موقع النيلين:
2024-09-16@18:17:22 GMT

المفسدون أقوياء … لأنهم لا ينامون

تاريخ النشر: 10th, April 2024 GMT


وما أن فرغنا من الحصة الأخيرة، حتى رمقني السيد “المدير” بنظرة حادة، كأنه يريد أن يبوح بسر أو يعلن أمراً، ثم توقف قليلاً وهو يتجول بنظره على فريق الأساتذة القدامى من حولنا، ثم عاد ليقول لي في عبارة قصيرة ولكنها صارمة: أنت يا فلان ستكون “ضابطاً” للداخلية هذا العام. وعقدت الدهشة لساني، ثم قلت له بعد فترة من الصمت: كيف أكون ضابطاً للداخلية ولم يمض علي في الخدمة سوى عام واحد، ولم أتعرف بعد على طبيعة العمل أو بيئته، وهؤلاء الأخوة جميعاً أكثر مني خبرة بشؤون الطالب وبإدارة الداخلية؟ أصغى السيدالمدير جيداً حتى حسبت أنه قد اقتنع باعتذاري، ولكنى فوجئت به يقول: يا أخي، دعني أقول لك بصراحة إن علاقاتنا الطويلة ببيئة العمل، و”خرمجتنا” مع هؤلاء وأولئك تجعلنا دائماً موضع اتهام، أما أنت فقادم جديد، ويمكنك أن تتابع القانون دون أن تشعر بحرج، فتوكل على الله وهذا أستاذ فلان سيساعدك إن احتجت إلى شيء.


