الموضوعيَّة.. ثقافة في التلقّي
تاريخ النشر: 11th, April 2024 GMT
آخر تحديث: 11 أبريل 2024 - 11:02 صد. عبد العظيم السلطاني
الحديث عن الموضوعيَّة متشعب وله مداخل شتى، ولي فيها اليوم مدخل بعينه، فكأنّي أسجّل يوميات واقع، من جهة علاقته بالموضوعيَّة في زاوية بعينها.فلن أتحدّث عن الموضوعيّة بوصفها شرطا لازما للنقد الحديث. فهذا أمر مفروغ منه، وبغيابها يفقد النقد أيّ معنى لوجوده، ولنا أن نرفضه جملة وتفصيلا.
ولن أتحدّث عنها بوصفها مؤهِّلا من مؤهّلات التلقّي في نظرية القراءة في وضعها التجريدي المثالي. فهذا أيضا مفروغ منه، وفيه كلام كثير مبثوث في كتب النقد.ما يعنيني هنا أن أتحدّث عن حال “الموضوعيَّة” في واقعنا الثقافي بوصفها ثقافة في تلقّي النقد.اليوم، تنظر فلا تُخطئ عينك أديبا وقد عَلَتهُ غمامة الانغلاق، فانكفأ على ذاته، وضاق أفقه، فصار معجبا بأدبه كإعجاب الأم بابنها. لا يتقبّل من النقد كشف عيب، مهما كان ذلك النقد موضوعيا ومهمّا. وتراه يُقبل على “النقد” بكل جوارحه حين يكون مدحا له وإطراءً بأدبه. وتراه حريصا على وصف هذا النقد بأنّه نقد مهم، وكاتبه ناقد كبير، وقد يقول: كبير جدا!. وحين يقرأ نقدا أظهر له بعض عيب أو ضعف في أدبه، تجده وقد جحظت عيناه قليلا أو كثيرا، بحسب درجة ملامسة النقد لذلك الضعف أو تلك العيوب.
والمشهد نفسه يتكرر حين يكون منجز الناقد تحت مجهر نقد النقد. فمن امتدحه وأطرى بنقده، هو ناقد كبير، بل وكبير جدا. وقد تراه في حال يدعو إلى الشفقة، حين يكون نقد النقد موضوعيا يزدري المجاملة، وقد يُظهر عيبا هنا أو خللا هناك. وقد تراه متأهّبا للهجوم على ناقد النقد، وقد يقتصّ منه، في أمر حياتي بعيد ومختلف عن النقد وعالمه. وينسي أنّه كان ينقد ما يكتبه الناس من أدب، ويدعوهم إلى الموضوعيّة في تلقي النقد وتقبّله، حين يكون موضوعيا منصفا.
والمشهد يتكرر ثالثة، لدى القارئ العادي، بطريقة يبدو ظاهرها مختلفا عن الحالتين السابقتين، لكنه في الحقيقة يستند إلى العرق الثقافي نفسه. فقد تجده متنازلا عن مصلحته، لا ينظر إلى مقدار الفائدة التي يقدّمها له النقد. ويكتفي بتسقّط الأخبار، باحثا عن “هجوم” ناقد على آخر أو هجوم ناقد على أديب، أو ردّ أديب على ناقد حين لا يحتمل نقده. وقد شجّعه الفيس بوك وما سواه على ذلك. وهو هنا في حال من غياب الموضوعية في التلقّي. فلا يضع فاصلا بين النقد، وبين شخص الناقد وشخص المنقود. والمشكلة تتضح ببشاعة أكبر حين يكون المتلقي هذا صديقا لِمَن نُقد نصّه، فـينفعل وتستولي عليه ثقافة “الفزعة” لصديقه.
كل هؤلاء الذين وصفتُ (من أديب وناقد وقارئ) موجودون في كلّ العصور وشكى منهم غير واحد من الكتّاب. الجديد أنّهم اليوم تكاثروا وتناسلوا حتى صاروا السائد والمألوف وغير المستهجَن. هؤلاء محكومون بضمور ثقافة موضوعية التلقّي.وضعفها المميت هذا يفضي إلى “المطابقة”. فهم لا يفصلون حياة النصوص عن حياة الناس. فالكتّاب (أدباء ونقّاد) بشر، من لحم ودم ومشاعر ووعي متحرّك. وما أنجزوه مكتوبا ليس سوى نصوص من كلمات تعبّر عن أفكار. وقد يأتي زمن ينقد أحدهم ما أنجزه هو، وقد يسعى إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه.
