقاب، واستئناف المساعدات الإنسانية، وتعزيز إعادة بناء سياسي شامل لمواجهة المزيد من التطرف وانهيار الدولة.

 

يمكن الرجوع للمادة الأصل: هنا Modern Diplomacy


مقالات مشابهة

  • شريط الأشباح رقم 10 الذي خاضت به أميركا الحرب النفسية مع فيتنام
  • جامعة أسيوط تشهد انطلاق المؤتمر السنوي الثامن عشر لجمعية جنوب مصر للسكر والغدد الصماء
  • تكاثر الاضطرابات النفسية في إسرائيل بفعل الحرب
  • مؤتمر الصحة والسلامة المهنية: تعيين الكوادر المتخصصة
  • عندما تغفو العدالة.. الحرب المنسية على المدنيين في اليمن (ترجمة خاصة)
  • الطلاب والأطباء الجدد جنود مجهولون لإنقاذ جرحى غزة
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • مدير بنك النيل يمتدح توجه الدولة في التعامل عبر التطبيقات البنكية
  • إسرائيل تقتل طالب طب غزيا متفوقا وشقيقه يروي ما حدث
  • برادة وزير التربية يترحم على أستاذة أرفود و يربط انتشار العنف المدرسي بالأمراض النفسية