نسيت أن أقول أن كلمة “مدير” هذه هي الكلمة الجديدة التي صارت ترمز منذئذٍ للسيد “ناظر” المدرسةالإبتدائية التي جئت لتوي للعمل بها. كان يكبرني بنحو من عشرين عاماً أو يزيد، إلا أنه كان رشيقاً في بدنه، أنيقاً في زيه، فناناً في الخط العربي، ويحب الفكاهة ولعب الكشتينة. كان الوقت مطلع السبعينات من القرن الماضي، وكانت ثورة مايو في عامها الأول، وكان الدكتور محي الدين صابر (رحمه الله) وزيراً للتربية وللتعليم، يقف على رأس “الثورة التعليمية”، يصدر قراراً تلو القرار: ضاعفوا المدارس، ضاعفوا القبول، أضيفوا فصلاً خامساً هنا، أدخلوا مادة التربية الوطنية هناك. كان الجو كله مشحوناً بالثورة، كنت تسمع وردى يغنى: أنت يا مايو الخلاص، يا جداراً من رصاص، وكنت ترى كتابة بالخطوط العريضة على حيطان المدارس: نميري/قذافي/ناصر، حرية/وحدة/اشتراكية، مكتوبة بخط أحمر قان، وكنت ترى الرئيس النميري ينزل من الطائرة قفزاً، لا ينتظر السلالم.
وقفت مع الواقفين في طابور طويل أمام مدرسة الخرطوم الثانوية القديمة، ولما جاء دوري سألني رئيس لجنة المعاينة: هل معك الشهادة السودانية؟ قلت له نعم، هل أنت مستعد للعمل في أي مكان خارج الخرطوم؟ قلت نعم، وانتهت “المعاينة”. (الحظ عبارة “أي مكان خارج الخرطوم”). ووجدت نفسي بعد أسبوع واحد في قطار الاثنين المتجه إلى الأبيض، إذ كانت قطارات الركاب ما زالت تعمل. ذهبت فوراً إلى معسكر التدريب المقام بالمدرسة الثانوية لبنات الأبيض. كانت الخطة هي أن عدداً من التربويين (الذين جيء بهم أيضاً على عجل) سيقومون باختصار نظريات التدريس والتربية وتدريبنا عليها في شهر واحد، يتم بعده توزيعنا على المدارس لنشرف على السّلم التعليمي الجديد. وقد وقع ذلك بالفعل، فصرت معلماً في شهر واحد، ثم تمت ترقيتي على يد الأستاذ “المدير” فصرت “ضابطاً” للداخلية في الشهور التي تلت ذلك، ألم أقل لك إننا كنا نعيش “ثورة تعليمية”؟
كانت المؤسسة التعليمية ترتكز على نظام الإعاشة الكاملة للتلاميذ، وكان نظام الإعاشة يرتكز على ثلاثة أركان: ضابط التعليم، ضابط الداخلية، المتعهد/المقاول. يطرح ضابط التعليم عطاء عاماً لتوريد مواد غذائية للمدارس التي يضمها مجلسه، يتقدم المقاولون بعطاءاتهم، ثم يوقع عقد مع صاحب العطاء الفائز يتعهد فيه توريد المواد المطلوبة وفقاً للأسعار التي اقترحها في عطائه. وإذا أنت تأملت هذه العملية على “الدفاتر الرسمية” لما راودك شك في قانونيتها وشفافيتها وعدالتها، أما إذا قدر لك أن تراها عارية على الأرض فستدرك أن الفرقبين “الدفاتر الرسمية” والحقيقة الأرضية كالفرق بين الليل والنهار.تقمصتني ذات يوم روح “الضابط”، فصرت أتجول على الناحية الخلفية من المدرسة، متفقداً أحوال الرعية التي صرت مسئولاً عنها رغم أنفى. رأيت أكواماً من حطب الحريق، فخطر لي أن أسأل “حميدان”، رئيس الطالب الذي كان يساعدني، ويتسلم المواد من المندوب المحلى للمتعهد: كم “قنطاراً” من الحطب تستخدمون في الإسبوع لأعداد الطعام؟ قال: ماذا تقصد بقنطار الحطب يا أستاذ؟ قلت ألا تزنون الحطب بالقنطار كما هو منصوص عليه؟ تبسم حميدان في أدب ثم قال لي: إن قريتنا هذه محاطة بالغابات، ومليئة بالحمير، والحطب عندنا لا يوزن يا أستاذ. راجعت قراءة “العقد” المبرم بيننا وبين المتعهد، فوجدت أننا نستلم “نظرياً” وبحسب نصوص العقد عدداً من “قناطير” الحطب في الأسبوع، وأن القيمة المنصوص عليها لقنطار الحطب تكاد تساوى قيمةالدقيق، إن لم تخني الذاكرة.
قلت لعل في الأمر سهو، ولكنه سهو أثار فضولي، فأخذت أراجع أسعار المواد الأخرى المقدمة لنا واحدة تلو الأخرى: الدقيق والبامية واللحم الطازج واللحم الجاف والبصل واللبن والصابون والجاز الأبيض، فوجدت عجباً، وجدت مثال أن “العقد” يتحدث عن دقيق الذرة، دون تحديد، مع أن أسعار الذرة تختلف باختلاف أنواعها، ووجدت أن المتعهد لا يورد إلا دقيق “الفتريتة”، والذي يقل سعره كثيراً عن الأنواع الأخرى من الدقيق، كما يقل كثيراً عن المبلغ الذي التزم به في العطاء. غير أن تصرفه هذا كان يعد سليماً من الناحية “القانونية” طالما أنه لا يمكن لأحد بالطبع أن ينكر أن الفتريتة نوع من الذرة. ثم وجدت العقد ينص على إيراد كذا كيلو من “اللحم الناشف” بينما يورد المتعهد كذا كيلو من اللحم الطازج، على ما بين الناشف والطازج من فروق كبيرة في الوزن والسعر.