حياتنا الثقافية بحاجة إلى ثقافة “موضوعية التلقّي”، لتروّض المتلقّي في كل حالاته وأشكاله وتدفعه إلى الإنصاف دفعا. فتروّض الأديب لقبول النقد الموضوعي المنصبّ على أدبه، وتروّض الناقد لقبول نقد النقد الموضوعي المبني على نقده، وتقول للقارئ العادي لا تبحث عن المتناكفين ولا تصطف مع هذا أو ذاك، بل ابحث عن فائدتك أنت المتلقي الحيادي، ابحث عن نقد ينفعك فيفتح لك أفقا، أو يصحح وهماً. وإن استهواك عالم الصراعات، ففي عالم السياسة متسع من فرجة أو حتى مشاركة، وإن استهوتك السطحية فلَكَ في عالم “المحتويات الهابطة” في مواقع التواصل آفاق رحبة.
نعم، لا توجد حلول سحرية للأمراض الثقافية، لكن فرصا هنا وهناك تبقى سانحة، في التدخّل لبثّ قيم وتشذيب أخرى، ثبت أنّها تحرّك السلبي وتُنتج القُبح. كغياب ثقافة موضوعية التلقّي التي أتحدّث عنها. فبغيابها يتمدّد وعي المطابقة بين النص ومُنتِجه. وبغيابها تنمو الطفيليات الثقافية، وتنمو “الشللية”، ويتسلّق الطارئون، وتُنقل ثقافة أشقياء الشوارع إلى الحياة الأدبية والثقافية.
ما ذنب النقد الموضوعي حين يقول لأديب إنّك كتبتَ نصّاً رديئاً وهذه الأدلة؟!. وما ذنب نقد النقد حين يقول لناقد إنّ نصّك النقدي أخفق في كذا وكذا، أو أنت سرقت كذا وكذا من جهود الناس، وهذه الأدلة؟! بأيّ حق وأيّ ثقافة سوية يصطف معه زمرة من أصدقائه “المثقفين” يدافعون عنه؟! لو كانت ثقافة موضوعية التلقي سلطة ثقافية حاضرة في نفوسهم لاصطفوا مع النقد وأدلته الدامغة. وحين يصطف المثقف مع اللاموضوعية فهو يتخلى عن صفة المثقف أصلا.
سأقول: نعم، لمن لا يحبّ الإعمام ولا يجده موضوعيا، وأنا مثله لا أحب ولا أرغب، و ليس لي أن أحكم حكما عاما وأطلقه على الناس في لحظة رفض واقع ثقافي مريض. لدينا أدباء يقبلون على النقد وينتفعون به، ولدينا نقاد يَتقبّلون نقد النقد وينتفعون به. ولدينا قرّاء يقدّرون الموضوعية في النقد ويبحثون عن الفائدة. كل هذا صحيح، ولكني لا أتحدّث عن أفراد. بل أتحدث عن “قيمة ثقافية” أجدها اليوم ضامرة منحسرة، وأريد لها أن تكون “عرفا” ثقافيا اجتماعيا، له سلطة حامية للنقد ومشجّعة له.
بغياب ثقافة موضوعية التلقّي لا يمكن للنقد أن يستمر في الإنتاج، وبغيابها لن تنفع المعرفة النقدية والتمكّن من مناهج النقد، ولن تنفع مهارة الناقد في استعمال كل آليات النقد الحديث. فالنقد غير المزيّف ماكينة رائعة، مهمّة للأدب وللنقد نفسه، يمكن أن تعمل في ظروف معيّنة، وقد تضعف أو تتوقف في ظروف أخرى. متخلّية عن دورها وفاعليتها حين لا تجد ظروفا ثقافية مواتية. فالنقد يكتبه نقّاد بشر، وهم مختلفون في قدرتهم على المواجهة والتصدّي. وقد يؤثرون السلامة وراحة البال، على كتابة نقد جاد يورثهم ضررا في حياتهم، ويعرّضهم لسخط الساخطين ودسائس الساقطين. وفي هذا التخلّي خسارة لحياة النقد والأدب.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: نقد النقد حین یکون
إقرأ أيضاً:
الشفافية الإدارية.. من الشعارات إلى الممارسات
عبدالعزيز بن حمدان بن حمود الإسماعيلي **
في زمن تتسارع فيه جهود التطوير المؤسسي وتتعالى فيه التطلعات نحو تحسين جودة الأداء الحكومي تبرز الشفافية الإدارية كقيمة محورية لا يمكن الاستغناء عنها لا سيما في ظل التوجه الوطني الحازم نحو تحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040".
