سودانايل:
2024-07-03@11:47:10 GMT

الطب في زمن الحرب !!!

تاريخ النشر: 11th, April 2024 GMT

بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان
تدقيق د. عبد الرحمن حمد

" بعض المهن و الحرف تفعل أثراً في أصحابها ، الأطباء مثلاً على وجوههم شيء ما ، كأنهم يعرفون سرّاً لا يعرفه بقية الناس ، ربما لكثرة ما رأوا من تقلبات الحياة و الموت "
مقتطف من كتابات الأديب الراحل الطيب صالح

في سوداننا الحالي نعايش خلال السنوات الخمسة الماضية مخاض ولادة سودان جديد في ألم و معاناة استطالت بعد أن بدأت بثورة عارمة ضد الظلم في ديسمبر 2018 سقط فيها نظام الرئيس البشير بعد اعتصام ساحة القيادة العامة الشهير و الذي استمر عدة أشهر انتهى بمجزرة مؤلمة في صباح يوم عيد الفطر خلّفت ورائها مئات من جثث الشباب الذي قٌتلوا في جريمة نكراء استمرت لعدة ساعات من قبل جنود من الجيش و الأمن و الدعم السريع قضى الكثير من الشباب نحبَهم فيها ليلة آخر يوم من رمضان و هم يتسربلون بأستار القيادة العامة متوسلين لجيشهم أن يذود عنهم ، لكن قادته كانوا يتابعون المجزرة خلال بث مباشرة في كابينة قيادة الجيش الأمر الذي خلق فجوة نفسية عميقة بين جيش البلاد و شعبه الذي شاهد فلذات أكباده تُنحر بدم بارد تحت مرأى و مسمع من المنوط بهم حماية المواطنين و الدولة و الدستور ، هذه القطيعة النفسية في تقديري هي الجدار النفسي الشاخص بين جزء كبير من الشعب لتأييد الجيش في المعركة الحالية ضد بربرية الجنجويد المعروفة بالضرورة ، حيث تقول العرب في وصف الغدر "كيف أعاودك و هذا أثر فأسك !!!".



رغم أن شعبنا لم يستسلم لهذه الجريمة و انتصر في الثلاثين من يونيو 2019 إلا أن ما تلى ذلك من كوارث لم يخطر على بال أكثرنا تشاؤماً ، فلم يلبث العام الجديد أن بدأ حتى هاجمت جائحة الكورونا البلاد مخلّفة الآلاف من الضحايا و خسر القطاع الصحي فيها أعداد كبيرة من الكوادر الصحية المختلفة ، أطباء و ممرضين و الكثير من الكوادر الطبية المساعدة ، و من نافلة القول أن هذه الكوادر لم تطالب الجيش أو أي كتائب مستنفرة للقيام بهذا الواجب المقدّس بل تقدموا الصفوف بشجاعة و نكران ذات ، و قضى الكثيرين نحبهم ، رغماً عن شح الإمكانيات و تربص قوى الثورة المضادة بكل ما تقوم به الحكومة المدنية من مجهودات. تبعت ذلك مأساة السيول و الأمطار فزادت الأمور ضِغثٌ على إبالة و تكالبت المصائب على بلادنا المكلومة و في ظل كل ذلك كان العبء أكثره على المغتربين و القوى المدنية و المهنية ، خاصة المغتربين الذين كانوا يضاعفون الدعم المادي المباشر من مدخراتهم الضئيلة أو عبر المهنيين حول العالم الذي لم يألوا جهداً في إرسال المعينات و فتح المستشفيات في بعض المدن أو إعادة تأهيلها في مدن أخرى. كما قامت بذلك مؤسسة سابا في أمريكا في مدينة مدني بافتتاح مستشفى خيري كامل أو ما قامت به رابطة المهندسين السودانيين في قطر من تأهيل مستشفى مروي بتبرع سخي بتكلفة بلغت 371 ألف دولار مؤخراً و ذلك على سبيل المثال لا الحصر.