قلت لحميدان: أي أنواع الدقيق تحبون؟ تبسم حميدان في أدب ثم قال لي: طبعاً “الدخن” يا أستاذ. فاتخذت قرارا بالأ نستلم من وكيل المتعهد إلا “دخنا”، طالما أن الدخن يمكن أن يعد أيضاً، وبحسب القانون، نوعاً من الذرة.ثم لاحظت بعد قليل أن الدقيق المقرر لإطعام عشرة تلاميذ مثال يكفي لإطعام عشرين حينما يتحول إلى عصيدة، مما يعنى أن لدينا فائضاً منه، فاتخذت قرار بتحويل قيمة الدقيق الفائض إلى بلح وحلوى، وفائض قيمة الحطب إلى لحم، وفائض البامية إلى صابون. فكان السيد “المدير” إذا ذهب يتجول في سوق القرية، سأله بعض آباء التلاميذ: ما بال أبنائنا في هذا العام يأتوننا بالبلح والحلوى وقد صارت لهم”كضيمات”؟ (يقصدون خدود ناعمة)، أما إذا سافر إلى المدينة في نهاية الشهر، سأله المتعهد في ثورة عارمة: من هذا “الحيوان” الجديد الذي جعلتموه ضابطاً للداخلية؟ والله لافعلن به كذا وكذا، ولأنقلنه إلى بلد طيره عجمي.
كنت أرى نفسي مصلحاً، وكنت أتوهم أن ضابط التعليم أقوى من المتعهد، وأنه سيقف معي إذا ساءت الأمور (لأنه يمثل الحكومة والثورة)، وأن أولياء أمور التلاميذ أقوى منهما معاً، وسيقفون معي لأنهم يمثلون ضمير الشعب، كنت أتوهم أنني في موقف قوى لأن القانون معي والشعب معي، ولكن لم يمر عام ثان إلا وجدت نفسي بالفعل على رأس قائمة المنقولين، نقلت إلى قرية نائية، طيرها عجمي، لا توجد بها عيادة ولا سوق ولا بئر، ولا يمكن الوصول إليها إلا على حمار. لقد أبر السيد المتعهد بقسمه، ولم يتدخل ضابط التعليم (وهو الذي يوقع على قوائم النقل بالنهار، ويتسامر مع المتعهد بالليل) ولم يحتج آباء التلاميذ، فالمتعهد في ذلك الزمان والمكان كان أقوى من الحكومة ومن الشعب. لقد شعرت، لا أخفى عليك، بغيظ داخلي لازمني طويلاً؛ ليس فقط لأني نقلت من قرية نائية إلي أخرى أشد نأياً، ولكن لأن المتعهد هذا يعد وجهاً من وجوه المدينة يتصدر المجالس، ويتبرع الأموال، ويشار إليه بالبنان.
كانت تلك هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالانتصار والهزيمة معاً، ولكني تعلمت درساً لن أنساه: إن المفسدين أقوياء لأنهم لاينامون، ولا يعمل أحدهم منفرداً، وإنما يعمل من خلال شبكة أو شلة أو شركة يلبس انواع فاخرة من الثياب، ويكثر من الولائم، ويحتفظ بخطوط مفتوحة مع كبار المسئولين والقانونيين الإعلاميين. أما المصلحون فهم ضعاف لأنهم يعملون فرادى، وينامون مبكراً.
كنت ساذجاً قليل التجربة، فلم أدرك شيئاً من هذا. لقد كان خطئي الأساسي في ذلك الزمان أن توهمت أن “القانون” وحده سيكون كافياً. كان على أن أدرك أن كثيراً من القوانين يكتبها المفسدون أنفسهم، وينفذها أصدقاؤهم، وأن كثيراً منها لا ينفذ إلا على المغفلين أو المعدمين، كان على أن أدرك أن القانون لا قيمة له إذا لم يسنده وعى جماهيري، فلو أنى مثال تواصلت مع المواطنين/الآباء، أصحاب المصلحة الحقيقية في الاصالح (كما كان يتواصل معهم المتعهد)، وقرأت عليهم العقد، وأوضحت لهم حقوق أبنائهم، وكشفت لهم ألاعيب المتعهد، وصديقه ضابط التعليم، لما وجدت نفسي مكشوف الظهر؛ ولو أنى أنشأت جمعية في القرية لحماية التلاميذ، أو للحفاظ على حقوق الطفل، لكان ذلك أكثر نفعاً على المدى البعيد من المعركة الخاسرة التي خضتها وحدي مع المتعهد.
لكن ألا يعنى ذلك أن أغير “وظيفتي”؟ ألا يعنى ذلك أن أتحول من معلم يحارب الجهل إلى سياسي يطارد المفسدين؟ لا، ليس هناك تحول، لأن محاربة الجهل ومحاربة الفساد لا ينفصلان، وفى مثل الظروف القاسية التي يمر بها شعبنا ينبغي على كل من تعلم حرفا أن يتحول إلى مصلح، و أن ينخرط ليس فقط في عملية إشاعة الوعي بين الجماهير المسحوقة التي توجد بأسفل الهرم، وإنما يحرضها ويحركها حتى تمسك بزمام الأمور، فتقطع دابر المفسدين الذين يتربعون بأعلى الهرم، أو يندسون في طبقاته الوسطى.
إن خطوة صغيرة في طريق الإصلاح قد يكون لها أثر كبير في إرباك الشلل الفاسدة، ومحاصرتها، والقضاء عليها، بشرط أن يستيقظ المصلحون، وأن يفتحوا الخطوط بينهم، وأن يفتحوا الخطوط مع الجماهير، فالجماهير أقوى من المفسدين.
ولا قوة إلا بالله