إنَّ الشفافية ليست مجرد مصطلح يُدرج في التقارير والخطط الاستراتيجية؛ بل هي ممارسة يومية تتجلى في وضوح القرارات وسهولة الوصول إلى المعلومات ووضوح آليات المساءلة إنها تعني أن يعرف المواطن أين تُصرف الموارد وكيف تُتخذ القرارات وما مدى التزام المؤسسات بأدوارها ومسؤولياتها.
ومع أنَّ الخطاب الرسمي في السلطنة يؤكد على أهمية الشفافية إلّا أن الممارسة على أرض الواقع لا تزال تُواجه بعض التحديات فثقافة الخوف من النقد وغياب النظم المؤسسية التي تضمن الإفصاح والمساءلة تضعف من فرص ترسيخ الشفافية كقيمة إدارية حقيقية.
في هذا السياق تلعب وحدة متابعة تنفيذ رؤية "عُمان 2040" دورًا محوريًا، ليس فقط في رصد تنفيذ البرامج والمبادرات الوطنية؛ بل أيضًا في ترسيخ معايير الحوكمة والشفافية في أداء الجهات المعنية ولعل التقارير التي تصدرها الوحدة والمنصات الإعلامية التي تديرها واللقاءات الدورية مع مختلف الجهات تعكس وعيًا متقدمًا بأهمية هذا الدور.
وفي الإطار نفسه تؤدي أجهزة الرقابة في سلطنة عُمان، وفي مقدمتها جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة دورًا استراتيجيًا في تعزيز الشفافية من منظور إداري؛ إذ تسهم هذه الأجهزة في تقييم الأداء المؤسسي ورصد كفاءة استخدام الموارد وتحسين الإجراءات الإدارية مما يُعزز ثقافة الإفصاح والالتزام داخل المؤسسات ويأتي ذلك في سياق نهج وطني يرتكز على الحكم الرشيد والمساءلة والشفافية كقيم أساسية للإدارة العُمانية الحديثة وهو ما أكسب السلطنة سمعة مرموقة على المستويين الإقليمي والدولي.
ومن الأمثلة الجديرة بالتوقف عندها والإشادة بها ما يقوم به الادعاء العام من جهود في مجال الشفافية المؤسسية؛ إذ يعقد مؤتمرًا سنويًا يُسلّط فيه الضوء على أبرز مؤشرات الأداء وعدد القضايا وآليات المعالجة والإجراءات الوقائية. والمميز في هذا النموذج أن المؤتمر يُعقد بحضور المواطنين وممثلي وسائل الإعلام على الملأ ويكون برئاسة سعادة المدعي العام شخصيًا مما يعكس التزامًا حقيقيًا بالإفصاح ويُجسد الشفافية كشراكة بين المؤسسة والمجتمع، هذا النهج التفاعلي الذي يتبناه الادعاء العام لا يُعزز الثقة فقط؛ بل يرفع مستوى الوعي القانوني والرقابي، ويجب أن يكون نموذجًا يُحتذى به في بقية مؤسسات الدولة لتتحول الشفافية من تقارير مغلقة إلى حوارات مفتوحة مع الجمهور وقد بدأت بعض الجهات الحكومية الأخرى تنتهج هذا الأسلوب من خلال عقد مؤتمرات مُماثلة تتبنى ثقافة الإفصاح والشفافية.
إلّا أنَّ الوصول إلى "الشفافية الكاملة" يتطلب أكثر من أدوات وتقنيات؛ حيث إنه يتطلب ثقافة تنظيمية تؤمن بأنَّ الشفافية قوة وليست ضعفًا وأن الإفصاح عن التحديات هو أول الطريق نحو التطوير.
إنَّنا بحاجة إلى مؤسسات تُدرك أن الشفافية ليست عبئًا؛ بل فرصة لبناء الثقة مع المواطن، وتحقيق الكفاءة وتحفيز التنافسية الإيجابية بين الجهات. وعلينا أن نتجاوز مرحلة "الشفافية كشعار"، إلى مرحلة "الشفافية كسلوك"، وهي مسؤولية تبدأ من القيادات الإدارية العليا، وتنتقل عبر جميع المستويات.
ختامًا.. إذا أردنا لمؤسساتنا أن تكون جديرة بثقة المجتمع فعلينا أن نُكرّس الشفافية كجزء من هوية الإدارة في المؤسسات العُمانية الحديثة فالمجتمعات لا تنهض بالشعارات، بل بالممارسات اليومية التي تعكس القيم التي تؤمن بها.
** باحث دكتوراة في الإدارة العامة والتخطيط الاستراتيجي