و لكن الكارثة الكبرى كانت حرب 15 إبريل 2023 و التي ستكمل عامها الأول بعد عدة أيام من الآن ، ذلك أنها خلقت أكبر حالة نزوح داخلي و خارجي في العالم الحديث ، بسبب الحرب حيث ارتحل حوالي ربع سكان البلاد (عشرة مليون شخص) نصفهم من العاصمة الخرطوم إلى مدن أخرى ، و ترك 19 مليون تلميذ مقاعد الدراسة ، و يتعرض الآن ربع مليون شخص لخطر الموت جوعاً خلال أسابيع ، خلّفت هذه المأساة ضغوطاً كبيرة على كل الخدمات خاصة الصحية منها ، ففي أول أسابيع الحرب مات حوالي 60 شخصاً من مرضى الغسيل الكلوي في مدينة الجنينة وحدها ، و لا نعلم عدد من فقدوا أرواحهم بسبب تلف مخزون الإنسولين في معظم مخازن العاصمة خاصة إنسولين الأطفال الذي فُقد معظمه في الأسابيع الأولى لهذه الحرب جراء دمار أنظمة التبريد ، لقد تصدّى المهنيون و في مقدمتهم الكوادر الصحية و على رأسها الأطباء بكل ما يملكون من طاقات و تبرعات و علاقات لوجستية في رفع المعاناة عن كاهل أهلنا في البلاد ، بمشاريع متعددة في المعابر الحدودية أو دعم الكوادر الصحية في المستشفيات الولائية.

و بالطبع فإننا هنا لسنا (مشحودين على أهلنا و بلادنا) و ما قمنا به كأطباء و مهنيين سواء في قطر أو حول العالم مسئولية لا نتهرّب منها لكن ينبغي إدراك الآثار العميقة للعمل لساعات طويلة تحت ضغوط عمل متعددة لحل مشاكل معقدة و أخرى غير قابلة للحل ، لأنه ليس دور المهنيين أن يقوموا بأعمال الدولة ، و الروابط المهنية هي روابط دعم فني و ليست منظمات خيرية في الأساس ، كل تلك الضغوط تترك جراح غائرة على الأطباء السودانيين النفسي و المهني ، ذلك أن مواصلة الطبيب للعمل لساعات طويلة حتى بعد إنتهاء ساعات عمله الرسمية عبر العيادات الإلكترونية التي تصل إليها آلاف الاستشارات لهو أمر جلل و يكثّف الضغوط النفسية على الكوادر المتطوعة في هذا العمل و قد يؤدي إلى حالات إكتئاب حادة قد تصل إلى مرحلة الاحتراق المهني ، في ظل كل ذلك يظل الطبيب السوداني في المهجر عنوان أسئلة دائمة من محيطه الاجتماعي و الأسري ، وقلّما يأتيك اتصال يسأل عن حالتك النفسية أو الصحيّة بل أن البعض قد يطلق العنان لابتسامة متهكمة أن أخبرته أنك كنت مريضاً قائلاً " حتى أنتو بتمرضوا !!! " ، في واقع الأمر تفيد الإحصائيات العالمية أن عُمر الأطباء المتوقع أقل من متوسط عمر السكان بعدة سنوات حسب البلد المعين و قد يشكل نقصاً بحوالي 10 سنوات في الهند مثلاً ، هذا و يختلف العمر المتوقع للطبيب إحصائياً حسب التخصص ، فالتخصصات الأكثر توتراً و المرتبطة بمناوبات ليلية متواصلة لها آثار أكثر سلبية عن التخصصات التي لا تتطلب تدخلات طارئة.

لقد تنبّهت المؤسسات المهنية المختلفة لطبيعة الضغوط النفسية المصاحبة لمهن معينة ، ففي بعض الدول يسمح للإطفائيين بالتقاعد المُبكر بسبب طبيعة الإرهاق الجسدي و السهر المتواصل ، كما تعتني الجيوش العالمية بمنسوبيها عبر برامج إعادة تأهيل نفسي متطورة خاصة لأولئك العائدين من المعارك العنيفة ، حتى لا يتحولوا إلى مدمنين أو مجرمين ، لذا بزغ إلى الوجود تخصص الصحة المهنية ، كما ظهر مفهوم دعم من يقدمون الدعم ، إذ بات واضحاً أن وجود المرء في الخطوط الأمامية في الكوارث و الحروب قد يشكل عليه ضغوطاً قد تفقده حتى القدرة على التمييز و التحليل ، من الأمور الصعبة على ممارسي المهن الصحية خاصة الأطباء طبيعة الالتزام المهني الذي يفرض على الأطباء التعامل مع سرّية معلومات المرضى بدقة شديدة لأن الجهات الرقابية للمهنة قد تفصل الطبيب من السجل المهني لو أفشى بالخطاء معلومة طبية خاصة بالمريض حتى و لو من باب التنفيس عن الضغوط المهنية ، و قد عبّر لي أستاذي في طب الأسرة في هولندا د. فريتس فان أكستر في بدايات العام 2012 بقوله " نحن كأطباء أسرة نعيش حالة نفسية أشبه بالانفصام الشخصي أو الحياة بشخصيتين منفصلتين" ، لذا نجد أن المستشفيات في العالم الأول تشكل لجان من الأخصائيين النفسيين لدعم هؤلاء الأطباء في حالات الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب الحاد ، الاحتراق المهني ، أو الخوف.