الدكتور التجاني عبد القادر حامد

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: أقوى من

إقرأ أيضاً:

أزمة السيادة الوطنية، الفيل الذي في الغرفة… (1)

مهدي رابح

في شهري سبتمبر وأكتوبر 2021م احتدمت الأزمة بين القوى المدنية المكونة لتحالف الحرية والتغيير والمشاركة في السلطة الانتقالية من طرف والمكون العسكري بشقيه الجيش والدعم السريع من الطرف الآخر لتبلغ قمة تعقيدها. وهي أزمة تركّزت بصورة أساسية حول المطالبة بتنفيذ ما نصت عليه الوثيقة الدستورية من استبدال الجنرال البرهان ونائبه حميدتي في رئاسة المجلس السيادي بالمدنيين وما يترتب علي ذلك من أحكام لسلطة الأخيرين السياسية ما قد يمكنهم من المضي قدما في عمليات إكمال تفكيك أركان النظام السابق واستعادة الأموال العامة المنهوبة وتدشين عمليات الإصلاح لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها القطاع الأمني والعسكري والخدمة المدنية، والتي يسيطر على مفاصلها عناصر الإسلامويين بصورة أساسية, وربما الإعداد لبقية عمليات التحول الديموقراطي المختلفة.

في تلك الفترة التي توسطت الخطوات الأخيرة في الإعداد لانقلاب ال 25 من أكتوبر، أي ما بين إعلان تكوين الواجهة المدنية للنظام الاستبدادي الجديد المنشود والمتمثلة في تحالف “مجموعة ميثاق التوافق الوطني/الكتلة الديموقراطية لاحقا” في الثاني من أكتوبر وبداية الاعتصام الشعبي المصطنع أمام القصر الرئاسي، والمموّل من قبل استخبارات الجيش والدعم السريع والمعروف باعتصام “الموز”، في السادس عشر من نفس الشهر، قام قائدان من الصف الأول للجيش والدعم السريع بزيارة سرية مشتركة إلى تل أبيب تُمثِّل في حد ذاتها مجموع تجليات تهرؤ أركان الدولة بسبب سيطرة كارتيل إجرامي على مصيرها، كارتيل هو اتحاد بين ثلاث منظومات إجرامية بكل ما تحمل الكلمة من معاني، قيادات الجيش وقيادات الدعم السريع والمركز الأمني العسكري للحركة الإسلامية.

الزيارة المذكورة، وحسب ما رشح عنها من معلومات مؤكدة بصورة لا يرقى إليها أي مجال للشك بتاتا، تمحورت حول إمكانية لعب إسرائيل لدور في عمليات تسويق الانقلاب المزمع لدى القوى الغربية الكبرى الداعمة للانتقال الديمقراطي. وكان مكمن ضُعف خطة التسويق تلك، إن جاز التعبير، هو اعتمادها على كذبة مركزية بلقاء أهم عناصرها هو ادعاء دعم بعض الشخصيات السياسية المدنية القوية المؤثرة لهذا الانقلاب كمخرج أوحد لما سمي حينها ب “الأزمة السياسية”، ما أدى إلى فشل الخطة بعد أيام قلائل عقب الرد على بعض الاستيضاحات العاجلة التي قدمت عبر القنوات غير الرسمية، وما أدى لاحقا أيضا، وبعد الانقلاب لإحكام العزلة الدولية على شريكي المؤامرة، الجيش والدعم السريع.