أختتم قائلاً إن المهنيين السودانيين و من بينهم الأطباء هم المنوط بهم إعادة بناء بلادنا بعد محنتها هذه ، لكننا نحتاج أن نتفهم الظروف المهنية و النفسية المعقّدة التي يمر بها الأطباء حالياً جراء تراكم الضغوط عليهم بوصفهم في الخطوط الأمامية لتخفيف تداعيات الحرب على أهلهم و بلدهم ، لذا فرفقاً بمزاولي هذه المهن الحساسة ، و الرجاء تفهم الطلب المتزايد على خدماتهم و نصائحهم المهنية فمعظمهم يستقبل ما لا يقل عن عدة مكالمات يومياً تتعلق بقرارات صحية كبيرة ما يجعل توازنه المهني و الأسري على المحك. لكنهم بالطبع شيالين تقيلة خاصة في وقت الحوبة.

بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان
ملحوظة قام الدكتور عبد الرحمن حمد استشاري الطب الباطني بتنقيح هذا المقال فله مني كل الشكر و الامتنان.

amjadnl@yahoo.com

11 إبريل 2024

   

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

الإعلام التونسي.. تحديات المهنية وسط العواصف السياسية

مقلقة وحزينة هي الأخبار الواردة من تونس هذه الأيام عن أوضاع الإعلام في تونس، ولا يعني ذلك أن أوضاعه من قبل كانت وردية في الماضيَين: القريب والبعيد، إلا أنّ مؤشرات متضافرة تقول إن التحديات الراهنة التي يمر بها تبدو أهم وأخطر من أي وقت مضى.

مشهد معلول

بين مهوّل ومهوّن يمكن القول إن الخوض في غمار المشهد الإعلامي في تونس يجعل أي مقاربة عرضة لنيران متباينة تصدر عن الفاعلين في المجال الإعلامي بنفس القدر الذي تصدر فيه عن دوائر ظاهرة وخفية تعتبر الإعلام والعاملين فيه من بين أهم رهاناتها.

في محاولة للهرب من دوامة الاستقطاب الداخلي الحاد يمكن أن نحيل على تقريرَين صدرا قبل أسابيع عن منظمتَي العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، أجمعا على أن الإعلام في تونس يتعرض لما وصفته المنظمتان بالتصعيد من قبل السلطات التونسية؛ لقمعها الإعلام وحرية التعبير، خاصة في الأسابيع الأخيرة.

منظمة العفو الدولية قالت إن "السلطات التونسية تقضي منهجيًا على آخر مكتسبات ثورة ألفين وأحد عشر، والمتمثلة في حرية التعبير والصحافة قبل الانتخابات".

في هذا الصدد تشير المنظمات الحقوقية، ومن قبلها نقابة الصحفيين التونسيين إلى ما تعتبره العصا القضائية الغليظة التي تستعملها السلطات التونسية ألا وهي المرسوم 54، ذلك الذي بات منطلق ملاحقات قضائية طالت وجوهًا إعلامية بارزة يجمع بين أغلبيتها الساحقة انتقاد سياسات الرئيس التونسي قيس سعيّد.

يتعلق المرسوم 54 المثير للجدل وَفق منطوقه بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، ويتعرض من تتم إدانته بهذا المرسوم لعقوبات قاسية للغاية تصل حد عشر سنوات سجنًا وغرامات مالية ثقيلة.

في كل الأوقات التي مر بها هذا الجدل، كان الرئيس سعيد يؤكد أن الحريات العامة والإعلامية مكفولة في تونس، لكن ذلك لا يعفي من وجهة نظره من يتعمد نشر أخبار زائفة والنيل من ذمم الناس وثلْبهم انطلاقًا من وسائل الإعلام التقليدية أو مواقع التواصل الاجتماعي من الامتثال للقوانين.

طرح يرد عليه منتقدوه بملفات لملاحقات قضائية انبَنَت على مجرد تدوينات على موقع فيسبوك، تتضمن معارضة لسياسات الرئيس سعيد ولأداء الحكومات التي شكلها في ظل صلاحيات شبه مطلقة أسندها إلى نفسه بدستور هو من كتبه.

هكذا جرى الأمر من وجهة نظر هؤلاء المنتقدين مع عدد من الصحفيين، أبرزهم: محمد بوغلاب، ومراد الزغيدي، وبرهان بسيسي، وزياد الهاني، إلا أن المرسوم 54 اتسع في الملاحقات التي تستند إليه ليشمل مدونين ومواطنين عاديين وصل عددهم إلى عشرات، وسط تحذيرات من استفحال التأطير الأمني والقضائي للواقع التونسي وَفق هوى الرئيس سعيّد وأنصاره.

سياق أوسع

في الوقت الذي يذكر فيه المدافعون عن الحريات الإعلامية في تونس أنّ القوانين المعمول بها منذ سنوات تشمل ما قد يصدر عن الإعلاميين من تجاوزات، مؤكدين أن ما يرونه في الواقع إنما هو سياسة لتكميم الأفواه ومحاصرة الأصوات المستقلة، ترتبط بالأجندة السياسية والانتخابية للرئيس سعيد وتتصاعد مع اقتراب البلاد من موعد انتخابي رئاسي، في هذا الوقت تحيل مقاربات أخرى على سياق أوسع تمامًا، كما هو الحال في المجال السياسي مع مراعاة الفارق الجوهري بين المجالين.

تقول تلك المقاربات وبعضها أكاديمي، كما هو الحال في ورقات بحثية مهمة، قدمها الدكتور صادق الحمامي إن مشاكل الإعلام في تونس تعود إلى جذور مهنية وقانونية وسياسية ليست بنتَ اليوم ولا حتى الأمس القريب فقط.

تشير هذه الزاوية في التناول إلى الأدوار التي لعبها الإعلام في تونس في حقبتَي الرئيسين الراحلين: بورقيبة، وبن علي، وهي مساحة زمنية مترامية الأطراف يقصر المقام عن الدخول في تفاصيلها، غير أن الواضح منها هو انقسام التجارب الإعلامية إلى قسم أعظم سار في ركاب السلطة وأنفق عقودًا في الترويج لسياساتها ومهاجمة خصومها، حتى إذا جاءت ثورة ألفين وأحد عشر كان ذلك الإعلام محل هجوم من قبل الثائرين بوصفه واجهة للنظام القديم وبؤرة لجمع غفير من الانتهازيين والمتسلقين المستعدين لبيع ذممهم لكل مشترٍ.

في المقابل كانت هناك تجارب قليلة لما يمكن وصفه بالإعلام المعارض، وهو الذي دار في فلك أحزاب وشخصيات معارضة فتمت محاصرته وقمعه بالقدر الذي كان يتعرض له أولئك المعارضون من قمع، وهنا لنا أن نذكر دون حصر تجربة جريدة "الموقف" لسان الحزب الاشتراكي التقدمي.

والملاحظ هنا هو أن الإعلام الرسمي والمعارض من حيث البنية العميقة كانا وجهين لعملة واحدة، حيث كانا يلعبان دورًا وظيفيًا على هامش المعركة السياسية في شكل سلاح يحاول به أصحابه كسب معركة المعلومة واستمالة العقول والقلوب.

ثالث مرفوع

الثالث المرفوع تقريبًا في هذا المشهد كان الإعلام المهني المستقلّ، ذلك أن الساحة التونسية لم تفرد كبير مساحة لتجارب متحررة من الغرض السياسي المباشر، لتظهر عناوين من قبيل مجلة "المغرب العربي" وكذلك مجلة "حقائق" ومن قبلهما جريدة "الرأي" التي مثلت بارقة سرعان ما قام النظام البورقيبي بوأدها في المهد.