من الطبيعي أن يتبادر إلى ذهن القارئ/ة سؤال بديهي مشروع أرى أن أقوم بالرد المختصر عليه مباشرة قبل الدخول في متن المقال وهو من شقين.

“كيف تلعب إسرائيل مثل هذا الدور؟ وما مصلحتها في ذلك؟.”

تؤكد معطيات الواقع التي لا ينتطح حولها عنزان أن موقف عديد القوى العظمى “الغربية” من قضية وجود إسرائيل وضمان أمنها هو موقف تاريخي استراتيجي ثابت لا يتزحزح – بغض النظر عن مدى صوابه أو خطئه، فذلك مبحث مختلف – ويمثل لها أولوية قصوى تسبق أي أجندات أخرى، وهو ما يوفر للأخيرة سهولة استغلال القنوات الدبلوماسية المفتوحة والثقة المتبادلة مع تلك الدول القوية لتمرير أي رسالة تريدها، هذا فيما يتعلق بالشق الأول من السؤال. أما في الشق الثاني، فإن ارتباط مصلحة إسرائيل المباشرة بوجود نظم استبدادية خاضعة في محيطها العربي الإسلامي المعادي، مستعدة وقادرة عبر أدوات القمع المختلفة على فرض موقف رسمي ومتصالح مع التطبيع ضد تيار شعبي عارم وغير قابل لأن يتبدل بصورة كبيرة في المدى المنظور يجعل منها داعمة لأي خطوة في سبيل ترسيخ هكذا ديكتاتوريات، ذلك بالطبع على حساب أي تيارات ساعية لترسيخ نظم حكم ديمقراطية تعكس الإرادة الجماهيرية الحرة، وهو ما يفسر دعمها للجنرالين البرهان/حميدتي منذ وقت مبكر جدا، وبالمقابل استعداؤها للمدنيين الديموقراطيين. وليس أدل علي ذلك، وأبلغ من تصريح وزيرة الخارجية في الحكومة الانتقالية الأولى، السيدة أسماء عبدالله، معترفة بجهلها التام عن لقاء البرهان ونتنياهو في عنتيبي فبراير 2020م، برعاية من الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني.

باختصار بالغ، فإن الصفقة التي مهدت لزيارة تل أبيب المذكورة تتمحور حول تحقيق السلطة الديكتاتورية الجديدة المزمعة بقيادة البرهان وحميدتي لمصلحة إسرائيل في تنفيذ ما سمي حينها “صفقة القرن” أو اتفاقيات أبراهام الهادفة للتطبيع مع عديد الدول المصنفة عربية وإسلامية مقابل دعم انقلابهما على الفترة الانتقالية وتثبيت أركان حكمهما لاحقا.

إن عديد الأسئلة المهمة الأخرى المتفرعة من هذا الحدث ذي الدلالات الهامة وما أعقبه من أحداث جسيمة قد لا نجد لها إجابة مفصلة مطلقا مستقبلا نسبة للطبيعة السرية للتدخلات الخارجية في المشهد السياسي والأمني السوداني، كدور بعض الدول “الشقيقة” في هذه الزيارة مثلا، وهي دول علي علاقة وثيقة بإسرائيل، وعملت سوية أحيانا أو منفردة في أحيان أخرى وبصورة نشطة علي عرقلة الانتقال المدني، وعلى محاولات تثبيت نظم حكم عسكرية في السودان تدين لها بالولاء التام ثم لاحقا علي اشتعال الحرب واستمرارها، وما الزيارات الخارجية المختلفة التي قام بها كل من البرهان وحميدتي، أو من ينوب عنهما قبل ساعات من مجزرة الاعتصام المروعة في يونيو 2019م الذي يعد المحاولة الانقلابية الأولى، أو من الانقلاب الثاني في أكتوبر 2021م أو أخيرا حرب أبريل 2023م التي تعد محاولة الانقلاب الثالثة بخافية عن أحد، رغم ما وسعها من جهود مستميتة للاحتفاظ بها بعيدا عن أعين الرقابة الشعبية المتحفزة اليقظة. وما أقصده هنا بالانقلاب هو فرض واقع سياسي جديد بقوة السلاح.