من هذا المنظور يمكن القول إن ثورة ألفين وأحد عشر مثلت فرصة تاريخية للإعلام التونسي في اتجاهات عدة، أهمها مكاشفة ومحاسبة تجارب الماضي بما يقود البيت الإعلامي التونسي إلى تطهير نفسه من فلول المأجورين الذين كانوا في واقع الأمر مخبرين وموظفي دعاية لدى الدكتاتورية.

ومنها أيضًا فتح ملف الإعلام على حوار وطني معمق يتناول كيفية التأسيس لاستقلاليته تجاه بقايا النظام القديم والأحزاب السياسية ورأس المال الذي توارى إلى حين تحت وطأة الأحداث ليعود شيئًا فشيئًا وينتبه إلى محورية دور الإعلام في تشكيل ملامح عشرية الانتقال الديمقراطي وتوجيه المزاج العام للتونسيين.

خرج على الناس في بواكير الثورة "إعلاميون" قدّموا اعتذاراتهم للشعب التونسي على ما اقترفوه خدمة للدكتاتورية وسارعت واجهات إعلامية إلى الانقلاب على تاريخها في تقديم تلك "الخدمات" بالانفتاح على مطالب الناس وعلى المعارضين تستعرض قصصهم، كاشفة المستور من "غسيل" نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

ومثلما انزلقت الساحة السياسية إلى استقطاب علماني – إسلامي أسّس لانقسامات خطيرة حكمت لاحقًا على الانتقال الديمقراطي بالتعثر مع سبق الإصرار والترصّد، سارع المشهد الإعلامي هو الآخر إلى الارتماء في أحضان الأجندات، وشرع بلعب دور أخطر من الذي كان يلعبه زمن الدكتاتورية، وذلك بخلط الحق بالباطل في كثير من الملفات، ولم يعد سرًا في تونس أن إعلامها الذي بات يتمتع بسقف عربي غير مسبوق في الحريات الإعلامية لم ينتج في الحقيقة تجارب رائدة تعكس الأفق الذي حاولت الثورة في تونس التوجّه نحوه.

إعلام الكراهية!

رغم وجود أصوات وجهات دعت طويلًا إلى ضرورة اغتنام الفرصة والترفع عن المعارك الأيديولوجية الضيقة، فإن تلك الأصوات بقيت هامشية وكانت المفارقة هي أن صعود البلاد في ترتيب الحريات الإعلامية كالذي تنشره منظمة "مراسلون بلا حدود" قابله سقوط المضمون الإعلامي في تونس في مطبات خطيرة، بينها خطاب الكراهية الذي تصاعد بشدة من منابر الإعلام وصفحاته سواء أكانت تقليدية أم مواقع للتواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي وثقه تقرير أعدته المجموعة العربية لرصد الإعلام، بالشراكة مع "المجلس الوطني للحريات في تونس" و"شبكة تحالف من أجل نساء تونس"، جاء فيه أن "الإعلام التونسي بات يلعب دور التحريض وتنمية مشاعر الحقد والكراهية بين مختلف أطياف الشعب التونسي".

يكفي أن نقف عند واحد من مخرجات ذلك التقرير الذي مر بالساحة الإعلامية مرور الكرام تقريبًا، فلقد أشار إلى أن "الصحف الناطقة باللغة العربية نشرت نحو 90% من خطابات الكراهية في حين اكتفت مثيلتها الناطقة بالفرنسية بالنسبة المتبقية. وتضمن حوالي 13% من هذه الخطابات دعوات ضمنية أو صريحة للعنف".

الغريب هو أن تقريرًا آخر تناول نفس هذه الظواهر وبعد قرابة عقد من الانتقال الديمقراطي وجد نفسه أمام نفس الاستنتاجات، رغم كل ما أدير من حوارات وعُقد من ندوات ودورات تدريبية للنهوض بواقع الإعلام، وتعزيز قيم المهنة والاستقلالية لديه، فها هو "مركز دعم التحول الديمقراطي" يقول في تقرير له نشره في مارس/آذار 2020 بعد أن سرد أرقامًا ونسبًا رصد بها رسوخ وتصاعد خطاب الكراهية في الإعلام التونسي؛ إن كل ما تمّ اتخاذه من قرارات وإجراءات لم يجعل ذلك الإعلام يتخلص من هذه الوصمة.