ليس من العسير الوصول إلى الاستنتاج القائل بأن ما قام به شريكا الانقلاب سابقا وطرفي الحرب الحالية يعد عمالة في تعريفها البسيط أي سعي فرد أو مجموعة أشخاص صغيرة لتحقيق مصالحها الضيقة علي حساب المصلحة العامة، وعلى حساب أمن الوطن والمواطن عبر تنفيذ أجندات دول أجنبية، لكن الأهم من ذلك هو أن ذلك كان استمرارا لنمط تاريخي من تفريط النخب المتحكمة عبر أدوات القمع والعنف في سيادة البلاد علي قرارها وعلى أراضيها، وما أدل علي ذلك من الحقيقة التاريخية المثبتة بأن فقدان السودان لأجزاء من أراضيه لم يحدث إلا تحت حكم أحد الجنرالات، حلفا القديمة وآلاف الأميال المغمورة تحت مياه بحيرة ناصر إبان حكم الجنرال عبود، مثلث أليمي خلال حكم الجنرال النميري ثم الطامة الكبرى خلال حكم الجنرال البشير والإسلاميين، ما بين حلايب وشلاتين والفشقة وانفصال أشقائنا في جنوب السودان. في حقيقة الأمر وتحريا للإنصاف بين الأنظمة الديكتاتورية التي تعاقبت في حكم 55 عاما من تاريخ السودان، فإن البلاد لم تبلغ خصيصا في فقدانها لسيادتها وارتهانها للأجنبي، بعد الحضيض الأقصى التي بلغته عقب انقلاب برهان/حميدتي طبعا في 2021م، إلا خلال حكم البشير والمركز الأمني للحركة الإسلامية خلال فترة “ثورة الإنقاذ الوطني”.

لكن قبل أن أختم المقالة الأولى لهذه السلسلة ارجع بذاكرة القارئ قليلا لزيارة البشير “أسد افريقيا” المهينة والكئيبة لمدينة سوتشي في روسيا في ال 23 من نوفمبر 2017م، والتي طلب فيها الحماية من الرئيس بوتين، بصورة مقززة وذليلة شكلا ومضمون، مقدما الأراضي السودانية علي شواطئ البحر الأحمر عربونا لاستخدامها كقاعدة عسكرية مقابل مساندة روسيا له للاستمرار في الحكم.. فتأمّل.

الوسوممهدي رابح

مقالات مشابهة

  • ضابط من العنصر النسائي بشرطة عجمان تفوز بجائزة دولية
  • روضة الحاج: لستُ واللهِ يا بلادي بخيرٍ وسأبقى…حتى تكوني بخيرِ
  • ضابط من العنصر النسائي بشرطة عجمان تفوز بجائزة حماية ووقاية المرأة والطفل من العنف ضمن جوائز رابطة الشرطة النسائية الدولية IWAP
  • تونس والآفروسنترك … الغضب من قيس سعيد
  • وسائل إعلام عبرية: إصابة شرطي إسرائيلي جراء عملية طعن بالقدس المحتلة
  • أزمة السيادة الوطنية، الفيل الذي في الغرفة… (1)
  • فنان الشعب … رئيس وزرا رايح رئيس جاي / فيديو
  • زراعة الإنحطاط …!
  • ناشط رافق عائشة نور: سنواصل تضامننا مع الفلسطينيين لأنهم يستحقون الحرية
  • تبحث عن الراحة؟… المس الخشب!