ثيران بيضاء

كثيرة هي "الثيران البيضاء" التي تدعي اليوم أن الإعلام التونسي أُكل يوم أُكلت هي، في إشارة إلى هذه الأسباب البعيدة والقريبة لما يمكن وصفه بالأزمة المزمنة للإعلام في تونس، غير أن الأكيد هو أن هذا الإعلام يعيش اليوم تحديًا مصيريًا وسط موجة الشعبوية التي ضربت تونس، كما هو الحال في بلدان كثيرة أخرى، وهو الأمر الذي يبدو أوضح على مواقع التواصل الاجتماعي، التي أخذت زمام المبادرة في احتكار الخطاب المنتج من رجل الشارع والموجّه إليه.

وإذا كان الإعلام التقليدي مسؤولًا عما ينشره ومعنيًا بمعايير المهنة وما يتعلق بها من قيم وقوانين، فإن العالم الافتراضي بات يزدحم بصفحات ومجموعات لا رقيب عليها ولا حسيب لها فيما تروجه من أخبار زائفة وثلْب لأشخاص وهتك للأعراض، وسط اتهامات للسلطات التونسية بممارسة الانتقائية خلال التعامل مع ذلك، في إشارة إلى حملات شيطنة وتشويه وهتك للأعراض شنتها صفحات تعلن الولاء للرئيس سعيد ومساندة مساره السياسي دون أن يتعرض أحد من المشرفين عليها إلى التحقيق والمساءلة اللهم إلا في سياق صراعات داخلية، ما يجعل الأمر في نظر منتقديه أقرب إلى تصفية الحسابات منه إلى الحرص على سلامة المناخ الإعلامي العام.

لا شك أن الأولوية هي اليوم للدفاع عن حرية الإعلام واستقلاليته، وكذلك الدفاع عن العاملين في المجال لحمايتهم من أي قمع يتوجه إليهم، غير أن المهمة الأصعب في الحقيقة تبقى ممارسة النقد الذاتي إلى أقصاه، للتخلص من سيطرة الأيديولوجيا  – خاصة الاستئصالية منها – على الإعلام والعمل النقابي الإعلامي، ذلك أن استمرار تلك الظواهر وتأجير الذمم لدكاكين السياسة والمال وللرهانات الرسمية والمعارضة، يسلب معركة الحريات الإعلامية أساسها الأخلاقي القيمي، ويفرغها من محتواها الراقي الذي يفترض به أن يكون إلى جانب الإنسان كيفما كان، وأن يبحث عن الحقيقة وينشرها بقطع النظر عن الأجندات، وأن يكون صوتًا لمن لا صوت لهم.

إنها مهمة فرسان أصحاب الجلالة ومعركتهم قبل أي طرف آخر، سواء أكان رسميًا أم غيره، والنجاح فيها سيعني الاستعصاء على أي محاولات للتدجين والتخويف والاستغلال.. وهذا حديث على بدئه عود.. يحيل على عامة المشهد التونسي وتحولاته المحتملة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • حظك اليوم برج الحمل الأربعاء 3-7-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي
  • حظك اليوم برج العذراء الأربعاء 3-7-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي
  • حظك اليوم برج الأسد الأربعاء 3-7-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي
  • «الصحة» تغلق 39 منشأة خاصة لعلاج الإدمان والطب النفسي بسبب المخالفات
  • «الصحة»: غلق 39 منشأة خاصة لعلاج الإدمان والطب النفسي لوجود مخالفات
  • إغلاق 39 منشأة خاصة لعلاج الإدمان والطب النفسي لوجود مخالفات
  • الإعلام التونسي.. تحديات المهنية وسط العواصف السياسية
  • التهيئة المهنية لذوي الهمم.. دراسة جديدة لـ معلومات الوزراء
  • استشاري في الطب النفسي: تهديد الأب لطفله بالقتل بكلمات مثل “ترا بذبحك”.. يجعل الطفل يعيش في صدمة نفسية تسبب له اكتئاب
  • يستغل الانتخابات الأمريكية ويحاول تجميل صورته.. نتنياهو يبحث عن «الجائزة الكبرى» وجملة مزايا في واشنطن!